الفصل الحادي عشر

381 19 7
                                    

الفصل الحادي عشر
تعويض
عندما وضعها بالسيارة ودعتها رحمة وطلبت منها أن تهاتفها ثم ركب بجوارها وقاد السيارة فنظرت له وقالت "إلى أين؟"
انشغل بالطريق وهو يقول "أخبرتك من قبل"
ظلت تنظر له قبل أن تقول "وأنا أخبرتك أني لا أوافق"
وكأنه لم يسمعها وعندما لم يرد تعصبت وقالت "ليث أنا أتحدث معك"
التفت لها وقال دون تفكير "وإلى أين تريدين الذهاب؟"
احمر وجهها وهي تعلم أن لا مكان لها لتذهب له فأبعد وجهه للطريق وقال "تجبريني على كلمات لا أريدها، عهد الأمور معقدة وعلى كلا منا أن يهدأ كي نجيد التفكير والتصرف"
أبعدت وجهها بضيق وقالت "أنت لا تريدني أن أفكر أو أقرر فأنت فعلت وقررت"
رمقها بنظرة جانبية ثم عاد للطريق وقال "حقا؟ إذن يغضبك وجودك معي؟"
أغمضت عيونها بألم وحزن ولم ترد فأدرك أنه عاد لنقطة البداية ولاح الصمت عليهم دون أن يجد أيا منهم كلمات تعبر عما بداخلهم، رن هاتفه فأخرجهم من دائرة الجدال عندما رأى اسم عزيز حماه وكأنه دفعه بقوة من الجنة إلى الجحيم وهو يذكره بما تركه خلفه بأمريكا فأغلق الصوت ولم يرد وتبدلت ملامحه للجمود
كان أحدهم ينتظره بمقعد متحرك عندما توقف أمام باب الفندق، أسرع الرجل إليه باحترام واضح فنزل وحملها مرة أخرى ووضعها عليه ودفعها الرجل إلى الداخل وهو يتقدم لمكتب الاستقبال ليحصل على الكروت الخاصة بغرفهم ثم قال
"هناك آنسة اسمها مها ستأتي بعد قليل أرسلها لغرفة الآنسة عهد"
احنى الرجل رأسه باحترام وقال "حاضر سيد ليث"
كان الرجل قد دفعها للمصعد وانتظره حتى لحق به وهي تتجول بعيونها بالمكان الفاخر الذي لم تجرؤ يوما على أن تدخله، المصعد حملهم للطابق السادس ومنه لغرفة فتحها هو ودفعها الرجل للداخل فمنحه ليث بعض المال وشكره ثم أغلق الباب وعاد لها، كانت تتأمل الغرفة الواسعة وفراشها الكبير والنافذة التي تطل على الأهرامات بمنظرها الرائع وشاشة التليفزيون، اقترب وانحني أمامها ليرفعها بسهولة ثم وضعها على الفراش برفق ولم يتركها هذه المرة وظل قريبا منها وهي ظلت تنظر له وقلبها يرتجف من قربه فأخفضت عيونها والتمست القوة من حيث لا توجد وقالت بهمس
"وجودي هنا خطأ"
نفخ بقوة وابتعد وهو يقول بضيق "لماذا تصعبين الأمور؟"
رفعت وجهها له وقالت "لأنها كذلك، هي صعبة أصلا ليث أم أنك لم تدرك ذلك"
التفت لها وقال "لا، أنت فقط من يعقدها، هل تخبريني ماذا ستفعلين هنا؟ أين ستذهبين؟ لكن هناك لديك فرص كبيرة خاصة وأنك ممرضة ماهرة واتقانك لعملك سيلقى اهتمامهم"
واجهته وهي لا تفهمه، كلماته تعني أنها سيمكنها أن تحيا بطريقتها بدونه فأبعدت وجهها وقالت "كفاني ديون سيد ليث"
عندما لم يرد عادت له فوجدته ينظر لها فقالت "أنت تكفلت بمصاريف المشفى وأحضرتني هنا، كفى لأني لن أستطيع السداد"
قال بهدوء لا يتناسب مع الغضب الذي يشتعل داخله "هل تقصدين إهانتي؟ لأني لا أظن أنك تريدين ذلك"
شحب وجهها وقالت "أي إهانة؟"
ارتفعت نبرة صوته وهو يقول "إذن توقفي عهد لأني لن أظل صامتا أمام كلماتك العابثة هذه"
قالت بنبرة حاسمة "لماذا تريد ذلك؟"
لم يجد إجابة وهو يبتعد من أمامها وقال "كما أخبرت منصور أنا من أوقعك بكل ذلك وأنا من"
قاطعته بقوة "كفى"
التفت لها فرأى الغضب بعيونها فقال "هل حقا لا تريدين السفر معي؟"
الدموع شاركتها لحظتها وكأنها تمنحها بعض الشجاعة لمواجهة ما يحدث وقالت "أنا لا أريد إرباك حياتك، أنت لك حياتك هناك والتي بالتأكيد لن يكون لي مكان بها"
تحرك لها وجلس على طرف الفراش وقال وهو لا يعلم إلى أين يذهب بها وبنفسه "وأنتِ سيكون لك حياتك الخاصة، سأمنحك شقة صغيرة وأضع أقدامك على بداية الطريق وأعدك أن أتركك تكملين دون وجودي وهي فرصة يتمناها الكثيرين وبذلك أكون منحتك تعويض عما سببته لك من إرباك بحياتك"
تحررت الدموع من عيونها جارية على وجنتيها فأبعد وجهه وهو يدرك نظراتها، كان يرى الألم بعيونها ولكنه لم يستطع إيقافه، هو بالفعل له حياته كما قالت، مي وعزيز والدها والوعد الذي قطعه له والعمل المشترك بينهم واسمه وسمعته و.. الماضي
نهض وقد شعر بالحرارة تسري بجسده وابتعد عنها وعن نظراتها فهي تؤلمه وتوهنه وتفقده حتى التفكير بالصواب، تابعته وهو يتحرك مبتعدا وقد شعرت بطعنة بمنتصف قلبها مزقته نصفين دون رحمة، هذا هو ما يريده؟ تعويضها؟
قالت بألم واضح بكل كلمة من كلماتها "لم أطالبك بأي تعويض سيد ليث وبمجرد أن أستطيع وضع قدمي بالأرض سأجد عمل وأعيد لك كل ما دفعته من أجلي وصدقني أنا لست بحاجة لمساعدتك"
رفع أصابعه ليبعد خصلات شعره عن جبينه ولم ينظر لها وهو يقول "عهد قراري لا عودة به سترحلين معي بعد ثلاثة أيام وتكملين شفائك هناك وكما أخبرتك سأضعك على نقطة البداية ووقتها تتحررين مني"
وقبل أن تعترض دق الباب فانتبه الاثنان وتحرك هو للباب ليفتحه فرأى فتاة تصغر عهد فقالت "مساء الخير أنا مها"
هز رأسه وتراجع لتدخل وهو يقول "الآنسة عهد، عهد هذه مها ستهتم بك باليومين القادمين، مها تعليمات الطبيب بتلك الورقة"
أخرج ورقة الطبيب ومنحها لها ثم التفت لعهد بنظرات جامدة وقال "سيصلك هاتف مسجل به أرقامي ورقم رحمة ودكتور منصور"
وتحرك خارجا دون أي كلمات وحاولت وقف دموعها وهي تتابعه يذهب دون أن يمنحها فرصة للجدال وهو يعلم أنها لن تفعل أمام الفتاة وهي لا تفهم كيف تبدلت بهم الأحوال؟ منذ ساعات قليلة كان يقبلها برغبة وسعادة والآن يتحدث عن التعويض؟ هي لا تفهمه ولا تعرف ما الذي يحدث؟ لماذا يتلاعب بها؟ لأنها أضعف من أن تقاومه وتوقفه، هي تريده، قلبها يأمرها أن تطيعه ولكن عقلها يخبرها أن كل ذلك خطأ وعليها إيقافه فهي ليست بحاجة لأي تعويض ولكن كيف يمكنها الرحيل وهي لا تقوى على الحركة ولا تملك أي شيء؟؟
قاد السيارة بغضب من نفسه وهو لا يفهم ما الذي فعله بالأعلى؟ هو أصلا لا يفهم ما الذي يدور داخله؟ أوقف السيارة بعيدا عن الزحام بقوة جعل جسده يرتد بالمقعد وظل ممسكا بالمقود بيديه بقوة لم يشعر بها وهو لا يعلم لماذا يبحث عنها ويهتم بها ويتمسك بأن يصحبها معه؟ شعر بأصابعه تؤلمه فأبعدها لرأسه وكأنه يريد إيقاف الأفكار عنها، ولكنه لا يفكر سوى بها، لا يرى سوى عيونها الحزينة، لا يسمع إلا اسمه من بين شفتيها الرقيقة، لم يرد سوى تلك القبلة التي تمنى لو حصل عليها مرة أخرى، لماذا هي بالذات؟ له سنوات عديدة يعرف مي وكثيرا ما وضعت نفسها بين أحضانه مؤخرا بعد الخطوبة ولكنه كان يبعدها دون رغبة بها بينما كان جسده كله يهتز عندما يحملها بين ذراعيه ويتسرب عطرها لأنفه، ويتمنى لو ظلت بين أحضانه للأبد، ان يشعر بالحرارة تذيبه عندما يمرر يده على وجنتها وتنتهي الدنيا من حوله عندما يلتقي بقبلتها، حتى عقله ضعف لحظة أمامها وفلت جزء من سره أمامها
كفى، أغمض عيونه وهو يشعر بألم بمكان ما بجسده ولكنه لا يريد أن يعرف أين الألم ولا سببه ولا حتى كيف الشفاء منه فحياته تعقدت أكثر وأكثر وعندما حاول الهروب فشل وأسرع إليها بجنون لمجرد أنها أصيبت، ترك عمله والمعرض الدولي، وخطيبته وحياته وكل شيء من أجلها، ماذا أصابه وكيف الشفاء من المرض الذي أصابه؟ هل برحيلها معه الدواء؟ هو يعلم أن بذهابها معه فهو يحكم على نفسه بأن يحيا ما تبقى له بالعذاب والألم فلماذا يصر على ذلك؟ هي على حق لا يجب أن تذهب معه ومع ذلك لن يستطيع تركها، لا يمكنه أن يعود لخداع نفسه مرة أخرى..
****
مها كانت ممرضة ممتازة ساعدتها على الاغتسال وتبديل ملابسها وتناول الطعام والدواء وحاولت تجنب التفكير به وبما يريده لأنها متعبة وتحتاج للراحة وبعدها ستعيد التفكير بكل ما يحدث وستوقف الخطأ مهما كلفها الأمر من ألم وحزن..
بالفعل مع نهار اليوم التالي كانت أفضل حالا وقد فكرت وقررت ولكن الهاتف رن لترى اسمه، كان عليها أن تجيب ففعلت وسمعته يقول "صباح الخير كيف حالك اليوم؟"
خرج صوتها هادئ كما أرادته تماما وهي تقول "صباح الخير، الحمد لله أنا بخير"
كان يدخل جناحه بالفندق فقد أمضى الليل كله بالخارج،  قاوم رغبته بأن يدق بابها ويدخل ليراها فرؤيتها تزيد من صعوبة ما يحدث بينهم لذا اكتفى بالهاتف
"ومها؟"
كانت الفتاة تبعد الطعام فقالت هي "جميلة وماهرة بعملها"
ألقى جاكته بعيدا وفك ربطة العنق وتركها تتدلى على صدره كالعادة ثم توقف أمام النافذة وقال "الدواء والطعام؟"
تنهدت وقالت "أفعل لا تقلق"
ظل صامتا والكلمات تفر منه ولا يملك إيقافها فقالت هي "هل انتهيت من معاذ؟"
استعاد عقله وقال "نعم وتم الانتهاء من الأمر، دولت تشكرك"
صمتت قليلا ثم قالت "هل هي بخير؟"
التفت وعاد للمقعد وجلس وهو يجيب "نعم، هل تحتاجين أي شيء؟"
تمنت لو تراه ولكن عليها ألا تفعل ومن الأفضل أن تمنحه إحساس بعدم الاهتمام ربما يبتعد فهذا هو الأفضل لها حتى لا تغوص بالحزن أكثر فتغرق وتنتهي
قالت "لا شكرا لك"
ظل صامتا من نبرتها الباردة حتى قالت "من الواضح أنك مشغول"
قال بصوت لا يعلن عن أي شيء بداخله "نعم سأهاتفك عندما أنتهي"
وأغلق كلاهم دون أي إضافة أسندت رأسها على الفراش وأغمضت عيونها وهي تقاوم الألم والدموع وتعلم أنها تسبح ضد التيار الذي يجرفها للدمار، نفس الدمار الذي كان يدركه هو الآخر، دمار لاسمه وسمعته ومستقبله
****
استيقظ على رنين الهاتف المستمر فجذب الهاتف بيده ليرى اسم مها فاعتدل وأجاب "مها ماذا هناك؟"
صوت الفتاة كان فزعا وهي تهتف "الآنسة عهد ليست بالغرفة ولا أعلم أين ذهبت سيد ليث"
أبعد الغطاء بقوة ونهض وهو يقول بغضب "ماذا تعنين؟ وأين كنتِ أنتِ؟"
كان يرتدي ملابسه وهي تقول "نائمة، لقد غفلت دون أن أشعر وعندما أفقت لم أجدها"
أغلق الهاتف واتصل بموظف الاستقبال "مساء الخير يا فندم أي خدمة؟"
انتهى من ارتداء باقي ملابسه دون ربطة العنق وهو يقول "هل رأيت الآنسة عهد؟ المصابة التي وصلت معي على المقعد المتحرك"
أجاب الرجل "آسف سيدي ولكني تسلمت الدوام منذ دقائق، ربما خرجت قبل وصولي"
تحرك خارجا وهو ينهي اتصاله والجنون يأخذه وهو ينزل وسأل الرجل الذي يقف على باب الفندق عنها فقال "نعم رأيتها، لقد ساعدتها حتى تأخذ سيارة أجرة"
جز على أسنانه من الغضب ولام نفسه لأنه لم يضع رجال على باب غرفتها، حاول ألا ينثر غضبه على من حوله وهو يقول "ألم تخبرك بمكان ذهابها؟"
أجاب الرجل "لا، لم أسمعها وهي تخبر السائق بوجهتها"
منح الرجل بعض المال وتحرك لسيارته وقاد بجنون والغضب يسيطر عليه، اتصل بهاتفها والغريب أنه سمع صوت مها تجيب "إنه أنا سيد ليث، لقد تركت الهاتف هنا"
ضرب المقود بيده وهو يغلق الهاتف ويهتف "اللعنة عهد، اللعنة على جنونك كان لابد أن أتوقع ذلك ولكني لم أظن أن ترحلي بتلك السهولة، لماذا؟"
المشفى لم تكن وجهته وإنما ذهب لرؤية رحمة لذا تفاجأت عندما رأته وظنت أنه بزيارة أخيه وعندما سألته عنها أدرك أنها لم تراها، سأل عن عزت ولم يجده فعاد لسيارته وهو لا يعلم أين يبحث..
تمددت بصعوبة على الفراش وأغمضت عيونها، ربما الآن يمكنها أن تنام ولكن كيف؟ كيف تنام وهي لا ترى سواه ولا تستطيع إيقاف صوته؟ لقد هيمن على كل حياتها بقوة لا يمكنها ردعها وحتى لو فرت منه سيظل يسكن عقلها وقلبها بل كل كيانها..
نامت بتعب ولم تشعر إلا عندما سمعت صوتا من حولها ففتحت عيونها لترى الظلام بالخارج وضوء خافت بالغرفة و؟ حاولت أن تعتدل ولكن بالطبع الألم منعها وتحرك الشبح الذي عرفته تجاهها وتوقف أمام الفراش وقال
"هل فكرت لحظة واحدة بأنك قد تضرين بنفسك وإصاباتك مما فعلت؟"
ظلت بمكانها وقد كانت تعلم أنه سيصل إليها فلم تبعد عيونها عنه وقالت "أخبرتك أني ممرضة وأدرك"
انحنى عليها ورأت عيونه تلمع ببريق ناري وهو يقول بغضب مكتوم "أنتِ لا تدركين أي شيء ولا تجيدين التصرف بأي شيء، كل ما تريدين فعله هو إعلان التحدي تجاهي"
لم تتراجع وهي تقول "لا أفعل"
لم يبتعد وهو يقول "ووجودك هنا"
قالت بإصرار "هو الصواب"
لم يبعد عيونه عنها ولا هي وهو يقول "عهد أنت لا تنصتين لأي كلمة مما أقول أليس كذلك؟"
قالت بألم "ولماذا أفعل؟"
تراجع معتدلا من كلماتها للحظة قبل أن يقول "لا أفهمك"
أبعدت وجهها دون أن تتحرك وهي تقول "أنت أيضا لا تسمعني، أخبرتك أني لا أريد الرحيل وأنت لا تنصت لذا"
هتف بغضب "ووجودك هنا هو ما تريدين؟"
قاومت الدموع وهي تقول "ببلدي؟ نعم بين من أعرفهم، أنا لا أريد الرحيل لمكان لا أعرفه لماذا لا تتركني؟"
التفت وقال "لأني"
ولم يكمل وعلقت الكلمات بحلقه دون أن تخرج والتفت مبتعدا مرة أخرى بينما أغمضت هي عيونها بألم وقالت "سيد ليث أرجوك دعني أخرج من حياتك، حياتنا مختلفة أنا فتاة ملجأ نشأت وعشت وحيدة لا أعرف عن العالم الآخر شيء، رضيت به ولا أريد تغييره، وأنت، أنت من عالم آخر وبلد آخر ولا يمكن أن نجتمع، أخبرتك وما زلت أخبرك أن لك حياتك وناسك وأنا لست منهم ولن أكون لذا ليتحرر كلا منا من الآخر وننتهي من كل ذلك"
ظل صامتا دون أن يواجها وهو يدرك أنها على حق فزاد ثقل الصمت على كلا منهما وهو لا يجد كلمات يجيب بها وهي ظلت تترقب الرد
عندما التفت لها قال "نحن لسنا مختلفين عهد، بيننا الكثير مشترك، الوحدة، اليتم، الألم والحزن الذي عاش به كلانا لذا وقتما رأيتك أدركت أن بيننا الكثير مشترك"
أخفضت وجهها وقالت " ليس معنى أن اخوتك ليسوا أشقائك أنك عشت مثلي"
تحرك وجلس وهو يشعر أن ضعف غريب لم يعرفه من قبل هاجمه جعل ساقاه غير قادرة على حمله، الماضي فقط هو ما يوهنه ويهزمه يقتل به ليث، الأسد الجامح والذي لم يستطع أحد إيقافه ومع ذلك هو الآن يتوقف معها هي فقط يسقط متهاويا من ثقل الذكريات وألم غدر الجميع
قال بألم "ومن قال أن الحكاية تقف هنا؟"
رفعت وجهها له ورأت تجاعيد وجهه التي ظهرت فجأة ونظراته التي تبدلت من الغضب إلى الحزن والألم فقالت "لا أفهم"
لم ينظر لها بل ربما لم يكن يسمعها ولم يدرك أن لسانه كان ينطق بما كان يراه ونظراته تتجول بالماضي وهو يرى نفسه "كنت بالخامسة عندما اكتشف مدرس الرسم بالمدرسة موهبة الرسم لدي ولكنه لم يكن يفهم ماذا تعني رسوماتي لكن هو فعل، إبراهيم الجبالي فهم من أول نظرة فهو كان يملك محل مجوهرات كانت دولت قد باعته له تحت ضغط منه بعد أن خسر خاصته، وقتها عرفت دولت أني ورثت الموهبة من جدي والدها هذا ما قالته، في البداية أشرقت الدنيا لي ولسعادته بي وبعدها بخمس أعوام كان معاذ قد أصبح بالثامنة طفل مدلل وغير موهوب مثلي الجبالي يفضله علي بكل شيء، لا عقاب، لا ملامة على أي خطأ على العكس مني بالطبع، لم أهتم فهم إخوتي وسعادتهم تهمني"
ابتلع ريقه وما زال يرى كل الذكريات ترتد له من وراء ثمانية عشر عاما فأكمل "نورهان كانت فتاتي المفضلة، نلعب ونلهو، اعتبرتني حاميها الأول، كانت ما زالت صغيرة جدا وجميلة ومطيعة، عندما نضجت أكثر تأكدت موهبتي وتبعثر أمر الجبالي بمعاذ وهذا ما بدأ يثير جنونه خاصة وأني لم أعد أحيا بجلبابه فقد نشرت صوري على النت كطفل بالحادية عشرة يريد الشهرة وتجميع أكبر عدد مشاهدة وبالفعل انهال الإعجاب على كل ما نشرته وإنهال هو علي بالغضب لأن ذلك ضرب نجاحه بمقتل فقد كان غضبه مني بذلك اليوم لا مثيل له ولم أفهم سببه ولكن بعدها بأيام قليلة سمعت دولت تبكي بقوة بالهاتف وتحكي لأحد ما أنه كان يأخذ تصميماتي وينسبها لنفسه وحقق منها نجاح باهر جعل المحل اثنان وثلاثة وعندما أقدمت أنا على فعلتي تهددت نجاحاته بالخطر و"
توقف فاحترمت صمته ومع ذلك لاحظت أنه لا ينعت دولت بالأم ولو لمرة واحدة، أما هو فكان ما زال عالقا بالماضي وكأنه سافر عبر الزمن وارتد سنوات للخلف وهو يرى دولت التي امتلأت عن آخرها بالحزن والألم والدموع تتحدث بالهاتف ووجهها، أغمض عيونه بألم وقال
"وقتها دفعنا جميعا ثمن أفعالي"
نهض وتحرك تجاه النافذة وظل شاردا لحظة قبل أن يقول "لم أكن أفهم سبب غضبه فأي أب كان ليفخر بابنه وبأنه أفضل منه ولكن بعدها توقفت عن الرسم، أصبت بحالة نفسية من الخوف بسبب غضبه مني ومنها فلم أستطع الرسم وهو ما أثار جنونه أكثر ولم يتوقف عن عقابنا نحن الاثنان ولكن هي استطاعت أن توقف كل ذلك وكطفل أمكنها أن تمنحه بعض الهدايا والسفر لأماكن جديدة فعدت لنفسي وهو ابتعد عني وعاد لي قلمي ورسمت، عندما وصلت الخامسة عشرة كنت أمنحهم الرسم وأيضا أعرضه على النت وقد كنت وقتها قد فهمت أصول اللعبة جيدا وحصلت على عروض كثيرة كان أفضلها أمريكا وبعتها وحصلت على أموال رغم صغر سني إلا أن الشركة لم تهتم وأرسلت لي الأموال على المدرسة وقد كان مدرس الرسم هو من يتسلمها نيابة عني لأن لا أحد كان يعلم بالأمر سواه، أما الجبالي فكنت أمنحه تصميم وأبيع الباقي باسمي دون علم أحد وبالثامنة عشر أوقفت كل شيء"
التفت لها فوجدها تحدق به وكلها انتباه لكل كلماته دون أن تقاطعه وهو أكمل "لأني وقتها عرفت الحقيقة وكان لابد من الانفصال وكانت أمريكا هي البلد التي رحبت بي ربما ليس بأول أيام لي هناك ولكن بعدها تلقاني جون وقد عرفته وهو من ساندني، كان صغير ما زال بأواخر العشرينات تصادقنا وعلمني الدفاع عن النفس عندما عدت له مرة وقد تشاجرت وضربت بقوة من أحدهم وشعر بالغضب وهو أصلا مدرب فعلمني كل شيء ولم يقف ضد أي قرار من قراراتي بل شجعني حتى حققت كل نجاحاتي"
لاحظت أنه لم يذكر تلك الحقيقة التي كانت سببا لرحيله فقالت "وهم وافقوا على رحيلك؟ والدتك، أهلك؟"
ظل ينظر لها وهو يعلم أنه لم يذكر باقي الأمر فقال "هي أرادت ذلك"
ضاقت عيونها وهي تسأله "هي؟ هي من؟"
أبعد عيونه وقال "دولت، هي من طلبت مني الرحيل"
اتسعت عيونها وهي لا تفهم أي شيء ولا تعرف سبب أن تتخلى أم عن ابنها بدون سبب
رن هاتفه ليقطع شريط الذكريات وحمد لذلك لأنه لم يرد أن يكمل، الظلام الحقيقي يكمن بالحقيقة المخفاة،  رأى اسم مي فأجاب دون تركيز بينما ظلت هي شاردة بكل ما حكاه من قسوة الأب والأم على طفل بمثل عمره ثم تركه يحيا بعيدا وهو ما زال شابا صغيرا في بداية حياته
سمعته يقول بهدوء سكنه بعد سرد جزء من ذكرياته لم يظن يوما أنه سيعيده حتى على نفسه "لابد أن أكون هناك بعد الغد، ما هو قرارك عهد؟"
لم تكن تستطيع أن تفكر أو تتخذ قرار وتاهت نظراتها بلا هدى فتحرك تجاهها وجلس على طرف الفراش وأمسك يدها فارتجف جسدها من دفء يده ونظر لعيونها وقال بنبرة هادئة "أنا أعلم أني لا أستطيع أن أمنحك الحياة التي أراها بعيونك ولكن يمكنني أن أمنحك مستقبل أفضل من الذي عشت به، أعلم أن دكتور منصور يحبك ويساندك كما فعل اليوم ولكن إلى متى يمكنه فعل ذلك؟ قريبا ستجدين من يقف بطريقك ويحاول نزعك من حياته لذا أنت بحاجة ليكون لك طريقك أنت كما فعلت أنا، طريق لا أحد يمكنه أن يتحكم به سواك وهذا ما أريد أن أمنحه لك، الاستقلال عهد لابد أن تخرجي قوتك الكامنة خلف الممرضة كي تمنحك القدرة على النجاح بالقادم لا أن تقفي عند خط واحد فهل تمنحيني فرصة مساعدتك حتى تستعيدي قوتك ولا تسأليني لماذا أفعل ذلك لأن ليس هناك إجابة"
كانت كلماته واضحة وهي تعلم أنها أضعف من أن تبتعد عنه مرة أخرى، على الأقل لا يفرق بينهم بلاد، فهي ذاقت طعم فراقه مرة ولا تريد العودة، رفع يده لوجنتها كما اعتاد وهمس
"فقط لا أريد أن أعود هنا مرة أخرى وأنت من يعيدني فهل توافقين؟"
تمنت لو تسمع منه سبب كل ذلك ولكنه أجاب بألا إجابة وهي لم تستطع مقاومته أكثر من ذلك فهزت رأسها بالموافقة وظلت يده تداعب وجنتها ونظراتهم تعني الكثير حتى دق الباب فتركها ونهض بينما فتح الباب ودخل منصور الذي تأملهم وقال
"أنا لم أخبره شيء يا عهد"
ابتعد ليث بعيدا بينما قالت هي "أعلم دكتور وأنا آسفة لأني أقحمتك بكل ذلك"
تحرك تجاهها وقال "لا داعي للأسف ولكني بحاجة لأن أفهم"
التفت هو إليه وقال "ليس هناك ما تفهمه دكتور هي أرادت رؤيتك قبل أن ترحل"
التفت لها منصور وسأل "ترحل؟ ترحل إلى أين؟"
أجاب ليث "أمريكا، لقد حصلت لها على عمل هناك وبمرتب كبير وهناك يمكنها أن تدرس وتنمي قدراتها أكثر من هنا"
عاد منصور له وقال "وتحيا هناك وحدها؟"
ابتعد هو وقال دون أن يواجه أحد "وما الضرر بذلك؟ هي ليست فتاة صغيرة دكتور الفتيات هناك تستقل بمجرد وصولهم الثامنة عشر"
غضب منصور وقال "هناك وليس هنا سيد ليث، وليس عهد"
قاطعته "دكتور أرجوك لا تخشى شيء، لقد تعلمت الكثير مؤخرا وأدركت أنني لابد أن أواجه العالم الذي أعيش به، لن أظل عمري كله أخاف من مواجهة الآخرين"
حدق بها منصور قبل أن يقول "الآخرين هنا أمرهم سهل يا عهد لكن هناك، هناك عالم آخر لا تعرفينه ولن تجدي باب تدقين عليه وقت الحاجة"
قال ليث بقوة "ما زلت موجود يا دكتور"
التفت منصور له بحزم وقال "أنت لك حياتك سيد ليث وقريبا ستتزوج وزوجتك لن تقبل بامرأة أخرى بحياتك أليس كذلك؟"
شحب وجه الاثنان وثبتت نظراتهم على منصور بينما هدأ ليث من غضبه وقال "لا أحد يمكنه أن يملي علي تصرفاتي دكتور حتى ولو كانت زوجتي، عهد مسؤوليتي ولن أتخلى عنها"
لم يتراجع منصور وهو يقول "تزوجها إذن وامنحها الصفة الشرعية بحياتك وسبب مقنع لما تفعله معها"
قنبلة ارتج لها الاثنان فجرها الدكتور بوجههم الذي امتقع أكثر وأكثر ولم يبعدوا نظراتهم عنه وساد صمت قاتل عليهم جميعا ومنصور يبدل وجهه بينهم إلى أن قال هو بثبات غير حقيقي "لا يمكنني أن أفعل ذلك، تعلم أني خاطب والقانون الأمريكي لا يسمح بتعدد الزوجات فهو يعتبر جريمة"
تصاعدت دموع لعيونها فكلماته تعني أنه يبقي على مي ويرفض التراجع بزواجهم بينما قال منصور "اترك خطيبتك"
ابتعد وقال "لا"
أغمضت عيونها بألم بينما قال منصور "إذن ابتعد عن حياة عهد، لن توقف حياتها، لا تكن أناني"
التفت له بقوة وقال "أناني؟ أناني لأني سأمنحها حياة ومستقبل أفضل بكثير من هنا؟ أنت تعلم جيدا ماذا يعني النجاح هناك وممرضة ماهرة مثلها ستكون لها حياة رائعة هناك فلماذا تمانع؟"
تحرك منصور تجاهه ووقف أمامه وقال بقوة "لأني لا أتحدث عن عهد الممرضة ليث، أنا أتحدث عن المرأة أتحدث عن قلب عهد الذي تطالبه أنت أن"
صوتها أوقف منصور "دكتور كفى من فضلك"
التفت لها الرجل بحدة وهو يرى دموعها وهي تكمل "من أجلي توقف"
كانت تعلم أن منصور يرى ما بداخل قلبها لذا طالبه بالزواج منها ولكن رفضه جعلها تتألم أكثر وتصر على أن تجعله يدرك أنه لا يمثل لها شيء كما هي بالنسبة له، مجرد فرصة للحصول على مستقبل أفضل من هنا لذا قالت بقوة غريبة
"عهد الممرضة هي التي عرفتها طوال عمري ولا أريد سواها وعهد الممرضة هي التي تريد أن تكمل نجاحها وهناك أفضل لها من هنا، حضرتك تعلم أنني لو بقيت هنا فلن أحقق أي شيء، سأظل للنهاية مجرد ممرضة بمرتب لا يذكر لكن هناك سيد ليث أخبرني أني ربما أستطيع الدراسة وربما أصل لنجاح أكبر، فمن فضلك دعني أذهب ربما أحقق ما فشلت به هنا"
تحرك الرجل تجاهها وجلس بجوارها وقال "أنتِ تدمرينها"
سالت الدموع من عيونها وهي ترد "أنا أعيدها لمكانها الصحيح دكتور، صدقني هذا هو الصواب فدعني أعود لنفسي التي كدت أفقدها ولو فشلت فلن أملك سواك ليتلقاني بين أحضانه"
اقترب منها الرجل وجذبها إليه فأغمضت عيونها بين أحضانه وهي لا تمنع الدموع بينما همس هو دون أن يسمعه سواها "سيندم يا ابنتي لأنه فقد قلبك الطيب هذا" لم ترد ولا أحد زاد بأي كلمات
يتبع..

رواية وجهان لامرأة واحدة   بقلمي داليا السيدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن