الفصل الأول

804 25 6
                                    

بسم الله الرحمن الرحيم
يلا نبدأ على بركة الله

رواية وجهان لامرأة واحدة

الفصل الأول
طوارئ
كانت حالة من الفوضى تعم المشفى الخاص الجديد الذي يقع على الطريق الصحراوي وقد تأهب طاقم العمل الليلي لاستقبال مصابي ذلك الحادث المفجع على الطريق الصحراوي 'مصر، اسكندرية' وقد توالت أجسام المصابين من ذلك الميكروباص الذي دهسته المقطورة التي كان يقودها سائق نام أثناء القيادة ومات على الفور، أما ركاب الملاكي فكانوا ثلاثة، الأم والابنة على ما توقع العاملين والأب وجميعهم بالعمليات
الحالات كانت تفر من أمام عيون عهد وهي لا تتوانى عن أداء عملها كممرضة، تخرجت في كلية التمريض منذ ثلاث أعوام وتنقلت بين المستشفيات دون استقرار بمكان وهي لم تكن تهتم فلم يكن لها مكان للبقاء به أو البكاء عليه
"عهد لا تفلتي الضمادة الآن، أعلم أنك متعبة ولكن"
كان دكتور منصور من أمهر الجراحين وكان يفضل تواجدها معه كلما تواجد بالمشفى يرى بها ابنته التي ماتت منذ ست سنوات نتيجة حادث مؤلم حيث كانت مع مجموعة فاسدة من الشبان لا يعرفون شيء عن المسؤولية وضاعت هي بينهم بحادث على الطريق الساحلي ولم يمكنه إنقاذها وهو يعوض أحزانه بقتل نفسه من أجل إنقاذ الآخرين
كان الإرهاق قد أخذها ولكنها لم تتوقف كان العمل هو كل ما تفكر به ولا حياة لها خارج أي مشفى تعمل به وهذا هو الثالث بالنسبة لها وكانت أسعد حظا به حيث كان يوفر سكن داخلي للمغتربين فحصلت على غرفة مزدوجة مع زميلة أخرى.
لم تنظر لدكتور منصور وقالت "أنا بخير لا تقلق دكتور"
قال وهو دائما ما يفضل الحديث أثناء الجراحات التي يجريها "الجرح عميق وهناك اثنان آخران، هل عرفت كم حالة أخرى مصابة؟"
كانت يده تعمل بمهارة وهي تتابعه وقد تعلمت منه الكثير وكثيرا ما قال لها "كان عليك دخول كلية الطب، لديك ثقافة رائعة وموهبة يحسدك عليها أمهر الأطباء"
قالت باهتمام "مس نعمة تقول هناك ثلاثة بحالة خطر ولكنهم هاتفوا دكتور هيثم وما زالت الشابة الصغيرة تنتظرك"
لم ينظر لها وقال "الفتاة بحاجة لجراحة بالساق والكبد ممزق ولا أعلم ماذا سنجد عندما نفتح"
تراجع عندما انتهى ورأت دكتورة ندى مختصة التخدير تدخل وتقول باهتمام "دكتور تلك الفتاة تنهار هل حضرتك انتهيت هنا؟"
هز رأسه وقال "نعم، تعالي وتابعي الإفاقة وأنا بطريقي لها هيا عهد"
كانت ندى تكره علاقته بعهد فقالت بغضب "سجدة هناك دكتور دع عهد معي"
لم ينظر لها كما فعلت عهد وإنما تحرك للباب وقال "هيا عهد المريضة تنتظر"
احمر وجه عهد من الإحراج وندى من الغضب وأسرعت الأولى خلفه للغرفة المجاورة حيث تمددت فتاة بأوائل العشرينات تشبه المرأة الأخرى وكان هناك بعض الممرضات وطبيب آخر تراجع وهو يقول
"هي جاهزة دكتور منصور، الأشعة هناك و"
كان منصور بالفعل يمسك الأشعة بصمت بينما نظرت سجدة لعهد وقالت بصوت هادئ "ندى تريد قتلك"
هزت رأسها وقالت "بل تمزيقي إربا"
ابتسمت سجدة وقالت "هل أنتِ بخير؟ يمكنني البقاء أنتِ منذ الأمس تعملين"
لم ترد لأن منصور التفت للحالة وقال "عهد لابد أن نبدأ، أريد تبديل كل ذلك هيا"
نظرت لسجدة وهزت أكتافها باستسلام ثم قالت بجدية "حاضر دكتور لحظات وسأنتهي من كل شيء"
عندما انتهى منصور من الفتاة المصابة كان المساء قد حل وكانت عهد قد استنفذت ما تبقى لديها من قوة ودخلت رئيسة الممرضات مس نعمة وهي تعقم يدها وقالت "أعلم أنكِ لم ترتاحي منذ الأمس ولكن ليس هناك من يحل محلك عهد لذا عليك باستلام دوامك بعد ساعة"
كانت تشعر بإعياء شديد كما كانت تعلم أن لا أحد بذلك المشفى يظن أنها تجيد عملها من أجل العمل بل الكل بما فيهم نعمة يظنون أنها تخطط لأشياء هي لا تفكر بها لذا كانت معاملتهم معها جافة وبالمصلحة عدا بعض القلة ممن عرفها جيدا
خلعت رداء العمليات وقذفته بعيدا بالمخلفات وقالت بصوتها الهادئ الرقيق "أعلم سأكون موجودة بالميعاد، اسمحي لي"
وخرجت بجسدها النحيف والقصير فهي لم تكن من نوعية الفتيات التي تهوى كثرة الطعام أو الحلويات بل ربما وجبة واحدة باليوم تكفيها، دخلت غرفتها فوجدت رحمة تتناول وجبتها هي الأخرى فلم تنظر لها وعيونها بهاتفها وهي تقول
"أحضرت لك وجبتك على المائدة"
ألقت جسدها المنهك على الفراش وقالت وهي تغمض عيونها الذهبية "لا أريد سأنام تلك الساعة، لا تنسي أن توقظيني"
ولم تسمع رد رحمة وقد ذهبت بالنوم حتى أتاها رنين المنبه من بعيد وصوت رحمة تقول "هيا يا عهد مس نعمة تسأل عنك"
بصعوبة نهضت وفركت عيونها وهي تحاول أن تقاوم العودة للنوم عندما دق الباب وفتح فرأت نعمة تنظر لها وتقول "تأخرتِ ودكتور منصور يسأل عنك"
وقفت بتعب وقالت "ظننت أنه رحل"
تحركت نعمة وهي تقول "لا، هو بمكتبه أسرعي مكانك خالي"
التفتت لترى رحمة تنتهي من ملابسها وقالت "أنا ذاهبة، تمريض العمليات ليس بسهل عودي للتمريض العام ودعك من منصور"
لم ترد وهي تضبط من طرحتها البيضاء والرداء الأبيض الطويل وتحركت لمكتب منصور، دقت الباب ودخلت فرأته يمسك بأشعة بيده ويتأملها أمام الجهاز المضيء بقوة فقالت "حضرتك لم تذهب؟"
أبعد الأشعة ونظر لها وهو يقول "لا، تلك المرأة وابنتها حالتهم غير مستقرة وفضلت البقاء حتى أرى أي قريب لهم تعلمين أن إخبارهم بالأمر لن يكون سهلا"
هزت رأسها وشبكت أصابعها أمامها وهي تقول "ألا أمل لها؟"
نهض بالرداء الأبيض وتحرك تجاهها وقال "حتى الآن لا وهي لن يمكنها الاعتماد على نفسها إلا بالقليل وبعد فترة طويلة"
دق الباب ودخل سمير مدير الاستقبال وقال "هناك من يسأل عن حالة الأم وابنتها والنيابة أيضا"
هز منصور رأسه وتحرك للباب وهو يقول "عهد عودي لعملك ولكني قد أحتاجك مرة أخرى"
اندمجت بالعمل الذي لم يكن كثير بتلك الليلة مما منحها مجال للراحة وقد هدأت حالة الطوارئ بعد أن توقف ورود المصابين للمكان، رأت دكتور هيثم يدخل غرفة الإفاقة حيث كانت تعقم بعض الأجهزة فنظر لها وقال
"ظننت أنكِ اعتذرت الليلة"
أبعدت وجهها المستدير عنه وقررت الانتهاء مما تفعل فهي لا تجتمع معه بمكان دون أن يصارحها بمشاعره فقالت دون أن تنظر له "ليس هناك بديل عني للاعتذار"
ما أن اقترب منها بقامته المتوسطة وعيونه الضيقة حتى ابتعدت فقال "لن تفري مني للأبد عهد"
كانت قد وصلت للباب وقالت باختصار "لا"
وما أن خرجت حتى تنفست براحة وتحركت لخارج العمليات ربما تتناول قدح من القهوة يساعدها على السهر، أخذت ساندويتش من الكافيتريا تناولته بسرعة وهي تلقي بعض الكلمات لبعض الزميلات حتى أخذت قدح القهوة واستدارت لتذهب عندما اصطدمت دون وعي بشيء جعل القهوة تنسكب على يدها فأطلقت صرخة مكتومة من ألم جلد يدها والتفتت لتترك القدح على السور وسمعت صوت يقول
"آسف أنا لم أنتبه لكِ هل أنتِ بخير؟"
منحها عامل الكافيتريا ماء بارد فوضعته على يدها والتفت زميلتين حولها حتى هدأت من الألم فعاد الصوت يقول "لابد من شيء يوضع عليها"
كان العامل بالفعل قد أحضر مرهم ودهنته هي وكتمت الألم وهي تقول "أنا بخير شكرا"
انفض الجميع عندما قال الصوت "أعتذر"
نظرت لصاحب الصوت فرأت عيون سوداء بوجه أبيض طويل يحدق بها فقالت "لا داعي للاعتذار لم يحدث شيء"
ابتسم عن أسنان منتظمة ليست بيضاء ولا صفراء وقال "نعم هذا واضح"
ابتسمت وقالت "اسمح لي"
لم يتحرك بجسده الطويل وملابسه الأنيقة وهو يقول "معاذ إبراهيم الجبالي"
احمر وجهها من محاولته الحديث معها فقالت بصوت منخفض فهي ليست معتادة على التحدث مع الغير، الوحدة هي ما اعتادت عليه منذ أن وعت لوجودها بالملجأ وهي طفلة ذات خمسة سنوات لا تذكر عن أهلها إلا ليلة..
نفضت الذكريات وهي تردد "عهد، اسمح لي لابد أن أذهب فقد تأخرت"
ولم تمنحه فرصة لإيقافها وهي تتحرك من جواره وتعود لعملها والذي طلبته منها نعمة قبل أن ترحل حتى استدعاها منصور بالعناية فأسرعت له وقد كانت معه ممرضة أخرى ولكنه كالعادة يفضلها وقال وهو يرى الأم التي أجرى لها الجراحة
"أنا طلبت من عزت أن يجعلك تبقين هنا بجوار المرأة فحالتها خطر وأنت تجيدين التعامل مع تلك الحالات وعزت لم يعترض، ابنها بالخارج وقد أخبرته بحالتها"
لم تعترض وهي تشعر بالشفقة على المرأة ذات الملامح الجامدة وإن شعرت الآن أنها كما لو كانت قد رأتها بمكان آخر، قالت "هل حضرتك باقي الليلة؟"
تحرك للجهاز المجاور وتأمله وهو يقول "نعم، دكتور هيثم استأذن بالذهاب مبكرا وأنا أريد البقاء، لا تتركي المرأة"
لم تعترض بل كان الأمر مفضل لها، العناية مجال مهم لها وقد جربت كل الأقسام كي تتعلم كل شيء وأجادت بكل مكان تواجدت به
بالثامنة صباحا كانت قد تهاوت من عدم النوم والمرأة، دولت، تداعت حالتها كثيرا بالليل وكانت ليلة طويلة حتى نظر لها عزت مدير المشفى ومنصور ونعمة وقال عزت "أحسنت عهد ولولا أني أعلم أن لك يومان لم تنالي أي راحة لكنت طالبت ببقائك معها"
تدخلت نعمة بحدة "نورهان تتعامل جيدا دكتور عزت"
نظر عزت لها وقال "أعلم ولكن ليس كعهد، دكتور منصور هل انتهت الحالة لهذه النهاية؟"
هز منصور رأسه بتعب هو الآخر وقال "تعلم أن الطب كل يوم بحال فلا انتهاء للأمل، أنا متعب وأريد الذهاب ليس هناك جراحات اليوم"
تحرك الجميع ورمقت نورهان عهد بنظرة غاضبة وهي تتبعهم للخارج وعندما خرج الجميع تفاجأت عندما رأت ذلك الرجل الذي سكب عليها القهوة وحاولت تذكر اسمه واقفا أمام الباب والتقى بنظراتها ثم عاد للأطباء بينما تسربت هي من جوارهم إلى غرفتها ربما تنال بعض الراحة ولكن مدير الاستقبال ناداها فاتجهت إليه بضيق
ما أن وقفت أمامه حتى قال "هل تصحبين الأستاذ حيث مدام دولت، الحالة التي وصلت بالحادث"
تضايقت لأنها أرادت أن ترتاح فقالت "هي بالعناية ودكتور منصور هناك"
كادت تتحرك عندما تصدر الجسد المجاور لها بطريقها وهو يقول بصوت عميق "أخبرك أن تصحبيني لهناك"
رفعت وجهها لتواجه صاحب الصوت الجهوري لتصطدم بعيون تماثل لون عيونها الذهبية وربما أكثر جمالا برموش سوداء كثيفة وطويلة وشعر أسود مصفف للخلف بعناية وبدا جسده العملاق سجين تلك البدلة الأنيقة بشكل واضح وعادت لوجهه البرونزي ذي الخدود النحيفة وانتشرت شعيرات الذقن عليها وأخيرا استعادت تركيزها وهي تقول
"آسفة يا فندم ولكن هذا ليس عملي"
وعادت لتذهب ولكنه قال بصبر نافذ "صفي لي المكان من فضلك"
كانت كلماته العميقة والراقية تجعلها تعيد أفكارها فقالت "حسنا تفضل"
تحركت فتبعها دون كلمات وهناك كان الجميع ما زالوا بالمكان ولاحظت أنه كان يتحرك بخطوات واثقة بجوارها واحتفظ بالصمت بينهم فلم تتجاوز، لم تتعجل بالذهاب وهي ترى الرجل الذي رأته من قبل ينظر للذي كان يتبعها وقال بغضب غريب
"ماذا تفعل هنا؟"
لم ينظر له الرجل وهو يتحدث للأطباء قائلا "ليث الجبالي، أريد الاطمئنان على والدتي وأختي"
نظرات الجميع كانت تحمل تساؤلات كثيرة خاصة بعد كلمات الرجل الآخر الذي لم تذكر اسمه بينما قال عزت "دكتور منصور هو الجراح الذي تولى حالتهم وكان يخبر أستاذ معاذ بالحالة"
نظرات معاذ كانت غاضبة وهو يعيد كلماته "ليس عليك التواجد هنا"
لم ينظر ليث له وهو يقول بصوته العميق "التي هي ماذا يا دكتور؟"
عاد معاذ يقول بتهور "أخبرتك.."
نبرة صوت ليث جعلت الجميع يتراجع عندما نظر لمعاذ بنظرة غاضبة وقال "أنت تصمت"
ثم التفت لمنصور وقال "أنا ابنها الأكبر وأريد معرفة حالتها ومعرفة وضع جثمان السيد إبراهيم وحالة بريهان أختي والآن من فضلك"
تبادل الأطباء النظرة بينما جز معاذ على أسنانه وهو يشيح بيده ووجهه بعيدا حتى تحدث منصور يشرح الحالات حتى انتهى فقال ليث وقد تجمدت هي بمكانها ونست التعب والنوم وظلت تراقب ما يدور
"هذا يعني أن لا أمل حتى لو عرضت على أطباء بالخارج؟"
هز عزت رأسه وقال "دكتور منصور ليس أي دكتور وسمعته معروفة ولو رأى أن حالتها تستدعي السفر كان طالبكم بذلك"
هز ليث رأسه بثبات غريب وقال "متى يمكنني رؤية أيا منهم؟"
اندهشت من أنه يتحدث بتلك القوة والثقة وكأنه قائد والجميع تبع أوامره
مسح منصور شعره براحته وقال "ربما على منتصف النهار تستعيد أختك وعيها لكن والدتك ليس قبل المساء ما زالت تحصل على مسكنات قوية تبقيها نائمة أكبر وقت"
نظر له بصمت وقال "كيف سنخبرها بالأمر؟"
الأطباء اعتادوا مثل تلك الحوادث لذا لم تتبدل ملامح منصور وعزت بينما قال منصور بهدوء "لابد أن نتوقع الانهيار بالطبع لذا سيكون هناك طبيب نفسي معنا وعليكم جميعا بالتواجد معها وقتها"
كان هدوء ذلك الرجل قاتل بينما قال معاذ بنفس الكره الواضح بعيونه "الجميع عداك أنت فوجودك سيزيد من انهيارها فأنت آخر من تريد رؤيته حتى ولو كنت تنفق عليها"
لم ينظر له بينما اندفعت الأسئلة لعقل عهد عن أولئك الناس وعن الكره المتبادل بينهم وتتمنى لو تعرف سببه وقد أدركت أن ليث هو بالفعل من يدير الدفة عندما تجاهل ليث كلمات معاذ وقال
"متى يمكن نقلها للقاهرة؟"
قال منصور بنفاد صبر "عندما تخرج من العناية، أي مشفى لن تقدم لها أفضل من هنا اسمحوا لي"
التفت منصور لها وقال "لم تذهبي؟"
انتبهت له فتحركت معه على مضض وقالت "ظننت أنك قد تحتاج لي"
قال بحنانه المعتاد "لا يا ابنتي يمكنك الذهاب أنا أيضا راحل للبيت"
وتحرك لغرفته دون كلمات أخرى بينما التفتت هي مرة أخرى للرجال الواقفة ولاحظت أن عزت اختفى وبدا حوار حاد بين الرجلين ولكنها لم تسمعه ولكن عيونها تعلقت بليث وقد شعرت بأنه يجذبها له بشيء لا تفهم ما هو
يتبع...

رواية وجهان لامرأة واحدة   بقلمي داليا السيدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن