كانت فرحة مريم لا توصف عندما عادت تسنيم مرة أخرى لزيارتها فهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن تسنيم لم تضمر لمريم أي كُره أو بغض..
هكذا كانت مريم تتكلم مع نفسها ثم عادت بسمعها وفكرها نحو والدتها والضيفة الغالية لتشاركهما الكلام والأحاديث الجميلة.
قالت تسنيم وهي ترتشف الشاي :
- لقد جئت اليوم يا خالتي طالبةً يد ابنتك مريم..
صمتت تسنيم لترى تأثير كلماتها على الأم وابنتها فرأت الدهشة والحيرة واضحتين على ملامحهما، فأردفت :
- أرجو أن لا تتأثري يا مريم كثيرًا، وأتمنى أن تأخذي الأمر بكل بساطة وجدية، فأي تأثير وتوتر سيؤثر سلبًا على قلبكِ..
أجابت مريم والكلمات تتقطع في فمها :
- تطلبين يدي! ولكن.. لِمن؟!
- لبهاء طبعًا.
صرخت مريم في وجهها : ماذا؟ بهاء؟!!
قامت الوالدة من مكانها واتجهت نحو ابنتها لتهدأ من روعها وهي تقول :
- حبيبتي إهدأي قليلًا! فقد تكون الأستاذة مازحة بكلامها ليس إلا!
أجابت تسنيم بثقة :
- لا يا خالة.. أنا لا أمزح، بهاء ارسلني لطلب يد مريم.
قالت مريم والعبرة تخنقها :
- إسمعي أستاذة.. أنا أعلم كم هو حنونٌ وطيبٌ قلبكِ، لكن أبدًا لا أقبل أن تجبري الأستاذ بهاء على شيء لا يحبذه! كما أني أعلم مدى كرهه وبغضه لي فهو لا يطيق رؤية وجهي أو سماع صوتي.. كيف تريدين منه أن يتزوجني؟!
وقبل أن تتكلم تسنيم عادت مريم للتساؤل :
- يا إلهي. حتمًا هو الآن يتمنى أن أرفض هذا الطلب، وأنا سأكون عند حسن ظنه هذه المرة وسأرفض طلبكِ وبقوة.
- ولكن يا مريم صدقيني..
قاطعتها والدموع تغسل وجهها :
- لا أريد تصديقكِ.. حرامٌ عليكِ أن تظلمي زوجكِ بهذه الطريقة.. حرام! حرام!
وضعت مريم يدها على وجهها وصارت تبكي وتنتحب بشدة.
حاولت والدتها أن تُهدّأ من روعها واتجهت تسنيم نحوها وطبعت قُبلة رقيقة على جبينها وهي تحدثها بهدوء :
- سأترككِ الآن حبيبتي، أرجو أن تهدأي وتفكري في الأمر، وإذا شئتِ أن يأتي بهاء بنفسه ليخبركِ برغبته فسيأتي.
كفت مريم عن البكاء وامسكت بيد تسنيم وهي تتوسل إليها :
- دعي الأستاذ بهاء بحاله ولا تحمّليه أكثر من طاقته، ولا تحملي همي أبدًا فلقد نسيت كل شيء، أنا الآن انسانة أخرى، بماذا أقسم لكِ حتى تصدقي!؟
ربتت تسنيم على كتف مريم وهي تقول :
- أصدقكِ حبيبتي.. لا تقسمي!
ثم اردفت قائلة : ولولا هذا التغير الذي طرأ عليكِ لما كنت الآن هنا لأخطبكِ، بل حتى بهاء يتمنى الآن قربكِ لنفس السبب.
- وكيف درى أني تغيرت؟ من أخبرهُ؟ أنتِ!
- ومن غيري؟
- لا يا أستاذة طلبكِ مرفوض من أساسه، وأرجو أن لا تعاودي الحديث في هذا الموضوع ثانية وإلا ستكون النتيجة قطع الصداقة فيما بيننا وللابد.
- بهذه السهولة؟
- نعم.
بعد هذا الرفض الذي كان بمثابة الصدمة لتسنيم خرجت من منزل مريم وقد خيّم الحزن على قلبها..
عادت للبيت وما أن جاءت عيناها بعيني زوجها حتى طأطأت رأسها خجلًا وأسرعت لغرفتها واقفلت الباب خلفها!
بقى بهاء متسمرًا في مكانه وهو لا يعرف ما الذي أصاب زوجته! هل أن مريم وأهلها قد وافقوا على الخطبة مما أدى بتسنيم إلى هذا الحزن والغيرة منذ الآن؟! لا.. هذا غير معقول!
ثم تساءل مع نفسه ثانيةً :
هل حزنها هذا بسبب رفض مريم لطلبها؟ لكن لو كان هذا هو السبب فالمفروض أن تفرح تسنيم لا أن تحزن! فهي عملت الذي عليها..!
لم يحتمل كل هذه الأسئلة التي صارت تتضارب في رأسه، اتجه نحو الغرفة وصار يطرق الباب برفق :
- افتحي تسنيم.. ارجوكِ!
ولكن ما الذي حدث حتى هجم عليكِ الحزن مرةً واحدة؟ هل مريم بحالة سيئة؟
فتحت تسنيم الباب وبنبرة خجلة قالت : آسفة يا بهاء.. لم أفلح في اقناعها!
أطلق بهاء ضحكة قوية وصار يهدأها وهو يقول :
- لا عليكِ.. هذا أفضل!
رفعت تسنيم رأسها وصارت تمسح دموعها وتردد :
- كيف افضل؟ لقد فشلت مساعينا يا بهاء.. هل تدرك ما معنى هذا؟
- وما معناه؟
- معناه أن تبقى مريم أسيرة لشجونها واحزانها، وأن تبقى أنت..
صمتت تسنيم واكمل بهاء ما أرادت قوله :
- من غير أولاد! هل هذا ما أردتِ قوله؟!
- إلى متى يا بهاء.. إلى متى ابقى أعاني من تأنيب الضمير؟ إلى متى يبقى هذا الشعور في داخلي؟ لقد صار هذا الإحساس يقتلني شيئًا فشيئا.
- ولكن أي شعور وأي إحساس؟
- الشعور بأني المسؤولة عن حرمانك من الأولاد.
- إنه مجرد شعور صدقيني!
- بل إنه حقيقة.
- اسمعي يا تسنيم..
قاطعته تسنيم بلهجة شديدة :
- بل اسمع أنت يا بهاء، يد واحد لا تصفق، يجب أن تفكر معي في حل يجعل مريم توافق على هذا الزاوج .
- ولكن إن كانت رافضة لهذه الفكرة فكيف..
- إنها ما زالت تحبك، أنا متأكدة لكنها خائفة أن أكون أنا من اجبرتك على القبول بالزواج منها!
صاح بتهكم :
- ماذا؟ أنتِ من أجبرتِني! ولكن هل شخصيتي ضعيفة إلى هذه الدرجة في عينها!
استغلت تسنيم غضب بهاء من الفكرة فقالت :
- عليك أن تثبت لها بأنك أنت صاحب القرار ولم يجبرك أحد على خطبتها.. لا تسنيم ولا غيرها!
- وكيف أثبت لها ذلك؟ الأمر يحتاج إلى تدبير لقاء بيننا!
- سأتصل بوالدتها واقنعها على الخروج معنا إلى نزهة إحتفاءً بشفاء ابنتها.
- تقصدين أن نقوم بدعوة مريم ووالدتها؟
- نعم بالضبط حينها سأتمكن أنا من إبعاد والدتها عنكما لتصارحها أنت بالحقيقة.
تساءل وقد بدت عليه الدهشة :
- تسنيم؟
- نعم..
- خطتكِ هذه تجعلني أشك في أمرٍ ما!
- ما هو؟!
- تلك الظهيرة حينما أخذنا مريم معنا إلى المطعم.. ثم عندما تركتِنا لوحدنا بحجة ألم في معدتكِ.. هل كانت هذه خطة منكِ لتجمعي بيننا؟ ها!
- ولكن ماذا تقول؟ أقسم بالله إنك تسيء الظن بي..
صار يمازحها وهو يقول :
- أنتن معاشر النساء تجلبن الشكوك حولكن حيث ( إن كيدكن عظيم)!
قطبت زوجته حاجبيها قائلة :
- ولكن من قال هذا؟
- هذا ما تم ذكره في صريح القرآن، لا تتظاهري بأنكِ لا تعرفي هذا الأمر!
- لا يا نور عيني.. أعرفه فلقد وردت هذه العبارة في سورة ( يوسف) لكن هذا لا يعني إنها عِبارة صحيحة!
- ماذا.. ماذا؟ كيف انها غير صحيحة؟ لكنها وردت في القرآن!
- صحيح إنها كذلك لكنها جاءت على لسان عزيز مصر وهو يخاطب زوجته زليخا، يعني أنها وردت على لسان رجل كافر وقد وجهها لإمرأة كافرة!
ثم قالت بمزيد من التهكم : لكن أن يقولها رجل مؤمن مثلك لزوجة مؤمنة مثلي فهذا غير مقبول مطلقًا!
أحب بهاء أن يمازحها أكثر، فقال بنبرةٍ واثقة :
- ولكن هل كذب عزيز مصر؟ أوليس كيدكن عظيم؟
قالت وقد استشاطت غضبًا :
- وكيدكم أنتم معاشر الرجال؟ ألم يقل تعالى واصفًا إياكم ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال)؟ ها.. ما ردّك الآن!
من الأكثر صحة ويجب أن نستشهد به؟ هل هو كلام ذلك الرجل الكافر أم كلام رب العزة والجبروت؟!
ابتسم بهاء وتحولت ابتسامته بعد ثوانٍ إلى قهقهات متتالية قطعتها تسنيم بالقول :
- ولكن ما الذي يُضحكك؟
- لقد غلبتِني يا تسنيم، كلامكِ معقول جدًا وأدلّتكِ تامة.
- والآن لنعد إلى صلب الموضوع.
- لنعد..
- أرجو أن تصدقني القول يا بهاء، هل فعلًا لديك رغبة بالزواج من مريم أم أنها رغبتي أنا فقط؟!
قال بهاء وهو يعتدل في جلسته :
- أخشى أن أخبرك بالحقيقة فتشعرين بالغيرة..
- وماذا يعني؟ هل غيرة المرأة على زوجها حرام؟
تكلم بهاء باسمًا :
- لقد سمعت حديثًا عن أحد المعصومين عليه السلام قال ( غيرة المرأة كفر وغيرة الرجل إيمان).
وضعت تسنيم كلتا يديها على رأسها وهي تردد :
- يا إلهي.. ماذا أفعل مع هذا الرجل! أنا متأكدة يا بهاء من إنك الآن أيضًا تريد أن تبعدني عن صلب الموضوع لتتهرب من الإجابة!
لا بأس سأتقبل حاليًا هذا الحديث ولن اتناقش فيه إلا بعد أن اتأكد من صحته وسنده وبأنه ليس حديثًا ضعيف السند ولا يتعارض مع القرآن وسنّة رسول الله وأهل بيته فأنت تعرف يا زوجي العزيز بأن ائمتنا عليهم السلام علمونا أن نعرض الحديث على القرآن الكريم فإن وافقهُ نقبله وإلا فلنضربه عرض الحائط! والآن.. هلّا أجبت عن سؤالي؟
- في الحقيقية يا تسنيم.. نعم! لقد صارت عندي الرغبة الشديدة للارتباط بتلك الانسانة وخاصة بعد رفضها هذا، والذي يدل على أنها فعلًا أصبحت إنسانة أخرى، إنسانة تفكر بعقلها لا بقلبها وعواطفها.
وهنا ولأول مرة شعرت تسنيم بالانزعاج والضجر، وشيئًا فشيئًا تحول هذا الشعور إلى حرارة تلفح كل جسمها!!
تساءلت مع نفسها وهي تبتلع ريقها بصعوبة : هل فعلًا أصبحت أغار من مريم؟
تهربت من النظر إلى عينيه مباشرة بينما كان هو يتسمر ببصره نحو عينيها..
عادت للحديث مع نفسها : سبحان الله! هذه أول مرة يتحدث فيها بهاء عن مريم بهذا الشكل ويصفها بهذا الوصف الحسِن.. هل بدأ يحبها؟
انتبهت إلى نظراته فقطبت حاجبيها قائلة :
- تابع.. أنا أسمعك!
لم يتكلم بهاء بأي شيء واستمر في التدقيق بملامحها التي تغيرت فجأة بصورة واضحة.
أعادت تسنيم طلبها بلهجة حادة : تابع يا بهاء!
- ولكن ما بكِ؟ لقد تغيرت نبرة صوتكِ وكذلك ملامح وجهكِ؟
- لا.. لا.. أعوذ بالله! هل تريد القول بأني بدأت أغار منذ الآن؟!
ضحك بهاء وهو يقول :
- أنا لم أقل شيئًا.. أنتِ من قلتِها!
ثم اردف : لكن لا بأس، جميل أن تغاري عليَّ لأنني صرت أشك في حبكِ لي، فإصراركِ على الزواج بأخرى جعلني أظن بأنكِ لا تحبينني مطلقًا، لكن الآن والحمد لله كشفتكِ على حقيقتكِ!
المهم يا نور عيني لا تخافي، سأحاول أن أقنعها فإن نجحت في ذلك فبها ونعمت، أما إن فشلت فسنكون قد أدّينا الذي علينا.. اتفقنا.
- إتفقنا.
- أما مسألة الغيرة فهذا شيء طبيعي وسأتقبله منكِ بقبول حسِن، على شرط أن تحاولي محاربة هذا الشعور الذي يؤججهُ الشيطان كثيرًا لتمرير مخططاته الخبيثة.
أما إذا لم تحاربي هذا الشعور في داخلكِ فستكونين عرضةً لوساوس الشيطان وقد تؤدي تلك الوساوس بصحتكِ كما حصل مع والدتي رحمها الله.
يتبع...
أنت تقرأ
تسبيحة الزمن
Espiritualقصة اجتماعية هادفه قصة كتبتها انامل الكاتبة رويدة الدعمي. ما اجملها واجمل احداثها. حقاً انها كاتبة مبدعة. للكاتبة : رويدة الدعمي