الفصل الأول | ومـضـة الـبـدايـة |

122K 1.9K 212
                                        

{كل ما ظننّاه نهاية، هو عند الله بداية جديدة.
فلا تيأس، فإن رحمته أوسع من كل ظُلمة.}

صلِّ على رسول الرحمة والهُدى.

______________

ثمة لحظات في العمر لا تعلن قدومها...
تتسلل كنسمة هادئة، ثم تهدر كعاصفة، تُربك كل ما كنا نظنه مستقرًا.

الزمن لا يُشفى، ولا يُجيد النسيان كما نُجيد نحن الادّعاء. وما كان يبدو بالأمس صفحة طُويت، قد يُفتح اليوم من جديد... بخطٍ مختلف، وبقلمٍ لا يعرف الرحمة.

بعض المدن تحتفظ برائحتها حتى بعد أن تتغيّر معالمها، وبعض الأسماء تُمحى من الأوراق، لكنها تبقى محفورة في ذاكرة الغياب، تنتظر لحظة واحدة فقط...
لحظة ضعف، لحظة صدفة، لحظة "عودة".

الهدوء لم يكن يومًا علامة أمان... بل كثيرًا ما سبقَ العواصف الكبرى، التي تهدم ما ظنه الجميع حصنًا لا يُخترق. وها هو الهدوء يلفّ المكان الآن... كستارٍ أنيق يُخفي خلفه شيئًا لا يُشبه السلام.

في أماكن كهذه، لا تسير الخطايا في وضح النهار،
بل تزحف في الظلال، وتُولد الكارثة غالبًا من قلب الطمأنينة.

وهناك دائمًا من يُراقب بصمت.... يترقّب لحظة السقوط، أو لحظة الانتقام. فليس كل الغائبين قد رحلوا... وليس كل من تخلّوا، قد نسوا.

في حجرةٍ صغيرة، يغمرها ظلام خانق، لا يكسر حدّته سوى خيوط ضوء خافتة تتسلل عبر نافذة ضيقة، امتدت رائحة الرطوبة فيها كأنها وشم قديم على الجدران. هناك فراش مهترئ، غطاؤه الأبيض قد فقد لونه حتى صار كئيبًا بلون الرماد، وخزانة خشبية صغيرة تتآكل أطرافها، ومرآة مشروخة تعكس صورة المكان كأنه عالقٌ بين زمنين، وكأنها شاهدة صامتة على أسرارٍ أليمة ترفض أن تُروى.

كانت تلك الطفلة ذات الخمسة أعوام تستلقي فوق الفراش، تتشبث بشقيقتها الصغرى، نصفها الآخر، التي تسبقها في الولادة بخمس دقائق، لكنها صارت تكبرها بسنوات من الألم. حملت فوق كتفيها الصغيرتين عبء الحياة كلها، تحوّلت إلى درعٍ تحتمي به أختها، وإلى جدارٍ يقف في وجه العاصفة.

تأوّهت بألمٍ مكتوم حين حاولت التحرّك، لكن الألم اخترق جسدها كخناجر صغيرة مزروعة في لحمها، فقد كانت قد نالت نصيبها من ضربات والدها الوحشية، لمجرد أنها دمّرت إحدى وجبات الغداء، لعجزها الطفولي عن الوقوف طويلًا في المطبخ أو إعداد الطعام كالكبار.

أقسم والدها وقتها أن يُذيق شقيقتها أضعاف العذاب، لكن الصغيرة الكبرى وقفت أمامه، كحائطٍ صلب، فحملت هي الألم عن أختها، وضُربت بدلاً منها.

غصّت عبراتها في صدرها، وشعرت بحلقها جافًا كالصحراء، إذ كان جسدها يصرخ طلبًا للماء. انتصبت في جلستها ببطء، عيناها الواسعتان تلمعان تحت وهج الظلام، وترددت لحظات أمام باب الغرفة. كان والدها قد أمرهما منذ ساعات قليلة بعدم مغادرة الغرفة مطلقًا، مهددًا بعذابٍ يفوق ما ذاقته إن كسرتا أمره. لكنها لم تقدر على مقاومة العطش، فلم تجد بُدًّا من كسر أوامره.

الــورثــة | قـيـد الـتـعـديـل |حيث تعيش القصص. اكتشف الآن