الفصل الخامس عشر
خطأ
بالصباح خرجت من بيت جون قبل أن يستيقظ أحد، لم تشأ أن يراها أحد بعد ليلة الأمس وقد انهارت أمام الجميع مرة أخرى وظهر ضعفها غصبا عنها وفسدت الليلة بسببها، كانت تعلم أن وجوده سيدمرها فهي تعلم أنها ما زالت تحبه، لم يستطع قلبها أن يكرهه رغم ما كان منه، كذب لسانها عندما أخبرته بأنها تكرهه فما زالت ترتجف لرؤيته وتتهاوى من لمسته وتتألم من نظرة عيونه وتتمنى الموت عند سماع كلماته المهينة
جرح يدها لم يوقفها عن العمل وقد رآه ماديسون وتأكد من رعايته جيدا ثم قال "تبدين كالأموات، كل هذا من جرح كهذا؟"
أفلتت عيونها منه فلا أحد يعرف جرحها الحقيقي، قالت "كان يؤلمني بالليل فلم أنام، هل أطلب العمليات؟"
خلع القفازات الطبية وقال "نعم، هل يمكنك المشاركة؟"
قالت دون تفكير "نعم"
وتحركت خارج مكتبه لغرفة العمليات وتابعت التجهيزات بذهن مشغول ولكنها استجمعت أفكارها وركزت جيدا فحياة البشر ليست رخيصة والعمل هو ملاذها الأول والأخير، تبعها ماديسون بعد أن مر على التعقيم وقال
"ألم تعرفي شيء عن ابنته؟"
لم تنظر له وهي تساعده وقالت "لا"
قال "عرفت أنها خطيبة ليث"
لم ترد وابتعدت فنظر لها وقال "ماذا بك عهد؟"
حاولت التماسك وهي تقول "لا شيء دكتور سأرى الحالة"
هز رأسه وتحركت خارجة وقد أوجعها ذكر مي ورفضت التفكير بهما فتغاضت عن الأمر وهي تتابع نقل عزيز للعمليات عندما رأته يتقدم تجاهها فأبعدت وجهها وهي تتبع الممرضات ولكنه توقف أمامها ليوقفها وقال
"لم يكن عليكِ الحضور أنت لست بحالة جيدة"
لم تنظر إلا للفراغ حولها وقالت بغضب "أخبرتك ألا شأن لك بي"
أرادت أن تذهب ولكنه لم يتراجع وهو يقول "وأنت توقفي عن أفعالك التي تثير جنوني"
رفعت عيونها له بنفس النظرة القاتلة فأوقفته ثم تحركت للعمليات دون أن يتحدثا وبالداخل تناست كل شيء وسقط كل تفكيرها على عملها ولم تهتم بمن هو المريض وإنما بضرورة إنقاذ حياة رجل مهما كان هو
انتهت الجراحة وتركها ماديسون تنهي الأمر مع طبيب التخدير وخرج ليمنح ليث كلمات تطمئنه على عزيز ثم قال قبل أن يذهب "كنت أتساءل عن ابنته مستر جبالي"
أجاب ليث بهدوء "هي بلندن دكتور وأنا لم أخبرها بشيء، أنتظر حتى تتحسن حالته فهي لن تتحمل رؤيته بتلك الحالة"
هز الرجل رأسه وقال "الجراحة ناجحة فلا تقلق"
وتحرك مبتعدا ورفع هو أصابعه لرأسه عندما تقدم منه رجل من رجاله وقال "والدتك تحاول الوصول لك"
نظر له وقد بدأ يتحرك برجال تتبعه وماك مدير أعماله يباشر أعماله الكثيرة بغيابه، قال "حسنا"
وتحرك للخارج وهو يخرج هاتفه واتصل بدولت التي أجابت بصوت متلهف "ليث أنقذني يا ليث، أختك ستضيع مني هي الأخرى"
قبض على الهاتف بقوة وهو يدور حول نفسه وقال "هل تهدئي من فضلك وأخبريني ماذا حدث؟"
عندما خرجت من العمليات رأته يتحرك من الخارج تجاهها فأبعدت وجهها وتحركت لتذهب ولكنه استوقفها وهو يقول "عهد، أنا لابد أن أعود مصر فهل تهتمي به؟"
رفعت وجهها له وانقبض قلبها وظنت أن دولت بخطر من ملامحه الشاحبة ونظراته المظلمة فقالت "ماذا حدث بمصر؟"
لم تتبدل ملامحه وهو يقول "بريهان، الشرطة وجدتها بين الحياة والموت بمكان مقطوع وقد كانت فاقدة للوعي وتحت تأثير المخدرات"
تراجعت بدون تصديق وقالت "وماذا أصابها؟"
قال بعيون شاردة من التفكير "لا أعلم بعد، هل تهتمين به؟ تعلمين أن لا أحد يرافقه وأمره يهمني وأنا أثق برعايتك"
اندهشت من كلماته وقالت "تثق برعايتي له؟"
هز رأسه ولم يتخلى عن عيونها وهو يقول "أعلم أن واجبك تجاه عملك أكبر من ولائك لقلبك"
تراجعت وقالت بحزم "لا وجود لقلبي من الأساس"
صمت قليلا وكلماتها صدمته بل أوجعته وهو يعلم أنه يستحق وتمنى لو ينطق بكلمات أخرى ليعيد ما كان بينهم ولكن نظراتها جمدت الكلمات على لسانه وأدرك أنها كما قالت أصبحت تكرهه ولن تعود كما كانت معه
ابتلع أفكاره وقسوة كلماتها ثم قال "حسنا فقط اهتمي به هل تفعلي؟"
للحظة ترددت ولكن كما قال ولاءها للعمل كبير ولكنه لم يدرك أن ولاءها لقلبها أيضا كبير فهزت رأسها وقالت "سأفعل"
ظل للحظة ينظر لها قبل أن يهز رأسه ويتردد قبل أن يقول "بخصوص كلماتي بالأمس تعلمين أني لم أقصد ذلك"
ظلت تنظر له ولم ترد فقال "أعلم أنكِ لستِ تلك الفتاة"
ظلت النظرات متصلة وخفق قلبها بضعف وهي تقول "حقا؟"
ظل صامتا لا يقوى على مواجهتها حتى انهزم أمام عيونها الساخرة وقال "لابد أن أذهب"
وتحرك خارجا من المشفى وهي تتابعه لقد تراجع عن كلمات الأمس ولكن ماذا عن ما كان منذ عامين؟ الآن يخبرها أنها ليست تلك الفتاة؟ بعد فوات الأوان..
شعرت بالحزن يجتاحها رغما عن غضبها لأنه سيرحل ولا تعلم متى يمكنها رؤيته مرة أخرى وإن كانت رؤيته تؤلمها فغيابه أيضا يؤلمها
لم يمكنها أن تعرف عنه أي شيء ولكنها وفت بوعدها واهتمت بعزيز الذي تحسنت حالته وبدأ يستعيد وعيه وتعرف عليها خاصة وهي من تتولى الإشراف على كل ما يخصه حتى تحسنت حالته وطلب الطبيب خروجه من العناية وتابعت هي ذلك أيضا ووضعت أفضل الممرضات لخدمته ولكنه كان يسأل عنها كثيرا وكانت تلبي طلبه
دقت الباب ودخلت وهي تقول "صباح الخير، كيف حالك اليوم؟"
نظر لها وقد زادت تجاعيد وجهه ودلت على سنواته التسع والستين وقال "بخير"
ابتسمت ونظرت لمادلين وقالت "هل استقر الضغط؟"
قالت الفتاة "نعم" ثم تحركت خارجة
نظرت له وقالت "طلبتني؟"
قال "نعم، لم أعد أراكِ كثيرا"
لم ترحل ابتسامتها وهي تقول "تعلم أن لدي عمل علي القيام به"
قال وهو ينظر لها بنفس عيون ابنته التي لم تنساها "نعم ولكني اعتدت عليكِ عهد، وجودك يمنحني الراحة"
قالت بهدوء "وأنا موجودة، فقط أنتهي من عملي وستجدني معك"
تردد قبل أن يقول "أحيانا أتساءل لماذا لم تشبهك ابنتي؟"
ذهبت ابتسامتها ولم تجد كلمات تجيب بها بينما أكمل هو "هي لا تفكر سوى بالسفر والموضة والحفلات، ورغم أنها تحقق الكثير من النجاح بذلك ولكنها تفشل بحياتها الشخصية"
ظلت صامتة وتركته يتحدث فهي أول مرة يتطرق لابنته وأكمل "هل رأيتِ ليث؟ هو بمثابة شريك لي أحبه جدا كابني أثق به ثقة لا أثقها بسواه، وهو دائما ما يشعر أنه مدين لي لأني كنت أول من مد له يد المساعدة ووضعت قدمه على سلم النجاح، ظننت أنه سيكون موجود معي هنا"
أسرعت تقول "لقد كان موجود بالفعل حتى يوم الجراحة وقتها ظهرت له ظروف بمصر فرحل"
هز رأسه وقال "نعم مصر وما تحمله من حزن وألم يعود به كل مرة ولا أحد يعلم السر"
أخفضت وجهها وهي تدرك أن وراء أسرته أسرار كثيرة مؤلمة ولكنه أبى أن يتحدث عنها، ربما أخبرها بالقليل ولكنه لا يمثل أي شيء، ترى ما الذي يخفيه داخله من الماضي؟
عندما صمت قالت "هل أنت بخير؟"
قال بحزن "نعم، فقط أفكر بابنتي هي لم تأتي لرؤيتي"
قالت "دكتور ماديسون قال أن مستر جبالي لم يخبرها بحالتك والصحافة لم تكشف الأمر حتى الآن"
هز رأسه وقال "متى سأخرج من هنا؟"
قالت بصدق "لا أعلم، دكتور ماديسون لم يحدد بعد، أنا لابد أن أذهب هل تحاول أن ترتاح؟"
هز رأسه وأغمض عيونه فتركته وتحركت للخارج عندما رأت رجل تعرفه كان يتبع ليث مؤخرا، تحرك تجاهها وقال "مستر جبالي يطلبك مس محمود على الهاتف"
وأشار للخارج فقالت "نصف ساعة وينتهي دوامي وسأقابلك بالخارج"
هز رأسه وهي تقاوم أن تهرع معه لتسمع صوت الرجل الوحيد الذي سكن قلبها وتتمنى لو استطاعت أن تخرجه من قلبها ولكنها فشلت وتأكدت يوم عاد لحياتها وأدركت الضعف الذي يسكنها تجاهه
عندما خرجت كان الرجل بانتظارها، نزل من السيارة وتحرك تجاهها وهو يخرج الهاتف حتى وقف أمامها ومد الهاتف لها فتماسكت وهي تأخذه منه وتضعه على أذنها والرنين يصل لسمعها حتى سمعته يجيب فقالت
"أنا عهد"
صمت أجابها قبل أن يقول "لم أنسى صوتك عهد، كيف حال عزيز؟"
ابتلعت ريقها وتراجع الرجل من أمامها وهي تقول "بخير وقد سأل عنك وعن، ابنته"
صمت مرة أخرى فقالت "أين أنت؟"
قال "توقفي عن دور الرئيسة معي"
قالت بضيق "وأنت توقف عن الآمر الناهي لم أعد أعمل عندك"
سمعته ينفخ ثم قال "حسنا لنتوقف، متى سيخرج من المشفى؟"
تنهدت وقالت "لا أعلم بعد"
ردد "سيحتاج لمن يرعاه بالبيت"
أجابت "يمكنك التصرف فأنت تجيد إدارة الأمور كلها"
قال بضيق "بالتمريض سأترك لك الساحة"
قالت بجدية "لا أعرف ممرضة مقيمة تعلم أن كل من حولي بدوام ولا يمكنهم العمل بمكان آخر"
قال دون استسلام "ولكنك تعرفين كيف تجدين من يفعل"
قالت بغيظ "ولماذا أفعل؟"
قالت بنبرة تعرفها جيدا "لأنك تعرفين أنه يحتاج لذلك وقلبك الرحيم لن يتخلى عنه"
قالت بغضب "أخبرتك ألا مكان للقلب عندي"
صمت أجابها فقالت "هل انتهينا؟"
قال بقوة "تعلمتِ القسوة"
قالت "كان الدرس ناجحا"
أدرك معنى كلماتها فقال "جدي ممرضة قبل أن يخرج من أجله لا يوجد من يرعاه بالبيت ولا تهتمي بالراتب"
قالت بإصرار "لا شأن لي بأموالك دع رجالك يفعلون أنا فقط سأجد الفتاة لابد أن أذهب"
وعادت للرجل ومدت له الهاتف وتحركت لسيارتها وهي راضية عن نفسها، القسوة تعلمتها منه والقوة هو من طالبها بها فعلى ماذا يلومها؟
انتهى الاسبوع وقرر الطبيب خروج عزيز وكانت قد وفرت له فتاة جيدة أمضت معه ليلة بالمشفى أخبرتها بكل ما يلزمه ومنحها الطبيب تعليماته، عزيز طلبها قبل ذهابه وقال
"أردت أن أشكرك على اهتمامك بي"
قالت بهدوء "هذا عملي سيد عزيز"
قال بسعادة واضحة "لا، كان أكثر عهد فشكرا لكِ وأتمنى رؤيتك خارج المشفى بالتأكيد مي ستحبك مثلما أحببتك فأنا مدين لكِ بالكثير عهد"
تبدلت ملامحها وهي تعرف جيدا كيف تشعر مي تجاهها والحب هو آخر شيء
برحيل عزيز أدركت أن علاقتهم انتهت ولن يجمعهم شيء مرة أخرى وستعود لحياتها الطبيعية بالعمل ومع جون وجيس
بعد يومين من خروج عزيز استدعاها ماديسون فتحركت لمكتبه فقال "أعدي العناية عهد هناك حالة بطريقها من المطار إلينا، الساق أصيبت بشدة والتهبت وربما نضطر لبترها أنا طلبت دكتور جورج ودكتور فيليب"
اندهشت وقالت "فيليب!؟ ولكن لماذا؟"
نظر لها وقال "الفتاة كانت مدمنة عهد"
نظرت له وقالت "أي فتاة؟"
دق الباب وفتح لتقول الممرضة "هناك من يسأل عنك دكتور"
تحرك وقال "تعالي عهد يبدو أنهم وصلوا"
لم تفهم أي شيء ولا تعلم لماذا طار رأسها لمصر وبريهان، صوت ماديسون أيقظها فأسرعت خلفه وقد ظهر الاهتمام على الجميع وتوقفت عندما صدق حدسها وهي ترى ليث يتقدم والرجال تدفع بريهان على الفراش المتحرك وماديسون يستقبله ثم نظر لها فتحركت تتبعهم وهو يقول
"العناية عهد"
هزت رأسها وهي تمنحه نظرة واضحة بادلها إياها في صمت وهي تتركه لتصحب الرجال للعناية وهناك تابعت الممرضات يقمن بعملهن وهي ترى بريهان بحالة لا وعي وقد فقدت وزنها واسود وجهها
قامت بتوصيل الأجهزة اللازمة وتابعت الضغط وجهاز رسم القلب ثم قالت "استدعي دكتور جورج فان"
هزت الفتاة رأسها وقالت "حاضر"
لحظات وتجمع الأطباء كلهم حول بريهان وعرفت أن حالتها صعبة وقد أصيبت بحادث أدي لإصابة بالغة بالساق لم ينجح علاجها بمصر كما بالطبع عرفت بالإدمان وهو ما يتولاه فيليب، اتخذ الأطباء قرارتهم ثم خرجوا وظلت هي تنظر للفتاة التي كانت تضج بالحيوية والنشاط والغرور والجنون، ترى كيف وصلت لذلك؟
انتبهت له وهو يقول "يبدو أني سأمضي باقي عمري بالمشفى"
نظرت له وقالت وهو ينظر لأخته "حالتها صعبة"
هز رأسه وقال "أعلم"
رفع وجهه لها وقال "هي طرق وكل شخص عليه اختيار طريقه"
لم تفهمه فأبعد وجهه وقال "دولت هنا، بشقة قريبة من المشفى رفضت ترك بريهان"
قالت "كيف هي؟"
قال "منهارة بالطبع"
لم ترد فعاد لوجهها وقال "لا أعلم متى سأتوقف عن طلباتي برعاية مرضاي"
أبعدت وجهها وقالت "هو عملي لست بحاجة لتطلب"
هز رأسه دون جدال وتحرك خارجا وقد اندهشت من عدم جداله معها ككل لقاء بينهم، بدا عليه التعب أو الحزن، علاقته بإخوته كانت معقده فكيف يشعر الآن؟ اللعنة على هذا القلب الذي يرق له ويتألم من أجله..
القرارات كلها كانت سريعة فيما يخص بريهان وبالفجر أدركت أن حالتها سيئة جدا فاستدعت الطبيب الذي هاتف المدير والمدير هاتف ليث وأسرع الجميع للعناية وبالسابعة كان ليث يدخل المشفى من استدعاء المدير الذي كان يتحدث معها عندما توجه هو لهم فانتبه له الاثنان وقال ماديسون
"أخشى أننا لابد أن نجري الجراحة الآن سيد جبالي، نحن على أبواب التسمم"
نظراته كانت جامدة ولم يذهب الإرهاق من على وجهه وهو يقول "هل هذا هو الحل الوحيد؟"
هز ماديسون رأسه وقال "دكتور جورج بطريقه إلينا وهو أيضا اقترح ذلك بالأمس بل وأصر عليه لكننا أردنا التأني قبل الجراحة وكدنا نفقدها بالليل ولكن عهد تولت الأمر والآن أحتاج قرارك"
لم ينظر لها بل ظلت هي تنظر له وقد جمدت ملامحه وعقله قد صرخ من كثرة ما واجه مؤخرا ولكنه تعلم كيف يتعامل مع مشاكله فقط كان بحاجة لبعض الوقت كي يجيد اتخاذ القرار خاصة عندما تعلق الأمر ببريهان حتى حثه ماديسون على الرد فقال
"حسنا دكتور قم باللازم"
نظر ماديسون لها وقال "تعلمين ماذا ستفعلين، هيا لا وقت"
هزت رأسها فابتعد ماديسون بينما نظرت له وقالت "تفضل لإنهاء الإجراءات"
تحرك معها والصمت يلفهم حتى انتهيا فتحركت لتذهب ولكنه استوقفها "ستكونين معهم بالعمليات؟"
حدقت به ثم قالت "لا أعلم بعد، دكتور جورج له مجموعة خاصة يفضلها"
ثبتت أنظاره عليها وقال "لم أظن أني سأهتم بها مرة أخرى لكن منذ رأيتها بمصر بعد الحادث وتحدثت معها وشعرت"
ولم يكمل وهو لا يجد أي كلمات يعبر بها عما يشعر ولكنها اندهشت من كلماته فقالت "بالنهاية هي أختك دون اختيارك وواجبك هو ما يفرض عليك كل ذلك، لا أحد يمكنه تغيير أهله رغم أني لا أفهم ما بينكم"
هز رأسه وأبعد عيونه عنها فليس هذا هو الوقت المناسب لاختراق أسراره التي أصبحت تثقل صدره خاصة تلك الأيام، أما هي فشعرت بانتهاء الكلمات وأيضا تألمت لنظرة الحزن بعيونه ولكنها لا تعرف كيف تواسيه وماذا عليها أن تفعل لتمحو تلك النظرة ولكنه لم يمنحها أي فرصة وقال
"فقط لو أمكنك التواجد معها"
قالت بصدق "سأحاول أعدك بذلك"
وتركته وذهبت هاربة من رغبتها بأن ترفع يدها لذراعه وتخبره أنها معه فلا يقلق واندهشت من نفسها ومن مشاعرها التي تخونها بتلك اللحظة وهو لا يستحق بل كان عليها أن تكون قاسية وحادة وقاطعة ولكنها لم تستطع وهي ترى تلك النظرة بعيونه فلم يمكنها إلا أن تمنحه نظرة حنان..
بالطبع لم يمانع جورج بوجودها بل استجاب وهو يعرف تماما قدراتها بالعمليات والعناية خاصة بعد اعتذار جين بديلتها عن الحضور، قبل الجراحة مباشرة أفاقت بريهان لوهلة فنادتها إحدى البنات فتحركت تجاهها، نظرات بريهان كانت تائهة وما أن سقطت عيونها على عهد حتى هتفت بضعف
"عهد!؟ هذا أنتِ!؟"
ابتسمت وقالت "نعم"
كانت الفتاة تتجول بعيونها الباهتة بالمكان وقالت "أين أنا؟"
قالت عهد "بمشفى بنيويورك أحضرك أخيك لمتابعة حالتك هنا"
كانت الدموع ترتفع لعيونها وهي تقول "سيقطعون ساقي أليس كذلك؟"
أخفضت عهد نظراتها ولم تستطع مواجهتها فأكملت "لقد سمعتهم بمصر يتحدثون، أنا لست حزينة على ذلك عهد فأنا أستحق"
رفعت عهد عيونها لها فأكملت "نعم، أنا التي اخترت هذا الطريق عهد وكنت أعلم أنه خطأ وهذا هو الثمن فقط من فضلك اهتمي بماما لو أصابني شيء، لم يعد لها أحد"
هزت عهد رأسها وقالت بحنان "اطمئني بريهان، أنت ستكونين بخير، الجراحة ستنتهي وستعودين أفضل مما كنت فهناك أطراف صناعية تعيدك للطبيعة ووالدتك ستكون بخير عندما تراك بخير وأنا واثقة أن مستر جبالي يهتم بكم جيدا"
أبعدت بريهان وجهها وقالت "هو يفعل عهد، أعلم أنه يفعل رغم ما كان منا جميعا تجاهه"
دخل دكتور جورج وقال "عهد ما الأخبار؟"
نظرت عهد له وقالت "أنتظر التخدير دكتور وكل شيء جاهز"
تحرك للمريضة ليتحدث معها فانتبهت هي لعملها وسرعان ما اكتمل طاقم العمل وبدأوا عملهم بمهارة معروفة وهي معهم
تحرك جون إلى داخل المشفى باحثا عنه عندما وجده يتحدث مع أحد رجاله ولكنه التفت له باهتمام فقال جون "هل من أخبار؟"
قال بهدوء "ليس بعد، مر وقت كبير منذ بدأوا"
تأمله جون بقلق واضح وقال "دعنا نتناول بعض القهوة أنت لا تبدو بخير"
لم يعترض والأيام الماضية كلها كانت صعبة ومرهقة، جلسا وكلا منهم يمسك قدح القهوة فبدأ جون الحديث "كيف حدث ذلك؟"
تناول القهوة وقال "سرقت جرعة من المخدرات من الشاب الذي كان يبيعها إياه فطاردها ثم صدمها بسيارته وتركها وهرب ولولا كاميرات أحد المحلات هناك ما كشفت الشرطة أمره، الحادث أصابها بقوة بساقها والأطباء فشلت بعلاجها لذا كان البتر هو الحل"
سأله جون "أنت لم توافق على منحها المال"
وضع قدح القهوة على المائدة وقال "ولكن دولت فعلت"
تفهم جون ثم قال "هل هي معها بالعمليات؟"
ثبتت عيونه على جون للحظة ثم أبعدها وقال "نعم"
وقبل أن يتحدث جون قال "لا تفعل جون لست بحالة تسمح بالجدال"
هز جون رأسه ثم قال "أعلم فقط ظننت أنك تستوعب ما تفعله هي من أجلك"
تعصب من كلمات جون وقال "هي لا تفعل من أجلي جون هي تفعل لأن هذا عملها وهي من أخبرني بذلك بنفسها وكلانا يعلم أنها تحب أن تجيد عملها خاصة لو"
قاطعه جون "كفى ليث أنت محق أنت لست بحالة تسمح بالجدال ولا بالإنصات، أنت أصلا لا تريد أن تنصت لأي شيء يخصها"
أبعد وجهه وقال بحدة "لقد انتهينا من الأمر جون وكلانا اختار طريقه، كان خطأ سقط به بوقت ما"
كرر جون الكلمة "خطأ!؟ المرة الوحيد التي تصرفت فيها كرجل على قيد الحياة تسميها خطأ؟"
ظل صامتا وبهت وجهه وهو يجد كلمات جون صادقة فهي الفترة الوحيدة التي كان يشعر فيها أنه على قيد الحياة، عندما يكون معها ينظر بعيونها، يسمع صوتها، ذلك اليوم، يوم أن كانا سويا هو الذكرى التي يحيا عليها ولم ينسى طعم السعادة التي تذوقها بذلك اليوم لأنها المرة الوحيدة التي عرف فيها السعادة
عاد جون يقول "عهد"
نهض واقفا وقاطعه يقول "عهد الآن تعاملني على أنها ممرضة وأنني أحتاج لها لرعاية من يخصني وأنا سأوافقها طالما أرادت ذلك، والآن هيا لنعود"
وتحرك وجون لا يصدق تبدل أحواله رغم وضوح شخصية عهد التي لا يختلف عليها اثنان لكن كيف يضع غشاوة على وجهه تجعله لا يرى أنه خطأ
ومن داخله هو كان يعلم أنه كاذب وأن عيونها لم تفارقه يوما واحدا واشتياقه لها ولقربها يمزقه ويضيع الحياة من حوله، هو حقا لا يعود للحياة إلا عندما يصطدم بعيونها ويسمع اسمه من بين شفتيها..
يتبع...
أنت تقرأ
رواية وجهان لامرأة واحدة بقلمي داليا السيد
Romanceسكنت داخل ردائها الأبيض تحتمي خلفه من مواجهة العالم من حولها، اختارت أن تكون الممرضة الصامتة ، الضعيفة ترفض خروج المرأة القوية التي هي عليها متجاهلة وجودها بل لا تعترف بها، لكن يوم سقطت عيونها عليه تمزق الرداء الأبيض بقوته الهائلة وإيمانه بها، دفعها...