الفصل السادس والعشرين
قيود وأغلال
نظرا لتشتيت ذهنه فقد اختصر جولته ولم يطل غداء العمل وحتى لقائه بمدير التسويق كان مرهق بشكل لم يعرفه من قبل وانتهى بالسابعة عندما ركب سيارته وهاتفها ليخبرها بأنه بطريقه لها فأبدت سعادتها بانتظاره ولم تبدي أي اهتمام لوالدته مما زاد غضبه
ما أن وصل لبيت دولت حتى ظل بالسيارة ولم يتحرك، ثابتا خلف المقود ونظراته أمامه ومشاعره تتخبط داخله، حاول استدعاء ذكرياته المؤلمة التي تغضبه ولكنها فرت منه وكأنها فرغت، ذابت وضاعت وتذكر كلماته لزوجته من أنه تحرر فهل فعل حقا؟
أخرج الهاتف ليخبرها بوصوله ولكن باب البيت الأمامي فتح فجأة ورأى بريهان تقف على عتبته فتسمرت نظراته عليها وتأرجحت مشاعره ما بين الغضب القديم الذي ضعف حتى كاد يتلاشى وحل مكانه مشاعر الأخوة، الأخ الأكبر الذي كان ملاذ لأخته الصغرى
تحركت بريهان ببطء لاحظه بالتأكيد وأدرك ما تعانيه من صعوبة لأنها ببداية الأمر فلم يتحمل أن تعاني لتصل له فتحرك خارج السيارة بطريقه إليها وقال بقلق "ليس عليك الحركة بريهان ما زلتِ ببداية الأمر"
رفعت يدها واحتضت يداه التي ساندتها بقوة وارتفعت رأسها لتتلقى نظراته التي امتلأت بالحنان وابتسمت وقالت "أردت أن أكون باستقبالك أخي، أنت أول مرة تأتي لزيارتنا"
انشق قلبه لكلمات أخته فقبل جبينها وقال "وأنا سعيد برؤيتك بخير بيري"
نطق باسم لم ينطق به منذ سنواته القاتلة فدمعت عيون بريهان وقالت "افتقدتها أخي، افتقدتها جدا وافتقدتك أكثر"
لم يستطع منع نفسه من أن يضعف أمام دموعها وكلماتها ووجد نفسه يجذبها لأحضانه باشتياق عمره عشرون عاما وقال "وأنا هنا الآن بيري"
ظل العناق لوهلة حتى ابتعدت ونظرت له وقالت "عهد تمنح ماما الدواء هل تفضل انتظارها هنا أم بالداخل؟ لقد أعددت لك العشاء مع الفلافل المصرية التي تحبها ماما منحتني الطريقة وعهد ساعدتني"
تراجع من كلماتها ونظرة بعيونها كلها رجاء وعندما رأت التردد بعيونه هتفت برجاء "من أجلي ليث ادخل نحن لا نملك سواك أخي"
دموعها كانت غريبة على بريهان التي عرفها مؤخرا بريهان اليوم امرأة أخرى، مسح دموعها بيده وهز رأسه بالموافقة فابتسمت وأمسكت يده بسعادة وقادته للداخل
البيت كان هادئ جدا وما أن دخل حتى رأى عهد تخرج من غرفة جانبية ظن أنه الحمام، منحته ابتسامتها التي يعشقها وهي تتحرك له ليمنحها قبلته وقالت "افتقدتك حبيبي"
أحاطها بذراعه وقال "وأنا عهد، هل أنتِ بخير؟ تبدين متعبة"
قالت بريهان بسعادة "لقد خرجت لتوها من نوبة غثيان، مبروك أخي سأكون عمة قريبا هذا رائع"
التفت لها وقال "هل نذهب للطبيب؟"
وضعت يدها على صدره وقالت "لا حبيبي هو الحمل أنت تعرف، هل نذهب؟"
هتفت بريهان من خلفها "ليس قبل تناول الفلافل التي أعددتها له عهد"
وتحركت للداخل فنظر لها وقال "كان عليكِ العودة للبيت"
رفعت يدها لوجنته وقالت "أنا حقا بخير لقد كان يوما رائعا"
لم تتبدل ملامحه وهي لا تبدي أي اهتمام بأمر أمه وهذا يزيده توتر وكاد يتحرك ولكنها قالت "ربما تفضل رؤية والدتك قبل العشاء"
ظل صامتا دون أن ينظر لها فعادت تقول "على فكرة أنا رأيت غرفة أطفال رائعة على النت مع بريهان هل تراها معي؟"
التفت لها وقال بجدية "لا تفعلي عهد"
صمتت وذهبت ابتسامتها وقالت "لا أفعل ماذا ليث؟"
قال بجدية "تدعين أن الأمر عادي لأنه ليس كذلك"
تحركت أمامه وقالت "أي أمر؟"
ظل ينظر بعيونها باحثا عن أي شيء ولكن صوت دولت أوقفه وهي تقول "كيف حالك ليث؟"
تراجعت عهد والتفت هو لدولت على مقعدها المتحرك وهي تخرج من غرفة ثانية وقادت مقعدها تجاهه حتى وقفت أمامهم وقالت "أردت أن أشكرك لأنك سمحت لعهد بزيارتي"
لم يرد وظل يتجول على وجه دولت ولقد تفادى ذلك الأمر منذ عودته لها، لم يشأ رؤية ملامحها وتذكر وجهها المحمل بالحب والحنان، ولا ابتسامتها التي كانت تمنحه السعادة، الآن رأى تجاعيد كثيرة على البشرة التي كانت تضج بالحيوية والجمال، رأى عيون تمتلأ بالألم والحزن، رأى فم مذموم يغلق على كلمات لا معنى لها سوى ما تنطق به عيونها 'سامحني'
أبعد وجهه وقال "هي أرادت ذلك ونحن ببلد حر"
التفت ليرى عهد أمامه وكأنها تغلق عليه طريق الرجوع وعيونها صامتة لا تنطق بأي معاني، احتار وهو يتجول داخل وجهها عما تخفيه حتى سمع دولت تقول
"لو تحدثت عن الحرية فأخبرني كيف تكون لأني لم أعرفها بأي يوم"
ظل ثابتا ونظراته لا تفارق عيون زوجته، هل بها قوة خفية توقفه هنا تجعله يواجه ما لم يواجهه من قبل؟ ما رفض أن يواجهه؟
قال "كل شخص يختار طريقه جيدا فلماذا الندم؟"
أخفضت دولت رأسها وقالت "وماذا لو لم نكن نملك الاختيار ليث؟ ماذا لو كان الأمر كله فرض، قيد، سلاسل التفت على حياتي فلم تمنحني أي حرية وسلبت مني حتى أنفاسي"
وأخيرا التفت لها ورأى رأسها المتخاذل فتألم وهو يقول بحدة "ومن صنع تلك القيود؟ من الذي وضعها حول يديك؟ من الذي وضعك بسجن دام العمر كله؟ أليس أنتِ؟ ألم يكن خطؤك؟"
لمسة رقيقة من يد عهد جعلته يرتد خطوة بحدته بينما لم ترفع دولت وجهها وهي تجيب "نعم، خطأ عشت عمري كله أدفع ثمنه"
تنفس بعمق ليمنح نفسه الهدوء وقال "أي خطأ بالظبط فهي كثيرة؟"
رفعت وجهها الملطخ بالدموع وواجهت نظرات الاتهام بعيونه وقالت "تزوجت إبراهيم"
التفت بعيدا وضاقت عيونه وقال "وإيجادي بالدنيا؟"
قالت بقوة دون تردد "لم أندم عليه لحظة واحدة"
التفت لها فأكملت بقوة "نعم لأنه خطأ منحني رجلا أفخر به بكل مكان، رجلا كان لي الظهر والسند، لم يتركني رغم قسوتي، لم أندم لحظة واحدة أني أنجبتك ليث، فقط طلبت التوبة من الله وتركت له أن يغفر لي ولكني لن أطلب منك أن تغفر لي ذلك لأني لست نادمة، لقد أحببت والدك وهو أحبني ولولا الموت لكنت تحمل اسمه ولكن هو القدر، الجبالي هو أكبر خطأ بحياتي وهو ما ندمت عليه طوال عمري، فقط ما جعلني أتحمل حياتي معه أنه منحك اسمه ومن بعده إخوتك لذا تقيدت بسلاسل لم يمكنني نزعها من حولي ليث، أردت لك الأفضل دائما ربما لم أحسن التفكير وقتها ولكن قلبي امتلأ بالخوف عليك منه ومن شره وكنت أعرف أنه قادر على إيذاءك لذا طلبت منك الرحيل، اخترت بعدك وأنت آمن على قربك وحياتك بخطر وهذا أيضا لست نادمة عليه اليوم بعد أن رأيت نجاحك وسعادتك أدركت أنه كان الصواب لأن ما يختاره الله لنا حتى ولو كان مؤلم فهو الأفضل دائما"
إنها نفس الكلمات، بل هي ليست نادمة، التفت لعهد وقال "أنتِ من منحها كلماتها لتوقفني؟"
صوت دولت أوقفه وجعله يلتفت لها وهي تقول "لا، هي لم ترد ذلك، هي أرادت أن أخبرك بندمي وأن أطلب منك السماح ولكني لن أفعل ليث لأني لست نادمة كما أخبرتك"
قال ببرود "والمطلوب؟"
ابتسامة ميتة على شفتي دولت وهي تقول "لقد أخبرتك ما لدي، فقط تبقى شيء واحد لابد أن تسمعه"
قال بنفس النبرة الخالية من أي شيء "أسمعك"
قالت دون أن تفر من مواجهته "أنت تعرف أنك ستظل ابني لنهاية العمر وأني سامحتك على كل ما كان وأسامحك على كل ما سيكون، أحببتك وأحبك وسأحبك لآخر نفس بصدري لا يمكنني أن أوقف لساني من أن يطلب وجودك معي وعودتك لأحضاني لأني أريد ذلك، أنا أريد ابني الذي حملت به وتعبت بولادته وتربيته ستة عشر عاما وفضلت سعادته على سعادتي، نعم ليث أنا أريد ابني ولن أتنازل عنه وعليك أن تعرف ذلك لأني لن أتوقف عن محاربتك لو لزم الأمر كي تعود لي هل تفهم؟ لن أتنازل عنك أبدا لأن ما تبقى بعمرى ليس بكافي لأعوض به ما ضاع مني بغيابك لابد أن تعود لي ليث لأني أحبك أكثر من كل إخوتك ولم يعوضني أحدهم عنك بأي يوم هل تسمعني؟ سأحاربك حتى أستعيدك لأني بحاجة لك أنا حقا بحاجة لك فقد انتهيت"
وانهارت بالبكاء كما تهاوت دموع عهد معها وشعر هو بألم لا مثيل له يخترق صدره والتفت مبتعدا حتى وصل للباب فنادته بريهان "ليث أرجوك"
توقفت يداه على المقبض وشعر بالهواء يتلاشى من حوله ففك ربطة عنقه وأزار قميصه بقوة بينما عادت بريهان تقول "لا تتركنا ليث، الماضي مات مع موته ولكن نحن ما زلنا نحيا وهي لن تحيا بدونك ولا أنا أخي"
مزقته الكلمات ولم يعد يدرك خطواته التالية وكأنه سقط بالمتاهة والظلام رفيقه وهو يتخبط بلا هدى، يد على كتفه جعلته يلتفت بفزع نافضا إياها ليرى زوجته أمامه ولم تفزع من مظهره بل قالت
"أوقف غضبك من الماضي ليث فلم يعد له مكان أنت أخبرتني أنك تحررت منه فلماذا تعيد قيوده؟ أغلق الأبواب ليث وافتح سواها مع من يحبونك ويتمنونك معهم، اغفر وسامح حبيبي وامنح الحب الذي بقلبك الفرصة كي يخرج دون قيد أو خوف أو ضعف، الحب هبة من الله لا يمنحها إلا لأصحاب القلوب الطيبة لمن هم مثلهم وأنت قلبك طيب حبيبي فامنحه الراحة التي يستحقها"
كلماتها بلسم يشفي الجراح، دواء لكل ألم، رفع يده لوجهها فابتسمت ومالت على يده بوجهها ثم رفعت يدها ليده وقربتها من فمها وقبلت راحته وقالت "أحبك ليث"
التفت ليرى بريهان تقف بجوار دولت والدموع تغطي وجهها، تركت عهد يده فتحركت بريهان له بخطواتها البطيئة حتى وقفت أمامه وقالت "لن تتركنا أليس كذلك؟"
وأخيرا أبعد قيود الماضي وأغلاله وأغلق عيونه وهو يتنفس بعمق بلحظة مر بها كل الماضي أمامه حتى وصل لامرأته التي دفعت الحب لحياته فأضاءت ظلام حياته وتخبره أن يزيح ما تبقى من الألم والحزن بعيدا عن حياته، يغلق أبواب الأسى ويفتح أبواب الأمل
فتح عيونه ليواجه نظرات بيري الحزينة وقال بهدوء "لا بيري، لن أفعل"
اندفعت الفتاة لأحضانه فضمها له بحنان وأدرك أن قلبه المريض كان بحاجة لهذا، بحاجة لمن أحبهم قلبه وحرمته الأقدار منهم ولن يندم على قراره
ابتعدت بيري من بين أحضانه وأمسكت يده وجذبته تجاه دولت فلم يعترض تلك المرة بل ترك قلبه يخرج الحب الذي بداخله بلا قيد أو خوف أو ضعف، تماما كما قالت زوجته
أوقفته بيري أمام دولت التي كانت تنظر له حتى قالت "سامحني ليث لو تسببت لك بكل ذلك الألم أنا حقا"
انحنى وأمسك يدها وقال بنبرته الهادئة "كفى"
عيونها الباكية تأملت كل ملامحه ورفعت يدها الحرة لوجهه وقالت "نعم حبيبي كفى كلانا تعب، افتقدتك حبيبي، افتقدتك بشدة ليث تعالى، دعني أضمك لصدري وأشبع قلبي من وجودك معي"
لم يرفض وتركها تجذبه بين ذراعيها وأغمض عيونه وهو يذكر أحضانها التي كان يستمتع بها بصغره، نفس الرائحة التي لم ينساها ولكن مع الوهن
ابتعد ناهضا ويدها تقبض على يده وقال "بيري أنا لا أحب الطعام بارد ألم تخبرك زوجتي؟"
أجابت دولت "أنا فعلت وطلبت منها ألا تكمل طهيها إلا بعد جلوسك على المائدة"
نظر لها ثم ربت على يدها وقال "حسنا هل تخبريها أن تفعل؟ الوقت تأخر ولابد أن نذهب"
تناولوا العشاء بجو اختلف تماما عما بدأ وكانت سهرة رائعة ربما لم يطلق لنفسه العنان وظل متحفظا بعض الشيء ولكن بالنهاية ودع الماضي نهائيا وبدأ الليلة عندما نادها ماما لأول مرة منذ عشرين عاما
*****
خرجت من الحمام ورأته كما اعتاد واقفا أمام النافذة بروبه الحريري والعصير بيده فتحركت له حتى وقفت أمامه وقالت "ألن تنام؟"
انتبه لها وقد بدت فاتنة كالعادة، هي بكل يوم تزداد جمالا بعيونه وبكل لحظة يزداد حبا لها ورغبة بها، ابتسم وقال وهو يبعد خصلات شعرها "فقط أنتظرك"
كانت السعادة تنطق من عيونها وهي تنظر له فقال "أحسد نفسي على الملاك الذي دخل حياتي ومنحني كل تلك السعادة"
رفعت يداها لصدره، فأبعد الكوب ولف ذراعيه حولها وقالت "وماذا عن الحب الذي تمنحه لي حبيبي؟"
انحنى وقبلها بسعادة وكأنه يشبع نفسه من عسل شفتيها الذي لا ينتهي حتى أبعدها وحملها كالعادة وعاد بها للفراش حيث نسى معها كل شيء عدا أنها معه
مرت عدة أيام كلها سعادة لها بوجوده معها كما دعا والدته وبريهان للعشاء ببيته بناء على طلبها وكانت لحظات عائلية سعيدة خاصة عندما انضم لهم جون وانزالت كل العقبات ورحل الجميع بالمساء بسعادة تعني أن حياتهم أخيرا استقرت
بالصباح داعب وجهها برقة ففتحت عيونها لتقبله بابتسامة ناعسة وهي تقول "صباح الخير"
تحرك بعيدا وقد كان بكامل ملابسه وقال " صباح الخير"
ابتسمت له وقالت "صباح الخير كالعادة لا أشعر بك"
ابتعد ليكمل ملابسه وقال "تبدين متعبة، هذا الولد مزعج، ماذا سنطلق عليه؟ "
أبعدت شعرها وقالت "ولم لا تكون فتاة؟ سنطلق عليه"
قاطعها "ولد حبيبتي ولن نختار أسماء الآن أنا فقط اسم تدليل سواء ولد أو بنت"
اندهشت من إصراره على ولد وقالت "حقا تريد ولد"
ظل يعبث بالهاتف وقال "أنا لا أصر بل هو مجرد حدس، أنا أيقظتك لسبب واحد لقد دعوت بعض الأصدقاء ورجال الأعمال لحفل تعارف هنا الليلة"
اعتدلت جالسة وهي تبعد شعرها وقالت وهو يتابع هاتفه دون توقف "حفل تعارف؟ ماذا يعني ذلك؟"
لم يرفع عيونه عن الهاتف وهو يقول "لا شيء حبيبتي فقط سترتدين فستان يليق بجمالك والباقي لمعدي الحفلات والذين"
ثم تحرك للنافذة وقال وهو ينظر للخارج "الذين هم بالفعل وصلوا وسيعدون لكل شيء"
وعاد لها واقفا أمامها والذهول على وجهها وهي تقول "لماذا!؟"
انحنى وطبع قبلة على شفتيها وظل ينظر بعيونها وهو يجيب "كي يتعرف الجميع عليك حبيبتي، أنا لن أتأخر ربما نتناول الغداء سويا"
وتحرك خارجا دون أن يمنحها فرصة لأي كلمات، نهضت حافية للنافذة وتابعته وهو يتحدث مع أحد الرجال ثم تركه وتحرك للسيارة حيث فتح له السائق فرفع عيونه لها مبتسما كما فعلت وركب وانطلق السائق به
تراجعت للمقعد وهي تحاول استيعاب ما قال، كانت تفزع من تلك المطاعم الفاخرة التي كان يصحبها لها ولا تحب الاختلاط بهؤلاء القوم فكيف ستتعامل مع حفل كهذا وهي ستكون المضيفة؟
تخللت كلماته القديمة ذهنها عن طرد الخوف خارج قلبها والتحلي بالثقة، لقد نجحت حتى الآن ولكن ترى هل يمكنها أن تحقق ذلك أيضا بحفل كهذا؟ هل سيمكنها التماسك أمام نظرات الجميع لامرأة فقيرة سرقت بليونير ومن امرأة أخرى؟ كيف سترد لو أحرجها أحدهم؟
اعتذر عن الغداء بالطبع وأخبرها بعودته قبل الحفل، لم تحاول مشاركة الرجال الموجودة بأي شيء وتركت لهم إعداد المكان بينما انتقت هي فستان ذهبي يتلألأ مع لون عيونها كان بالطبع طويل يحكم على صدرها وقد تركت قماشه الحريري ينساب ببساطة على باقي جسدها مظهرا انحناءاته التي تبدلت للأجمل خاصة بعد الحمل..
لفت طرحتها بشكل رقيق أظهر وجهها الأبيض المستدير ووضعت بعض الظلال على عيونها ورموشها وصبغت شفاهها بلون بني خفيف، احتارت ما بين قلادته والعقد ولكنه حسم الأمر وهو يقول من خلفها
"العقد حبيبتي"
التفتت له وهو يتقدم منها فابتسمت وهو ينحني ويطبع قبلة على شفتيها ثم أبعدها ليتجول على ملامحها الفاتنة وقال "تأخذين العقل عهد"
أراحت يداها على صدره وقال بابتسامة جميلة "أخبرتك أنك سبب جمالي هذا ليث فحنانك وحبك يفيض علي بالسعادة"
ابتسم وقبلها برقة ثم ابتعد وقال "العقد يناسب الحرير الرقيق حبيبتي، أحتاج حمام سريع"
ترك جاكته وتحرك للحمام فابتسمت ووضعت العقد والإسورة وارتدت الحذاء عندما خرج فقالت "جهزت لك الملابس حبيبي"
لم يرد وهو يأخذ ما وضعته له ويرتديه، ساعدته بارتداء الجاكيت ثم تحركت أمامه لتضبطه له فتركها تفعل وقال "تدلليني كثيرا"
رفعت عيونها له وقالت "أريدك أن تكون الأفضل الليلة وكل ليلة حبيبي"
داعب وجنتها وقال "سأكون طالما أنت مصدر إلهامي وسعادتي"
رن هاتفه فالتفت لتمنحه له فنظر له وقال "لقد وصل أحدهم هل ننزل؟"
تحرك ولكنها تسمرت مكانها فتوقف ناظرا لها بدهشة وقال "ماذا؟ هل بك شيء؟ الحمل؟"
هزت رأسها وقد شحب وجهها فجأة وازدادت دقات قلبها فارتد لها وأحاط ذراعيها بيديه وقال ناظرا بذهبية عيونها التي يعشقها "لن تتخلى عنك ثقتك تلك الليلة عهد، لن نرتد للخلف ولا تنسي أننا معا بكل شيء"
هزت رأسها وقالت "لم أنسى ليث، فوجودك هو مصدر قوتي وأماني، فقط أخشى ألا أكون مصدر شرف لك أمام أصدقاءك فأنت تستحق الأفضل"
ابتسم وقال "أنتِ الأفضل حبيبتي ولو كنت وجدت أفضل منك لكانت معي الآن ولكن قلبي اختارك أنتِ لأنه لم يقابل امرأة مثلك من قبل تمنحه كل ما تمنحيه لي من حب وحنان وسعادة، هيا عهد ولا تهتمي إلا بنا نحن الاثنان فقط وبطفلنا القادم هذا هو كل ما يستحق اهتمامنا"
ابتسمت وقد هدأ قلبها وارتاح من كلماته فقالت "أنا أحبك ليث، أحبك جدا"
رفع يدها لفمه وقبلها مبتسما ووضع يدها بذراعه فتحركت بجواره وقد منحها ما احتاجت له من ثقة وراحة وأمان..
عندما نزلا كان قد وصل جمع بسيط من الضيوف قام هو بالتعريف وقد كان بعض التوتر ما زال عالقا بها ولكنه زال بمجرد أن تمكنت من الابتسام والترحيب بالضيوف بطريقة رقيقة وسرعان ما وصلت والدته وأخته ورحبت هي بهما بسعادة وتبعهم جون
ابتسمت وهي ترى جين تتحرك تجاهها بأبهى صورة لها ودكتور جورج بجوارها فقالت "سعيدة بوجودكم"
احتضنتها جين وقالت "وأنا أكثر سعادة بخبر زواجكم عهد، مبروك"
حياها جورج وقال "مبروك عهد تستحقين رجل مثله ولكن نحن خسرنا رئيسة تمريض رائعة"
نهرته نظرات جين فضحكت عهد وقالت "كيف ذلك وجين هي الأفضل"
ضحك وقال "جين الأفضل كزوجة وستفعل مثلك تماما بعد شهرين"
تراجعت بسعادة وهتفت "حقا؟ مبروك سيكون زفاف رائع"
ضحكت جين وهي ترفع إصبعها بخاتم الزواج وقالت "نعم وستكونين وصيفتي"
قالت بسعادة "بالتأكيد"
وصل زوجها ورحب بهما بينما قالت جين بهمس "هل تعرفين أنها المرة الأولى التي يدخل أحد قصر الجبالي إنه متحف عهد"
ضحكت وقالت "ليث يعشق كل ما هو جميل جين"
لمعت عيون جين التي التقطت العقد وقالت "بالتأكيد كهذا العقد الرائع لاموند اسم تهتز له كل النساء"
شعرت بالفخر لأنها زوجة ذلك الرجل وقالت "بالتأكيد، ليث يستحق"
المختصون قاموا بدعوة الجميع للعشاء بتلك القاعة الهائلة والتي تم إعدادها بما يتناسب مع عدد المدعوين وانبهر الحضور جميعا بالتماثيل الفنية التي اصطفت بجوانب القاعة وبدت كالخدم تحمل صواني الطعام وأخرى أكواب الشراب والبعض الآخر تحمل شمعدانات بشموع مضاءة تضفي جوا رائعا على المكان
جلس الجميع وهو يجذب مقعدها لتجلس على يمينه وقد جلست أمه على يساره وما أن أعاد مقعد زوجته بعد أن جلست تحرك لمكانه على رأس المائدة ووقف بطريقة أرستقراطية وقال بصوته الواثق
"بالطبع أشكر الجميع على تلبية دعوتي للحفل الذي أقمته هدية لزوجتي التي لم تساعدني ظروفي على منحها حفل زفاف يليق بها"
رفعت وجهها المخضب بالأحمر له فابتسم لها ثم أكمل "وهو أيضا نوع من الشكر على وجودها بحياتي وتعبير عن سعادتي لأنها قبلت أن تكون شريكة حياتي"
أخرج علبة من جيبه وفتحها ليخرج منها خاتم بفص من العقيق بنفس لون العقد ونفس التصميم وسمع شهقات الإعجاب من الجميع ومد يده لها ونظراته على عيونها التي ترقرقت بها دموع الخجل والسعادة
نظراته جعلتها تمنحه يدها ليضع الخاتم بها ثم قبل ظهر يدها برقة وعيونه لا تفارق عيونها وهو يقول "أحبك عهد"
وانحنى ليضع قبلة على وجنتها وقلبها يؤلمها من قوة دقاته وهي لا تعرف ماذا تفعل وهي تضغط على يده وقالت برقة "كلمة الحب لا تكفي شعوري تجاهك ليث ولكن حقا لولاك لما كنت أنا ولولا وجودك بجواري لظللت عمري كله بالظلام ولا معنى لحياتي، أنت السعادة والأمان الذين لم أنالهم إلا يوم عرفتك أنا أحببتك ليث من كل قلبي، أحببتك وأحبك وسأحبك لآخر عمري حبيبي"
تعالت التصفيقات ورفع يدها لفمه وقبلها مرة أخرى بابتسامة رائعة ثم جلس مكانه وبدأ الجميع تناول العشاء وجين بجوارها تهمس "الخاتم رائع عهد، لم أحلم بأن أرتدى أي مجوهرات من لاموند إنها وهم عهد، للأغنياء فقط"
لم ترد وهي تفكر، منذ وقت تشعر أنه بعيد جدا كانت بالكاد تجد طعامها وملجأ للنوم واليوم هي هنا سيدة هذا القصر وتتلألأ مجوهرات أشهر وأغلى ماركة بالعالم على صدرها وبأصابعها، التفتت له وهو يتحدث مع والدته وكم زاد الحب بقلبها لذلك الرجل الذي صعد بها من الأرض إلى عنان السماء وأجلسها بجواره وكأنها ملكة بجوار الملك
كم أحبك ليث وأعشق حتى أنفاسك وأتمنى لو أمنحك أي شيء لأرد به ولو جزء بسيط مما منحته لي
بدأت فقرات الحفل بعد العشاء من الأغاني والرقص عندما توقفت بريهان بجوارها وقالت "هل تعلمين عهد أنها أول مرة لي أشارك ليث أي مناسبة بحياته؟"
نظرت لها بدهشة فأبعدت الفتاة وجهها وقالت "بالصغر لم يحب ليث حضور أي حفلات حتى أعياد الميلاد، يساعدنا بتزيين المكان ثم يكتفي بأن يبقى بغرفته وحده وما أن بدأت موهبته بالظهور على الملأ وبدأ بابا المشاكل حتى زاد انطواءه وتجنب التواجد معنا رغم أنه كان يملك من الحنان ما لم أراه من بابا نفسه معنا، معاذ كان يكرهه ويغير منه وبابا روى بذرة الكره داخله وعندما حدثت المشاكل بينهم ورحل ليث بعد أن"
توقفت فالتفتت لها عهد وقالت "أن ماذا بريهان؟"
رفعت عيونها لها وقالت "بعد أن عرفت أن ليث أخينا من ماما فقط"
تراجعت عهد وهتفت "كنتم تعرفون من وقتها؟"
هزت رأسها وقالت "أنا فقط عهد، سمعت ماما وهي تصرخ من تعذيب بابا لها وتصرخ بأن يرحمه من انتقامه وقتها لم أعد أعرف مشاعري وربما هربت منها ولم أمنح الأمر أي اهتمام كانت حياتي فارغة عهد لكن الحادث أعادني للعقل وأدركت أن ليث يحبنا من قلبه رغم كل ما كان منا تجاهه ولم يضر أيا منا حتى معاذ لذا أردته أن يسامحني ويعرف أني أيضا أحبه"
مسحت دموعها بينما ربتت عهد على ذراعها وقالت "هو يعلم الآن حبيبتي فلا تقلقي وانسي بريهان، لقد انتهى الماضي وطوته الأيام"
هزت رأسها وابتسمت وهي تقول "نعم معك حق وأنا سعيدة بوجودنا هنا معكم، بيتكم رائع حقا كل مكان يمتلكه أخي رائع عهد"
لحظات وانضم لهما زوجها وجون وكانت سهرة رائعة وليلة من ليالي العمر أهداها لها زوجها بمحبة خالصة تبادلها كلاهم، لاحظت أن بريهان تعرفت على رجل وسيم وجذاب وبدا أن يتابعها وهي تتحدث ثم تركته وابتعدت ولكن نظراته كانت ثابتة عليها لكن بريهان لم تكن تهتم
عندما عادا لغرفتهم وقفت بمنتصف الغرفة وهي تستعيد ليلتهم الجميلة عندما رأته يقف أمامها وقال "أنتِ بخير؟"
كانت عيونها كلها امتنان له فقالت "بأفضل حال حبيبي"
ابتسم وتحرك ليخلع جاكته فقالت "شكرا ليث"
لم يكمل وهو يرتد لها فتلقت عيونه وقالت "شكرا على كل ما قدمته لي منذ أول يوم عرفتك فيه، كنت طوق النجاة لي من الغرق ببحور حياة مجهولة، كنت الهواء الذي أعاد أنفاسي لصدري، كنت القلب الذي نبض داخل صدري، لا توجد أي كلمات توفيك حقك ليث"
رفع يده لوجنتها وجذبها له برقة وقال "لست بحاجة لأي كلمات منك عهد فعيونك تمنحي الكثير وقبلتك تخبرني بكل ما بقلبك لي"
وانحنى ليقبلها بحنان عرفته وعشقته واستجابت له بقوة حبها وعشقها له حتى أبعدها فهمست "لا أريد إلا قربك ولو فرقتنا الأقدار فلن يكون إلا لموتي أو من أجلك"
ضاقت عيونه لحظة ثم قال "لن يفرقنا شيء حبيبتي، الموت قدر لا مفر منه وحتى ينالنا سنظل معا لآخر العمر"
واحتضنها بقوة وهي ضمته بذراعيها ومن كثرة سعادتها ضربها بعض الخوف وكأنه تستكثر السعادة على نفسها وتدعو ألا يصيبهم ما يعكر صفو حياتهم
كانت الأيام تمضي دون حساب وقد نسيت أحزانها وهي تنعم بحب زوجها ورعايته وتمنحه ما تستطيع من حبها وحنانها
بالصباح رحل مبكرا كالعادة وهو لا يوقظها مؤخرا بسبب الحمل، وانشغل مؤخرا أكثر ولم يخبرها السبب الحقيقي وهو عزيز بالطبع وقد زادت وحشيته معه وانتقامه يكبر يوما بيوم، لم تراه عندما استيقظت فهاتفته وأخبرته برغبتها بالتسوق فلم يعترض وبالفعل قادت سيارتها إلى السوق التجاري واشترت كل ما أرادت وتأملت ملابس الأطفال بسعادة وقررت الانتظار حتى تعرف ولد أم بنت قبل أن تشتري ملابس للطفل
ارتاحت بالمقهى وتناولت بعض العصير عندما رأت رجل طويل وعريض الجسد يقف أمامها ويقول "مساء الخير مدام، مستر عزيز يريد رؤيتك"
انتبهت له ودق قلبها وقد انتظرت كثيرا أي رد من عزيز ولكنها لم تكن تعرف بما يدور مع زوجها فظنت أنه توقف وتراجع خاصة أن ابنته تقبلت الأمر بسهولة ولكن يبدو أن الأمر ليس بتلك السهولة
قالت "أنا؟ لماذا وأين؟"
قال الرجل بهدوء "لا أعرف السبب مدام هو ينتظرك ببيته"
قالت بإصرار "لا، لن أذهب لبيته لنتقابل بأي مكان بالخارج أو مكتبه"
انحنى ليقترب منها وقال "آسف مدام ولكنها تعليماته، أن أطلب ذلك منك وإن لم توافقي سأضطر آسفا لإجبارك"
تراجعت والخوف يندفع لها وهي تعرف أنه سيفعل فقد بدى من رجال الحراسة بجسده، لن تدفعه للعنف من أجل حملها وأدركت أن وقت الانتقام قد أزف أخرجت أموال وتركتها ونهضت فجمع الرجل أكياسها وقال باحترام
"تفضلي مدام فقط هاتفك من فضلك"
لم تعترض وهي تنظر له ومنحته الهاتف وتحرك بها للخارج وقال "السيارة تنتظر وهناك من سيأتي بسيارتك خلفنا"
لا تعلم كيف كانت هادئة وهي تتبعه هكذا وكيف لم تحاول الفرار منه!؟ ربما لأنها أرادت حماية جنينها أو ما زال لديها أمل أن عزيز لن يضرهم بشيء ولكن من يدري
يتبع...
أنت تقرأ
رواية وجهان لامرأة واحدة بقلمي داليا السيد
Romanceسكنت داخل ردائها الأبيض تحتمي خلفه من مواجهة العالم من حولها، اختارت أن تكون الممرضة الصامتة ، الضعيفة ترفض خروج المرأة القوية التي هي عليها متجاهلة وجودها بل لا تعترف بها، لكن يوم سقطت عيونها عليه تمزق الرداء الأبيض بقوته الهائلة وإيمانه بها، دفعها...