خرج بهاء ليكمل إجراءات استلام جثمان زوجته، تبعته الممرضة وهي تشعر بأن الفضول سيقتلها، نادت خلفه ليقف، شعرت بالخجل من موقفها لكنها تشجعت بالقول :
- أستاذ بهاء.. من فضلك!
توقف بهاء ونظر إليها فخفضت تلك الفتاة عينيها خجلاً من الدموع التي تلألأت في عينيه ..
قالت أخيرًا :
- أعتذر عن فضولي يا أستاذ، لكن قد لا أراك بعد اليوم فأتمنى أن تجيبني عن تساؤلاتي بخصوص زوجتيك!
قال بهاء مندهشًا :
- نعم تفضلي.. لكن استعجلي رجاءًا..!
- نعم.. نعم بالتأكيد، سؤالي هل فعلًا أن زوجتك الراحلة هي الثانية أم أن الطبيبة متوهمة؟!
- لا ليست متوهمة، كلامها صحيح.
- والسيدة تسنيم هي الأولى؟
- نعم
- ولكن يا أستاذ وأعتذر على فضولي.. أنا أراكما متحابين كثيرًا حتى إنني لم أرَ في حياتي زوجين أكثر توافقًا منكما!
- نعم فعلًا مثلما وصفتِنا .. هذه هي الحقيقة.
- إن كانت هذه هي الحقيقة يا أستاذ، فلماذا تزوجت بالمرحومة مريم؟!
فهم بهاء سبب فضول الممرضة فعذرها في سرهِ على ذلك ثم أجاب :
- إن هذه كانت رغبة زوجتي، أقصد أنني تزوجت بالثانية حسب رغبة الأولى.
- ولكن لماذا رغبت هي بذلك؟
- لأنها لا تستطيع الإنجاب.. فاختارت لي صديقتها المقربة لعل الله يرزقني منها بالذرية الصالحة .
شكرت الممرضة بهاء على حسن أخلاقه معها لكنها لم تتوقف عند هذا الحد بل عادت لتسنيم لتلقي عليها المزيد مما في جعبتها من أسئلة!
ثم وبعد أن لاحظت الأخلاق العالية لتسنيم وسعة قلبها قررت أن تساعدها ما استطاعت، فأخذت منها الطفلة وحاولت أن تهدأها مما فسح المجال لتسنيم من الاتجاه نحو جثمان صديقتها لتجلس بقربها وتبدأ بقراءة سورة ( يس) التي حفظتها عن ظهر قلب، ثم طلبت من الممرضة أن تساعدها في العثور على كتاب مفاتيح الجنان فركضت تلك الفتاة لجلبهِ من إحدى زميلاتها الممرضات، قرأت تسنيم دعاء العديلة وزيارة عاشوراء عند رأس صديقتها وسلمت على صاحب الزمان عليه السلام وهي تقول له :
- أعلم إنك كنت في جانبها ساعة خروج روحها لأنها كانت من شيعتكم المحبين يا مولاي وأنت الكريم ابن الكرام كما هو جدك رسول الله وآبائك الطاهرين حين يزورون محبيهم ساعة الاحتضار وعروج الروح لخالقها.
ثم نظرت لمريم الراقدة بسلامٍ أمامها وتكلمت معها بدموع الشوق واللهفة والانتظار..
- هنيئًا لكِ يا أختاه إذ رأيتِ إمام الزمان، حتمًا إن فرحتكِ بلقاءه أنستكِ الآم الاحتضار ومشاعر الخوف من الموت، حتمًا جمال طلعته البهية جعلتكِ تنسين الدنيا وما فيها، ذلك الجمال الذي يأخذ بالألباب، كيف لا وهو يوسف آل محمد! كيف لا وقد وصفه جده الرسول بطاووس أهل الجنة!
********
كانت مريم قد تركت رسالة لتسنيم قُبيل وفاتها بيوم واحد وطلبت من بهاء أن يسلمها لها بعد رحيلها إلى عالم الملكوت..
فتحت تسنيم الرسالة بأنامل مرتجفة وصارت تقرأ بدموع بللت الرسالة منذ الأسطر الأولى!
بسم الله الرحمن الرحيم..
حبيبتي وصديقتي وأختي تسنيم :
أكتب لكِ هذه الرسالة التي ستقرأينها حين أكون أنا بجوار الرفيق الأعلى..
أوصيكِ يا أخيتي خيرًا بأولادي رغم أنني أعلم جيدًا بأنكِ أهل لتربيتهم تربيةً صالحة، لكنني أحببت تذكيركِ بأنهم مشاغبون بعض الأحيان وبأنهم قد يسببون لكِ الكثير من المتاعب وخاصة الصغير ( علي) وأذيته ناشئة من كونه ما يزال طفلًا ليس إلا!
أما جنات وأختها التي في بطني ( إن صدق السونار بأنها بنت) فأنا مطمئنة كامل الاطمئنان إلى أنكِ ستملئين قلبيهما بالحياء والعفة والطهر وحب الحجاب والعباءة.. هنيئًا لأولادي بأمٍ مثلكِ.
لا أريد أن أطيل عليكِ أخية.. فقط أحببت أن أوصيكِ بأولادي وأن تعتبريهم أولادكِ أنتِ وبهاء وتنسين أمر مريم التي طرأت على حياتكما فجأة.
قومي بتربيتهم كما يمليه عليكِ ضميركِ فأنا كُلي ثقة بكِ غاليتي، لكن ارجوكِ رجاء الأم التي ستفارق أبناءها إلى الأبد أن لا تصرخي في وجوههم أو تضربيهم إن اساءوا الأدب يومًا فهم أيتامًا مكسور فؤادهم ..
دعي هذا هذا الأمر لأبيهم، فأنا لا أريدهم أن يكرهوكِ أو يحقدوا عليكِ.. أعلم بأنكِ إن صرختِ عليهم أو ضربتِهم فهذا لمصلحتهم ولخوفكِ عليهم لكني أخشى أنا يأخذوا الأمر بأنكِ تفعلين كل ذلك معهم فقط لأنكِ زوجة أبيهم!
أما إن عاملتِهم باللطف دائمًا فسيحبوكِ حتى أكثر مني .. صدقيني.
لم تقصري معي في شيء لا أنتِ ولا بهاء فجزاكما الله كل خير، حاولتما إسعادي وتخفيف مرضي حتى نسيت لسنواتٍ طويلة أني مريضة بمرضٍ خطير!
********
وفي نهاية الرسالة كتبت مريم عبارة جعلت تسنيم تجهش بالبكاء أكثر من أي وقت..
حيث كتبت بحروف تركت آثار الدموع واضحةً عليها عبارة ( يا صاحب الزمان أدركني ولا تتركني) 💔
كانت مريم تريد أن تكمل رسالتها بشكر تسنيم على كل ما قدمته لها من تضحيات، وأرادت أن تشكرها على ما اوقدته في قلبها من محبة لولي الله الاعظم ( عجل الله فرجه الشريف) بعد أن كانت تخشى سماع إسمه!
أرادت أن تكتب لها أشياءً كثيرة كانت تسنيم هي السبب في إيجادها في قلب مريم لكن الآلام التي كانت تضرب بقلبها بل وجميع بدنها جعلتها تتوقف عن الكتابة وتكتفي بكتابة هذه العبارة في نهاية رسالتها مخاطبةً للحبيب الغائب بأن لا يتركها في لحظات حياتها الأخيرة.
قبّلت تسنيم الرسالة وضمّتها إلى قلبها وهي تردد : لديَّ كامل الثقة بأن إمامنا الحجة روحي فداه لم يترككِ وكان معكِ في تلك اللحظات الرهيبة، حتمًا خففّ عنكِ هول ساعات الموت لأنكِ وثقتِ بهِ كثيرا 💙
يتبع...
أنت تقرأ
تسبيحة الزمن
Spiritualقصة اجتماعية هادفه قصة كتبتها انامل الكاتبة رويدة الدعمي. ما اجملها واجمل احداثها. حقاً انها كاتبة مبدعة. للكاتبة : رويدة الدعمي