٢٩

109 21 0
                                    

2 - الصحابة ورزية يوم الخميس

ومجمل القصة أن الصحابة كانوا مجتمعين في بيت رسول الله قبل وفاته بثلاثة أيام، فأمرهم أن يحضروا له الكتف والدواة ليكتب لهم كتابا يعصمهم من الضلالة، ولكن الصحابة اختلفوا ومنهم من عصى أمره واتهمه بالهجر، فغضب رسول الله وأخرجهم من بيته دون أن يكتب لهم شيئا، وإليك شيئا من التفصيل:
قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه، فقال: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، فقال عمر إن النبي قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتابا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله، قوموا عني، فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم (2) ولغطهم، هذه الحادثة صحيحة لا شك فيها، فقد نقلها علماء الشيعة ومحدثوهم في كتبهم، كما نقلها علماء السنة ومحدثوهم ومؤرخوهم، وهي ملزمة لي على ما ألزمت به نفسي ومن هنا أقف حائرا في تفسير الموقف الذي وقفه عمر بن الخطاب من أمر رسول الله، وأي أمر هو؟ أمر (عاصم من الضلالة لهذه الأمة، ولا شك أن هذا الكتاب كان فيه شئ جديد للمسلمين سوف يقطع عليهم كل شك).
ولنترك قول الشيعة: (بأن رسول أراد أن يكتب اسم علي خليفة له، وتفطن عمر لذلك فمنعه).
فلعلهم لا يقنعوننا بهذا الزعم الذي لا يرضينا مبدئيا، ولكن هل نجد تفسيرا معقولا لهذه الحادثة المؤلمة التي أغضبت الرسول حتى طردهم وجعلت ابن عباس يبكي حتى يبل دمعه الحصى ويسميها أكبر رزية; أهل السنة يقولون بأن عمر أحس بشدة مرض النبي فأشفق عليه وأراد أن يريحه، وهذا التعليل لا يقبله  وأكاد أعتقد بأن الأكثرية الساحقة كانت على قول عمر ولذلك رأى رسول الله صلى الله عليه وآله عدم الجدوى في كتابة الكتاب لأنه علم بأنهم لم يحترموه ولم يمتثلوا لأمر الله فيه في عدم رفع أصواتهم بحضرته، وإذا كانوا لأمر الله عاصين فلن يكونوا لأمر رسوله طائعين.
واقتضت حكمة الرسول بأن لا يكتب لهم ذلك الكتاب لأنه طعن فيه في حياته، فكيف يعمل بما فيه بعد وفاته، وسيقول الطاعنون: بأنه هجر من القول ولربما سيشككون في بعض الأحكام التي عقدها رسول الله في مرض موته.
إذ أن اعتقادهم بهجره ثابت.
أستغفر الله، وأتوب إليه من هذا القول في حضرة الرسول الأكرم، وكيف لي أن أقنع نفسي وضميري الحر بأن عمر بن الخطاب كان عفويا في حين أن أصحابه ومن حضروا محضره بكوا لما حصل حتى بل دمعهم الحصى وسموها رزية المسلمين.
ولهذا فقد خلصت إلى أن أرفض كل التعليلات التي قدمت لتبرير ذلك، ولقد حاولت أن أنكر هذه الحادثة وأكذبها لأستريح من مأساتها، ولكن كتب الصحاح نقلتها وأثبتتها وصححتها ولم تحسن تبريرها.
وأكاد أميل إلى رأي الشيعة في تفسير هذا الحدث لأنه تعليل منطقي وله قرائن عديدة.
وإني لا زلت أذكر إجابة السيد محمد باقر الصدر عندما سألته: كيف فهم سيدنا عمر من بين الصحابة ما يريد الرسول كتابته وهو استخلاف علي - على حد زعمكم -، فهذا ذكاء منه.
قال السيد الصدر: لم يكن عمر وحده فهم مقصد الرسول، ولكن أكثر الحاضرين فهموا ما فهمه عمر، لأنه سبق لرسول الله صلى الله عليه وآله أن قال مثل هذا إذ قال لهم إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا، وفي مرضه قال لهم: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده بدا، ففهم الحاضرون ومن بينهم عمر أن رسول الله يريد أن يؤكد ما ذكره في غدير خم كتابيا، وهو التمسك بكتاب الله وعترته، وسيد العترة هو علي، فكأنه صلى الله عليه وآله أراد أن يقول: عليكم بالقرآن وعلي، وقد قال مثل ذلك في مناسبات أخرى كما ذكر لمحدثون.
وكان أغلبية قريش لا يرضون بعلي لأنه أصغر القوم ولأنه حطم كبرياءهم وهشم أنوفهم وقتل أبطالهم، ولكنهم لا يجرؤون على رسول الله مثل عمر فقد كان جريئا على النحو الذي حصل في صلح الحديبية وفي المعارضة الشديدة للنبي عندما صلى على عبد الله بن أبي، المنافق، وفي عدة مواقف أخرى سجلها التاريخ، وهذا الموقف منها، وأنت ترى أن المعارضة لكتابة الكتاب في مرض النبي شجعت بعض الآخرين من الحاضرين على الجرأة ومن ثم الاكثار من اللغط في حضرة الرسول صلى الله عليه وآله.
إن هذه المقولة: جاءت ردا مطابقا تماما لمقصود الحديث، فمقولة:
عندكم القرآن، حسبنا كتاب الله مخالفة لمحتوى الحديث الذي يأمرهم بالتمسك بكتاب الله وبالعترة معا، فكأن المقصود هو: حسبنا كتاب الله فهو يكفينا، ولا حاجة لنا بالعترة.
وليس هناك تفسير معقول غير هذا، - بالنسبة إلى هذه الحادثة - اللهم إلا إذا كان المراد هو القول بإطاعة الله دون إطاعة رسوله، وهذا أيضا باطل وغير معقول...
وأنا إذا طرحت التعصب الأعمى والعاطفة الجامحة وحكمت العقل السليم والفكر الحر لملت إلى هذا التحليل وذلك أهون من اتهام عمر بأنه أول من رفض السنة النبوية بقوله: (حسبنا كتاب الله).
وإذا كان بعض الحكام قد رفض السنة النبوية بدعوى أنها متناقضة، فإنه اتبع في ذلك سابقة تاريخية في حياة المسلمين.
وإني لأعجب لمن يقرأ هذه الحادثة ويمر بها وكأن شيئا لم يكن، مع أنها من أكبر الرزايا كما سماها ابن عباس، وعجبي أكبر من الذين يحاولون جهدهم لحفاظ على كرامة صحابي وتصحيح خطئه ولو كان ذلك على حساب كرامة رسول الله وعلى حساب الإسلام ومبادئه.
ولماذا نهرب من الحقيقة ونحاول طمسها عندما لا تتماشى مع أهوائنا، لماذا لا نعترف بأن الصحابة بشر مثلنا، لهم أهواء وميول ويخطئون ويصيبون.
ولا يزول عجبي إلا عندما أقرأ كتاب الله وهو يروي لنا قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما لاقوه من شعوبهم في المعاندة رغم ما يشاهدونه من معجزات.. (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب).
وهكذا أصبحت أدرك خلفية موقف الشيعة من بعض الصحابة الذين يحملونهم مسؤولية الكثير من المآسي التي وقعت في حياة المسلمين منذ رزية يوم الخميس التي حرمت الأمة من كتاب الهداية الذي أراد الرسول صلى الله عليه وآله أن يكتبه لهم.

ثم اهتديت مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن