الحلقة الثامنة

32 6 0
                                    

🖊️ رويدة الدعمي

مضت الأشهر ثقيلة على بهاء وهو ينتظر قدوم مولوده الأول..
كان بهاء يخشى أن لا تتحمل زوجته آلام الطلق والولادة فيتوقف قلبها الضعيف عن العمل فتموت..
لكنه ورغم كل هذه المخاوف كان قلبه ما يزال متعلقًا بالأمل الذي أتى من إيمانه بالله سبحانه وتعالى وبأنه عز وجل لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصلاح.
ها هو موعد الولادة يقترب وها هو بهاء يقف بجانب مريم ويمسك بيدها ويضع يده الأخرى على جبينها وهو يردد آيات الذكر الحكيم ويدعو الله أن يقويها ويحفظها هي وجنينها.
كانت الآلام تتزايد ومريم تتوسل إليهم أن يأخذوها إلى المشفى فهي ما عادت تتحمل هذه الطلقات الحادة.
قالت تسنيم وهي تحاول تهدأتها :
- لا تقلقي حبيبتي سنكون في المشفى بعد أقل من نصف ساعة..
***
خرجت تسنيم من غرفة الولادة وهي تحمل المولود بين ذراعيها لتقدمه لبهاء وهي تقول : إنها تشبهك تمامًا.. سبحان الله!
مدَّ بهاء يديه المرتجفتين وأخذ الطفلة من تسنيم ودموعه تملأ مقلتيه وهو يردد : الحمد لله، الحمد لله.. ولكن كيف هي مريم؟!
- إنها بخير، لا تقلق أبدًا وسأدعوك للدخول حالما تخرج الطبيبة..
هاتِ الطفلة الآن لأعيدها إلى أمها وسأتركك لتفكر في إسم جميل لهذا الوجه الملائكي الرائع.
بعد عشر دقائق تقريبًا خرجت الطبيبة ودخل بهاء لرؤية مريم، حمد الله كثيرًا على سلامتها وسألها إن كانت قد إختارت إسمًا للصغيرة؟
تكلمت مريم بصعوبة رغم أن السعادة التي فيها قد أنستها آلام الطلق التي كانت تعاني منها قبل قليل :
- إسمعني يا بهاء.. أتمنى أن تقوم تسنيم بإختيار إسم المولودة فهي لم تولد إلا بفضل سعي تسنيم وببركة دعائها، ما رأيك؟
نظر إليها زوجها وهو يقول : ما أروعكِ يا مريم!
قالت وهي تشير برأسها نحو ضرتها :
- بل ما أروعها هي.. تسنيم.
ابتسمت تسنيم وهي تشاطرهما الحديث :
- لا تخجلوني أكثر من هذا.. أرجوكم!
ربتت أم مريم على كتف تسنيم قائلة :
- أنتِ فعلًا كما وصفتكِ إبنتي.. إنسانة رائعة ونحن ننتظر منكِ إسمًا لهذه الطفلة الجميلة.
مدّت تسنيم يدها إلى حقيبتها الصغيرة وأخرجت منها المصحف الشريف، قبّلته وتحدثت ببعض الكلمات التي لم يسمع منها البقية غير عبارة : يا رب!
أمالت مريم برأسها نحو زوجها وهي تسأله بهمس :
- ولكن ما الذي تفعله تسنيم؟
ابتسم بهاء قائلًا :
- أظنها ستختار إسم ابنتنا من القرآن الكريم.
فتحت تسنيم القرآن، دمعت عيناها وهي تقرأ قوله تعالى :
((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الْأَنْهَار كُلَّمَا رزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُون)).
ما أن أكملت تسنيم القراءة وقد كان الجميع يسمع ترتيلها العذب قالت :
- جنات.. أسميتها جنات.
* * * * * * *
وفي أحد الأيام الجامعية كانت تسنيم تتجاذب أطراف الحديث مع بقية الاستاذات شد انتباهها خبر نقلته إحداهن عن الأحياء الشعبية البسيطة ومعاناة من يسكنون فيها.
سألتها ببالغ الاهتمام :
- ولكن يا أستاذة، هل رأيتِ هذا الحي بنفسك أم سمعتِ عنه؟
- نعم نعم.. رأيته.
كانت تسنيم قد عملت هي وزميلاتها جمعية خيرية اسمتها ( جمعية اليد الحانية) لمساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين.
عادت لسؤال صديقتها :
- ولكن لماذا لم تعرف جمعيتنا بهذا الحي إلا اليوم؟ ألم نكن بإمكاننا مساعدتهم من خلال الأعمال الخيرية التي نقوم بها كل شهر؟
- نعم يا أستاذة، كان بإمكاننا مساعدتهم لو كنا نعرف مسبقًا بهم فمتى تقترحون أن نذهب لزيارتهم؟
قالت إحداهن :
- لنجمع المبلغ أولاً ثم نقوم بتلك الزيارة.
قالت تسنيم وهي تمدّ يدها إلى حقيبتها وتستخرج منها مفتاحًا صغيرًا :
- سأفتح صندوق التبرعات لأرى ماذا جمعنا في هذا الشهر.
اتجهت نحو دولابها الخاص واستخرجت منه الصندوق وفتحته وبدأت بعدّ النقود ثم قالت :
- مبلغ لا بأس به.. لكننا بحاجة إلى أكثر منه بقليل.
قالت إحداهن :
- بعد اسبوع وفي وقت استلام المرتب الشهري يمكننا أن نجمع مبلغًا ممتازًا، ما رأيكن لو نقوم حينها جميعنا بزيارة ذلك الحي وتوزيع تلك الأموال عليهم؟
صاحت النسوة البقية بسعادة : مقترح رائع، موافقون.
لم تحتمل تسنيم الانتظار حتى الأسبوع القادم، فما أن خرجت من الجامعة حتى شعرت بأنها يجب أن تزور حي الفقراء اليوم بالذات!
اتصلت ببهاء واخبرته عن الأمر ثم مضت إلى ما عزمت عليه وهي تفكر في الصورة التي ستجد عليها ذلك الحي الشعبي البسيط وإلى أين يمكنها أن تتجه بالتحديد؟ هل تطرق أي باب تجده أمامها؟ أم تختار بيتًا هو أسوأ حالًا من بقية البيوت؟ دعت الله في نفسها أن يسخرها لأكثر العوائل حاجةً..
وسط تلك التساؤلات والدعوات وجدت نفسها وقد دخلت ذلك الحي والذي بدأ وكأنه خلية نحل بالحركة الدؤوبة التي يتميز بها..
كان عبارة عن سوق شعبي كبير تحيط به الكثير من البيوت القديمة والتي تبدو ظاهريًا بأنها غير مسكونة لولا خروج ودخول بعض الأطفال منها وإليها ولولا قطع الملابس الرثة التي تتدلى من سطوحها وفوق جدرانها وقد عرضتها ربات البيوت إلى الشمس لعلها تتخلص من رطوبة تلك البيوت الضيقة والمتهالكة.
كلمت نفسها : هذا الحي يجب أن يُخلى من السكان ويتحول إلى مدينة أثرية ليس إلا! ولكن كيف لا تسقط هذه البيوت على ساكنيها؟ رحماك يا الله!
قطع صوت ضميرها منظر مؤلم لطفل يجلس أمام باب منزله ودموعه تتسابق في النزول لتغسل وجهه الملائكي الجميل.
اقتربت منه وانحنت عليه لتمسح تلك الدموع وهي تقول : ما بالك أيها الصغير؟ لماذا لا تلعب مع بقية الأطفال يا حبيبي؟
رفع الصغير رأسه وقام مذعورًا وهو يُبعد يدها عنه مرددًا :
- من أنتِ؟
- أنا ضيفتكم.. ولكن لم تقل لي لماذا تبكي؟
- لأني كسرت البيضة عندما ذهبت لأحضرها من تحت الدجاجة! فعاقبتني أمي بإخراجي وغلق الباب!
- كل هذا لأجل بيضة!
- لا.. بل لأني خسرت وجبة طعامي.
- ماذا ؟ وهل وجبة طعامك بيضة؟!
- نعم!
ثم نظر إليها الطفل شزرًا وهو يقول بألم :
- حقكِ يا سيدة أن تستغربي، حتمًا إنكِ من عائلة غنية!
خجلت تسنيم من كلامه وفطنته فقالت وهي تمسح عرق وجهها :
- هل يمكنني أن أرى والدتك واتحدث معها؟
ارتبك الطفل وتعلق بعباءة تسنيم وهو يردد :
- ولكن يا سيدة ارجوكِ لا تخبريها بما تحدثنا عنه، إنها لن تقبل مساعدة من أحد!! ستغضب أمي إن علمت بأني شرحت الحال لإمرأة غنية مثلكِ!
هدّأت تسنيم من روعهِ وهي تقول :
- لا تخف يا صغيري.. سوف لن تعاقبك، أعاهدك على ذلك.
صار الصغير يطرق الباب مع تسنيم وهو يصيح بأعلى صوته :
- أماه إنها ضيفة تنتظر على الباب.. افتحي أرجوكِ.
يتبع....

تسبيحة الزمنحيث تعيش القصص. اكتشف الآن