الحلقة الأخيرة من الجزء الثاني

56 6 0
                                    


قالت وهي تمد يدها لتمسك بيد تسنيم :
- أنتِ رائعة يا أستاذة! والله لو كنت مكانكِ لما سمحت له بالزواج بأخرى إلا بعد أن يطلقني!
ضحكت تسنيم وهي تردد : كل من تعرف بقصتي تقول كما تقولين الآن!
هنا دخلت جنات وهي تحمل طبق الكعك وعلي يسير بعدها ويحمل طبق آخر فيه علبتين عصير بارد، قامت الضيفة تستقبلهم قبل تسنيم وهي تقول :
- لا تقومي أستاذة، الطفلة في يدك!
عادت للجلوس وصارت تفتح علبة العصير وهي تقول :
- ما شاء الله، هل أنتِ فكرتِ بإحضار هذه الأشياء يا حبيبتي؟ أراكِ فطنة جدًا.
أجابت جنات :
- رأيت ماما قد وضعته على المنضدة في المطبخ ولما رأيت إنكما تتكلمان ذهبت وهمست في أذن أبي وسألته إن كان بإمكاني أن أقوم بتوزيعه فقال لي : نعم يمكنك ذلك طبعًا.
سألتها الضيفة بفضول :
- ألم تخافي أن لا ترضى عليكِ زوجة أبيكِ أو قد تصرخ في وجهك؟
- تقصدين ماما تسنيم؟ إنها تحبني جدًا ولم تصرخ في وجهي يومًا..
قال علي بغضب :
- ماما تسنيم أمنا فلماذا تقولين بأنها زوجة أبينا؟!
ضحكت تسنيم وسحبته من يده برفق وصارت تشبعه قُبلًا وهي تردد :
- حفظكم الله لي يا أحبابي.
تسمرت الضيفة في مكانها وبالكاد بلعت ريقها وهي ترتشف العصير وتقارن بين حب اطفال بهاء لزوجة أبيهم وبين العلاقة السيئة التي نشأت بينها وبين أولاد عمار!!
ولما رأت خروج الصغيرين من الغرفة، همست في أذن تسنيم قائلة :
- هل فعلًا تحبينهم يا أستاذة؟ وهل تشعرين بأنهم يحبونكِ حقًا!! ألا تغارين على زوجكِ منهم فقد يكون حبه لهم أكثر من حبه لكِ.. من يدري؟ الله العالم!
تفاجأت تسنيم من كل هذه الأسئلة وابدت حيرتها من الأمر!
قالت أخيرًا :
- إنهم قرة عين زوجي.. فلماذا لا أحبهم حقًا؟
- ولكن عندما ترين أولاده حوله وهم ليسوا اولادكِ أنتِ!
- ولماذا أفكر بأنهم ليسوا أولادي؟ فأمهم غير موجودة بقربهم ( رحمها الله تعالى) وليس لديهم إلا الله وأنا ووالدهم!
ثم لأضع نفسي مكان أمهم الراحلة فلو كان لدي أولاد وحانت وفاتي ألا أتمنى أن يرزقهم الله بإنسانة تعوضهم حناني وعطفي ومداراتي؟!
كانت الضيفة تستمع وكأن على رأسها الطير!
استمرت تسنيم بالكلام بعد أن عرفت طبيعة المشكلة بين ضيفتها وأولاد زوجها فقررت مساعدتها قدر المستطاع :
أختاه أنتِ أيضًا يقع على عاتقكِ حل مشاكل الأسرة من دون توتر وحساسية فالأولاد أيتام ( سواء أنهم فقدوا والدتهم بالموت أو الطلاق) في كلا الحالتين هم فاقدي الحنان الحقيقي ولقد ارسلكِ الله لهم ليس صدفة ولا اعتباطًا ولا عبثًا!
حاشاه سبحانه أن يفعل شيء من غير حكمة.. فهلّا جلستِ مع نفسكِ وسألتِها : ما الحكمة من كوني الآن بين هؤلاء الأيتام؟!
ألا يمكن أن يكون وجودي بينهم إختبارًا إلهيًا ليرى الله مخافتي منه وإيماني وتقواي من خلال تعاملي معهم؟!
هل سأتعامل مع أولاد زوجي كما أتعامل مع أولادي الذين هم من لحمي ودمي؟!
هل أترك المجال للشيطان أن يوسوس بيني وبينهم؟ وهل اترك المجال لأقاربهم ومعارفهم بالتدخل بما يُكبر المشكلة؟ لماذا لا أحل مشاكل عائلتي بحكمتي وعقلي وصبري؟
الأولاد ليسوا سيئين لدرجة الشيطنة والعياذ بالله وأنا لست معصومة من الخطأ لدرجة الملائكة .. كلانا نحتاج إلى الصبر والتأني والحكمة ومراجعة الذات، ولما كنت أنا في منزلة والدتهم فأنا إذن من يبادر إلى تقليل المشاكل وحلّها بسلام ووئام حتى اكسبهم وأكسب قلوبهم فقد ينفعوني في كِبري كما لو كنت أمهم بالفعل.. من يدري؟!
خذي من أم البنين عِبرة فلقد تزوجت بأروع رجل على الأرض في زمانه ( قمة الإيمان وقمة الجمال وذو حسبٍ ونسب) وهي في المقابل لم تكن معصومة فلقد كانت امرأة عادية لها مشاعر وعواطف تجعلها تعشق زوجها وتتمنى لو كان لها وحدها هي وأولادها فقط!!
لكنها ما إن دخلت بيت زوجها حتى فكرت بشيء واحد فقط! أن في ذلك البيت أيتام!! وحين يرونها سيذكرون أمهم!!
لقد فكرت بإنسانية أولاد علي قبل أن تفكر بكونهم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله.. إنهم الآن أيتام!! لذلك يجب أن لا تنكسر قلوبهم عندما يسمعوا إسم زوجة أبيهم والذي هو نفسه إسم أمهم!! فنراها تطلب من أمير المؤمنين عليه السلام أن لا يناديها بفاطمة أبدا!!
إنها أرقى درجات الإنسانية..
فكري في هذا أنتِ أيضًا وحاولي أن لا تكسري قلب اليتيم واجعلي من أم البنين قدوة وسند.
عادت تلك الزوجة إلى بيتها وقد قررت أن تبدأ حياة جديدة مع زوجها وأولاده الأيتام.
*****
بعد عام كامل من وفاة مريم جاء الخبر السعيد الذي كانت تتمناه تسنيم منذ سنواتٍ طويلة، وكأن مريم دعت لها وهي في أعلى الجنان لِما أولته تسنيم من عنايةٍ ورحمةٍ بأولاد مريم..
قالت الطبيبة وهي تعطي ورقة التحليل لتسنيم :
- مستحيل! إنها معجزة والله يا أستاذة.. إنكِ حامل!
فاضت عينا تسنيم بالدموع وهي تردد :
- لا توجد كلمة إسمها ( مستحيل) في قاموس القدرة الإلهية..
سحبت الكرسي لتجلس عليه بعد أن شعرت بأن قدميها لا تستطيعا حملها من الفرحة، صارت تتصل ببهاء لتزف إليه هذه البشارة!
بعد تسعة أشهر أطلت ( مريم) الصغيرة بالتحديد في ليلة ذكرى ولادة الإمام علي عليه السلام ( الثالث عشر من شهر رجب الأصب) وبينما كانت جميع العائلة تحتفل بقدوم تلك الصغيرة الجميلة حتى رنَّ هاتف بهاء..
أغلق الزوج الهاتف بعد انهاءه المكالمة ونظر إلى زوجته التي كانت ترقد على السرير في إحدى غرف مستشفى الولادة، قال بفرحٍ غامر :
- إنه المهندس المشرف على بناء الدار..
سألت تسنيم بسعادة :
- الدار التي سنهديها لأم إيهاب وأولادها الأيتام؟!
- نعم يا غالية.. لقد طلب مني ذلك المهندس الآن أن أذهب إليه لأستلم مفاتيح تلك الدار.
بكت تسنيم من شدة الفرح، قالت لزوجها :
- إنها ليست صدفة أن تأتينا هذه البشارة مع ذكرى ولادة أمير المؤمنين عليه السلام كافل الأيتام وأبو المساكين! صحيح يا بهاء؟
- نعم وكأن الله يريد أن يُذكرنا بدورنا كموالين لذلك الرجل العظيم!
سألت جنات بدهشة : ولكن أراكِ سعدتِ بخبر الدار حتى أكثر من سعادتكِ بأختي مريم يا ماما؟!
قالت تسنيم وهي تمسح دموعها :
- آه يا جنات.. قد تكونوا أنتم والصغيرة ( مريم) سعادتنا أنا ووالدكِ في هذه الدنيا، أما هذه الدار وما سنقوم بهِ من عمل الخير لتلك المرأة ففيه سعادة الدنيا والآخرة معًا .
سأل علي :
- هل لهذه الدرجة ربنا يحب المساكين؟
جمعت تسنيم الأولاد حولها بينما الصغيرة مريم في حضنها وصارت تتكلم لهم عن مكانة الفقراء والمساكين عند الله ورسوله وأهل بيته عليهم سلام الله أجمعين.. ثم صارت تتكلم عن دور صاحب الذكرى إمامنا علي عليه السلام في كفالة الأيتام ومداراة الفقراء إلى آخر لحظات حياته الشريفة.
صار بهاء ينظر إليها وقد دمعت عيناه وهو يتذكر قول الإمام الصادق عليه السلام :
(( فأمّا صالحتهن فليس خطرها - قيمتها - الذهب والفضة، هي خير من الذهب والفضة)).
****
وفي ذكرى الميلاد الأول للصغيرة مريم كانت تسنيم تحتفل مع الأولاد بعد تزيين المنزل بالكامل فقد أكملت مريم عامها الأول وهي الآن تدور خلف أخوانها فرحة مستبشرة..
دخل بهاء المنزل فتفاجأ بالبالونات والشموع والزينة في كل ارجاء منزله، هناك أيضًا الكعكة التي وضعتها زوجته في وسط الغرفة وقد كتبت عليها ابنته جنات بخطها الطفولي الجميل وبالقشطة الملونة عبارة ( شكرًا لأنك أبي) ❤️
تساءل بهاء :
- ولكن اليوم مولد مريمتي الصغيرة.. فما شأنُ أبيكم في القصة!!
قالت جنات بإبتسامة بريئة :
- ماما قالت لنا أن الليلة ذكرى ولادة الأمير ( علي) عليه السلام لذلك فاليوم يجب أن يكون ( عيد الأب العالمي).
صار الأولاد يحومون حول والدهم وهم يضحكون ويقفزون ويرددون بصوتٍ واحد : عيد الأب.. عيد الأب.
كانت تسنيم تقف في زاوية من الغرفة ودموعها تعبر عن مشاعرها الصادقة تجاه زوجها وعائلتها الجميلة هذه 💞
هنا تذكر بهاء تلك السنوات القاسية التي كان يعاني فيها من أجل أن يسمع تلك الكلمة من طفلٍ واحد وهو يناديه بــ ( بابا).
مسح دموعه وهو يردد :
قد كان حلمًا لا نظن دنوّه..
لكن فضل الله كان عظيما 💙

تسبيحة الزمنحيث تعيش القصص. اكتشف الآن