١٥

149 23 0
                                    

#الحلقة_الخامسة_عشر
     
               لقاء العلماء 

أدخلني صديقي إلى مسجد في جانب الحرم مفروش كله بالـسجاد و في محرابه آيات قرآنية منقوشة بخط جميل ، ولَفَت انتباهي مجموعة مـن الـصبيان المعممين جالسين قرب المحراب يتدارسون و كل واحد في يده كتاب ، فأعجبت لهذا المنظر الجميل و لم يسبق لي أن رأيت شيوخا بهذا السن أعمارهم تتراوح ما بين الثالثة عشرة و السادسة عشرة و قد زادهم جمالا ذلـك الـزي فأصـبحوا كالأقمار ، سألهم صديقي عن " السيد " فأخبروه بأنه يصلي بالناس جماعـة ، ولم أفهم من هو " السيد "

الذي سألهم عنه غير أنني توقعت أنه أحد العلماء .وعرفت فيما بعد أنه السيد الخوئي زعيم الحوزة العلمية للطائفة الشيعية . 

مع العلم بأن لقب " السيد " عند الشيعة هو لقب لكل منحدر من سلالة النبي ( صلى االله عليه و آله ) ، ويرتدي " السيد " العالم أو طالب العلوم الدينيـة عمامـة سوداء ، و أما العلماء الآخرون فيرتدون عمامة بيضاء و يلقبون بـ " الشيخ " وهناك نوع من الأشراف الذين ليسوا بعلماء فلهم عمامة خضراء .

طلب إليهم صديقي أن أجلس معهم ريثما يذهب للقـاء " الـسيد " ورحبوا بي و أحاطوني بنصف دائرة و أنا أنظر في وجوههم و أستشعر بـراءتهم ونقاوة سريرتهم و أستحضر في ذهني حديث النبي ( صلى االله عليه و آلـه ) حيث قـال :

"يولد المرء على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " و قلت في نفسي :

أو يشيعانه سألوني من أي البلاد أنا ، قلت :
من تونس .

قالوا : هل يوجد عنـدكم حوزات علمية ؟

أجبتهم : عندنا جامعات و مدارس ، و انهالت علي الأسئلة من كل جانب ، و كلها أسئلة مركزة و محرجة ، فماذا أقول لهؤلاء الأبرياء الـذين يعتقدون أن في العالم الإسلامي كله حوزات علمية تدرس الفقه و أصول الدين والشريعة و التفسير ، و ما يدرون أن في عالمنا الإسلامي و في بلداننا التي تقـدمت وتطورت ، أبدلنا المدارس القرآنية بروضات للأطفال يشرف عليهـا راهبـات نصرانيات فهل أقول لهم إنهم ما زالوا " متخلفين " بالنسبة إلينا ؟ .


و سألني أحدهم : ما هو المذهب المتبع في تونس ؟

قلت : المذهب المالكي.
قال : ألا تعرفون المذهب الجعفري ؟
فقلت : خير إن شاء االله ، ما هذا الاسم الجديد ؟

لا ، نحن لا نعرف غير المذاهب الأربعة و ما عداها فليس من الإسـلام في شيء . 

و ابتسم قائلا : عفوا ، أن المذهب الجعفري هـو محـض الإسـلام ، ألم تعرف بأن الإمام أبا حنيفة تتلمذ على يد الإمام جعفر الـصادق ؟

و في ذلـك يقول أبو حنيفة : " لولا السنتان لهلك النعمان " ، سكت و لم أبد جوابا ، فقـد أدخل علي أسما جديدا ما سمعت به قبل ذلك اليوم و لكني حمدت االله أنـه - أي إمامهم جعفر الصادق - لم يكن أستاذا للإمام مالك و قلت نحن مالكية و لـسنا أحنافا . 

فقال : أن المذاهب الأربعة أخذ بعضهم عن بعض فأحمد بن حنبل أخـذ عن الشافعي و الشافعي أخذ عن مالك و أخذ مالك عن أبي حنيفة و أبو حنيفـة أخذ عن جعفر الصادق و على هذا فكلهم تلاميذ لجعفر بن محمد ، و هـو أول من فتح جامعة إسلامية في مسجد جده رسول االله و قد تتلمذ على يديه أكثـر من أربعة آلاف محدث و فقيه ، و عجبت لهذا الصبي الذكي الذي يحفظ ما يقول مثل ما يحفظ أحدنا سورة من القرآن ، و قد أدهشني أكثر عندما كـان يـسرد علي بعض المصادر التاريخية التي يحفظ عدد أجزائها و أبوابها ، و قـد استرسـل معي في الحديث و كأنه أستاذ يعلم تلميذه ، و شعرت بالضعف أمامه ، و تمنيت لو أني خرجت مع صديقي ولم أبق مع الصبيان ، فما سألني أحدهم عن شـيء يخص الفقه أو التاريخ إلا و عجزت عن الجواب ، سألني من أقلد من الأئمـة ؟

قلت : الإمام مالك !

قال : كيف تقلد ميتا بينك و بينه أربعة عشر قرنا ، فإذا أردت أن تسأله الآن عن مسألة مستحدثة فهل يجيبك ؟

فكرت قليلا وقلت : و أنت جعفـرك مات أيضا منذ أربعة عشر قرنا فمن تقلد ؟

أجاب بسرعة هو و البـاقون مـن الصبية :
نحن نقلد السيد الخوئي فهو إمامنا .

ولم أفهم أكان الخوئي أعلم أم جعفر الصادق ، و بقيت معهم أحـاول تغيير الموضوع فكنت أسألهم عن أي شيء يلهيهم عن مسألتي فسألتهم عن عدد سكان النجف و كم تبعد النجف عن بغداد و هل يعرفون بلدانا أخـرى غـير  العراق ، وكلما أجابوا أعددت لهم سؤالا غيره حتى أشغلهم عـن سـؤالي لأني عجزت و شعرت بالقصور ، و لكن هيهات أن أعتـرف لهـم و إن كنـت في داخلي معترفا إذ أن ذلك المجد والعز والعلم الذي ركبني في مصر تبخر هنـا وذاب ، خصوصا بعد لقاء هؤلاء الصبيان عرفت الحكمة القائلة : 

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة *
عرفت شيئا و غابت عنك أشياء 
وتصورت أن عقول هؤلاء الصبيان
أكبر من عقول أولئك المشايخ
الذين قابلتهم في الأزهر
و أكبر من عقول علمائنا الذين عرفتهم في تونس .

ثم اهتديت مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن