🖊️ رويدة الدعمي
فتحت الباب إمرأة في منتصف الثلاثينات تقريبًا تبدو عليها علامات الوقار والصلاح، تطلعت في وجه تسنيم ثم سألت باستغراب :
- عفوًا يا سيدة هل من خدمة؟
ابتسمت تسنيم وهي تقول :
- هل لي بالدخول يا أم..
- أم إيهاب..
- تشرفنا بمعرفتكِ يا أم إيهاب ، هل تأذني لي بالدخول؟
- نعم نعم.. تفضلي.
- أختاه إسمحي للصغير بالدخول أيضًا أرجوكِ..
تعجبت أم إيهاب من معرفة الضيفة بأمر طفلها فنظرت بحدة نحو الطفل الذي اختبأ خلف عباءة تسنيم!
- حسنًا ليدخل هو أيضًا.
- أشكر لكِ ألطافكِ أخيتي.
دارت تسنيم بنظراتها السريعة بين جوانب ذلك البيت المتواضع وتساءلت باهتمام :
- هل هذا منزلكم أم إنكم مستأجرون؟
- بل مستأجرون
- أشارت المرأة لتسنيم بالجلوس، فجلست وهي ما تزال مستغربة من حال ذلك المنزل فسألت باهتمام :
- حتمًا إن المبلغ الذي تدفعوه شهريًا لصاحب الدار بسيط جدًا مع ما أراه من تردي على بناء واوضاع هذا المنزل!
- لا يا سيدتي.. المبلغ عالٍ جدًا، فالإيجار لا يعرف البناء الجديد من المتهاوي والمتهالك!
- وهل زوجكِ حالته المادية جيدة ليدفع مبلغ عالٍ لهكذا بيت!
خفضت أم إيهاب رأسها وقد ملأت دموعها مقلتيها قائلة :
- زوجي رحل إلى الرفيق الأعلى قبل سنتين، وأنا الآن المسؤولة عن دفع إيجار هذا المنزل يا سيدة.
- أنتِ!
هكذا تساءلت تسنيم بدهشة.
أجابت المرأة محاولة إخفاء عبرتها :
- نعم.. أنا.
- ولكن كيف ؟
- اعمل على بيع الخبز للناس منذ وفاة زوجي إلى يومنا هذا.
- وهل لديكِ مصدر آخر للعيش؟
- لا يا سيدة.. ولكن لماذا تكثرين من السؤال؟
صمتت تسنيم ثم اعتذرت إن كانت قد ازعجتها بكل هذه الأسئلة.
قالت أم إيهاب بحذر :
- الآن إسمحي لي أن يكون دوري في السؤال..
- تفضلي بخدمتكم.
- هل دخلتِ بيتي للمساعدة، فإن كان جوابكِ نعم فلن أقبل بهذا على الإطلاق..
- لا لا.. صدقيني أنا أحتاج من يساعدني، فكيف تظني بأني أريد مساعدتكم وأنا أحوج إلى المساعدة من أي شخصٍ آخر؟!
فغرت المرأة فاهها وهي مندهشة لما تسمعه من ضيفتها، أخيرًا قالت :
- ولكن أي نوع من انواع المساعدة تبغين يا سيدة؟ وهل لمرأة ميسورة الحال مثلكِ أن تبحث عمّن يساعدها في حي فقير كحيّنا هذا؟!
ابتسمت تسنيم وهي تؤكد كلامها السابق :
- نعم هذا هو حالي.. ابحث عمن يساعدني وأرجو أن أكون قد وفقت للعثور على هذا الشخص،فأنتِ يا سيدتي أكرم من أن ترديني خائبة مكسورة الخاطر.. حتمًا أن أخلاقكِ العالية تمنعكِ من ذلك.
بعد هذا الكلام الغريب صارت تسنيم تدير ببصرها وتنتقل بنظراتها الحانية بين أولاد تلك المرأة وهي تسأل :
- ألديكِ غيرهم؟!
نظرت المرأة لتسنيم نظرة حادة وقد بان قليلًا من الخوف على ملامحها متسائلة :
- قبل أن أجيبكِ، أجيبيني أنتِ :
هل أنتِ إمرأة لا تستطيع الإنجاب؟
تفاجأت تسنيم من فطنة تلك المرأة، قالت بعيون دامعة :
- وكيف عرفتِ يا أختاه؟ نعم أنا كذلك!
وما أن سمعت المرأة هذه الإجابة حتى انتفضت من مكانها مرعوبة وهي تشير نحو الباب صارخة :
- أخرجي من بيتي بسرعة.
حاولت تسنيم أن تستفهم من تلك المرأة عن سبب كل هذا الانزعاج والغضب فقالت بدهشة :
- ولكن ما الذي بدر مني سيدتي؟ بربك!
تكلمت أم إيهاب وقد بدأت دموعها تهطل أمطارًا :
- قلت لكِ أخرجي من بيتي، فلقد أخطأتِ العنوان يا سيدة.. ليس لدي أطفال للبيع!
وما أن سمع الأولاد كلمات والدتهم ولاحظوا ارتباكها حتى ركضوا نحوها وتمسكوا بثوبها وهم يصرخون : لا.. لن تأخذينا من والدتنا.. لا.. لا!
لن تتمالك تسنيم نفسها فلقد جرح هذا الموقف المؤلم قلبها ولم تجد غير الدموع لتعبر عن المها وحزنها لِما تراه أمامها.. قالت في محاولة منها لتهدئة الموقف : ولكن أقسم بالله يا سيدة بأني لم أدخل بيتكِ لهذا الغرض.. صدقيني!
هدأت المرأة قليلًا عندما لاحظت دموع تسنيم.. قالت أخيرًا وهي ما تزال تمسك بأولادها الثلاثة الذين كانت قلوبهم تعربد خوفًا وقلقًا :
- والآن يا سيدة، هلّا أفصحتِ عن سبب هذه الزيارة؟ وبماذا يمكنني أن أساعدك؟!!
استمرت تسنيم بالبكاء فعلمت المرأة بأنها جرحت قلبها وآلمتها بذلك الاتهام فقالت بتوسل :
- اعذريني إن سببت لكِ الألم أو الازعاج باتهامي هذا، لكن هذا ما حصل لأحد جيراننا قبل أشهر حيث جاءت امرأة مع زوجها وهما لا يستطيعان الإنجاب وعرضا على جارتي ذات الأطفال السبعة أن تبيعهم أحد أطفالها!
رفعت تسنيم رأسها وهي تمسح دموعها وتقول :
- وماذا فعلت تلك الأم المسكينة؟
- نعم مسكينة.. لقد أجبرها فقرها وفاقتها إلى بيع أصغرهم وكان عمره ستة أشهر.
- ماذا؟ وزوجها كيف وافق على هذهِ الصفقة؟
- للأسف يا سيدتي حال تلك المرأة كحالي.. هي أرملة وصاحبة أيتام ولم يكن قد مضى على وفاة زوجها إلا فترة قليلة مما أدى إلى تردي حالتها المعاشية فوافقت اخيرًا على العرض المغري الذي قدمه لها هذان الزوجان.
كانت تسنيم تستمع ودموعها لا تتوقف عن النزول لشدة ما داخَلها من الحزن والألم..
تساءلت مع نفسها : كيف يعيش هؤلاء الناس؟ وأين نحن الأتقياء عن كل ما يعانوه؟ عفوك اللهم وأتوب إليك.
شعرت تسنيم بتأنيب كبير للضمير وهي ترى وتسمع هذه القصص المحزنة، بل وصارت تشعر بأنها أحد المسؤولين عن معاناتهم هذه!
لقد كانت تعيش كل تلك الفترة بنعيم العز والغنى غافلة عن حاجات الفقراء ومآسيهم إلا ما تخرجه من مبلغ بسيط في كل شهر لتلك الجمعية الخيرية .
قطعت أم إيهاب على تسنيم أفكارها وهي تتساءل :
- إلى أين سرح فكركِ سيدتي؟
- أرجوكِ لا تناديني بالسيدة وأرجو أن ترفعي هذا التكليف بيننا وأن تناديني بـ " أختاه" فهذا أفضل وأنسب.
شعرت أم إيهاب بالارتياح لسماعها كلمات تسنيم وصارت مستعدة أكثر لسماع ما تريد أن تقوله لها هذه الضيفة المتواضعة، وأخيرًا قالت تسنيم :
لقد منَّ اﷲ عليَّ يا أم إيهاب بزوج متدين وخلوق وهو ميسور الحال عشت معه أجمل أيام حياتي فلطالما اغدقني بالمحبة والعطف والحنان..
أظن أنني في هذه الفترة ابتعدت عن هموم مجتمعي ومعاناة الناس فيه، وغفلت كثيرًا عنهم وعن حاجاتهم، خاصة بعد أن حصلت على وظيفة للتدريس في الجامعة مع زوجي.
لقد رضيت لنفسي فقط بأن أدخل في جمعية خيرية قمنا فيها نحن استاذات الجامعة بإعالة بعض المحتاجين واكتفيت بهذا دون أن أبحث بنفسي عن حقيقة المجتمع وما يعيشه من آلام وأوجاع في ظل هذه الظروف القاسية.
- ولكن يا سيدتي.. عفوًا يا أختاه.. بماذا يمكنني أن أساعدكِ في كل هذا؟ لقد حرت في أمركِ كثيرًا صدقيني!
- لقد سمعت رواية مضمونها أن المؤمن عندما يدخل الجنة يُطلب منه أن يأخذ بيد من ساعده في الدنيا ليشفع له ويدخله معه إلى تلك الجنة الأبدية وذلك النعيم المقيم .
لذلك أنا أرجوكِ الآن يا أم إيهاب أن أكون أحد الذين ستشفعين لهم يوم القيامة.
تفاجأت المرأة من الطلب وقبل أن تجيب اردفت تسنيم :
- أنتِ ترين مدى تقصيري وغفلتي في السابق لذلك اقسم عليكِ بالله تعالى أن تساعديني في أخذ هذا المبلغ البسيط لعلني أكون من الذين ستذكريهم يوم الحساب فأدخل الجنة ببركة دعاءكِ أخية.
- لكن يا أختاه أخبرتكِ سابقًا بأني لا أقبل مساعدة أحد وقد اعتمدت على نفسي بعد اعتمادي على الله طبعًا..
- أنا لا أريد مساعدتكِ بقدر ما أريد أن أساعد نفسي!! لقد تراكمت الذنوب على ظهري نتيجة الغفلة التي كنت اعيشها، وبمقتضى مضمون الحديث الذي ذكرته لكِ فأنا الآن بحاجة إلى مساعدتكِ ولستِ أنتِ من تحتاج مساعدتي أبدا.
وأنتِ بقبولكِ هذا المبلغ المتواضع من المال ستجعليني أنام الليلة قريرة العين ومطمأنة النفس بأن هناك من سيأخذ بيدي ليدخلني معه الجنة يوم يقوم الحساب.
وأخيراً ابتسمت أم إيهاب!
مدت تسنيم يدها إلى حقيبتها وأخرجت منها مبلغ من المال وناولته لأم إيهاب التي أخذته وهي تردد :
- لن أخذلكِ أختاه بإذنه تعالى، وسأذكرك بكل خير عند ربنا الرحيم.
ثم نظرت أم إيهاب لذلك المبلغ متحدثة بدهشة :
- لكن هذا المبلغ كبير جدا يا أخية!
ابتسمت تسنيم وهي تقوم من مكانها مرددة :
- والفضل الذي ستقدميه لي كبير بل كبير جدًا غاليتي.. لا يوجد أفضل من أن يأخذ المؤمن بيد أخيه المؤمن ليدخله معه إلى نعيم الله الأبدي.
يتبع...
أنت تقرأ
تسبيحة الزمن
Spiritualقصة اجتماعية هادفه قصة كتبتها انامل الكاتبة رويدة الدعمي. ما اجملها واجمل احداثها. حقاً انها كاتبة مبدعة. للكاتبة : رويدة الدعمي