الفصل السادس عشر
غضب.. ألم
ما أن عادا حتى تحرك رجله إليه وقال "مسز جبالي تصر على الحضور"
حدق برجله لحظة ثم هز رأسه وقال "اذهب أنت بنفسك أندرو"
لم يعترض الرجل وتحرك خارجا وسرعان ما بدت الحركة بالمكان ثم خرج جورج فتلقاه هو بقلق واضح "ماذا دكتور؟"
كان الطبيب هادئ وهو يجيب "اطمئن كل شيء بخير وهي بخير"
رفع يده لشعره كالعادة وقال "متى يمكنني رؤيتها؟"
قال الطبيب بجدية "ليس قبل عصر الغد وربما بعدها مستر جبالي، الجراحة ليست سهلة وهي أصلا ليست بوعيها ما زالت تحت تأثير المخدر وبالطبع الكثير من المسكنات"
خرج ماديسون هو الآخر فنظر له ليث فقال "هي بخير مستر جبالي لكن لن يكون الأمر بسهل عليها"
ضاقت عيونه وسأل "لا أفهم"
قال جورج "هو يقصد الحالة النفسية مستر جبالي، فتاة بعمرها تفقد ساق فهذا يعني منتهي اليأس لها لذا ستحتاج إلى مؤازرة من كل من حولها هذا بالطبع بالإضافة للألم نتيجة الجراحة لذا هي ستبقى معنا كثيرا ولن يمكنك إخراجها إلا عندما نطلب نحن ذلك"
لم يمانع وهو يهز رأسه ثم قال "والإدمان!؟"
قال ماديسون "بالطبع سيكون من السهل علاجه وهي بحالتها تلك أي بلا وعي لكن بالطبع ما أن تستعيد وعيها الأمر سيكون صعب ولكن دكتور فيليب طبيب ممتاز فلا تقلق"
واستأذن الأطباء عندما رأى أندرو يعود ومعه دولت فتحرك تجاهها والدموع بعيونها وتسأله بلهفة "ماذا حدث ليث؟ هل انتهت الجراحة؟ هل أصابها شيء"
ظل واقفا أمامها وعيونه تواجها وقال "اهدئي هي بخير لقد انتهت الجراحة وهي بالعناية والأطباء قالوا أن الجراحة ناجحة"
ولكنها قالت ببكاء "لن أصدق حتى أراها، لن أصدق، أنت لا تريد أن تصارحني هي ليست بخير أنا"
وتوقفت عندما رأت عهد تخرج من باب العمليات وتجمدت عهد بمكانها وهي تراها ولكن المرأة رفعت يداها لعهد وهي تهتف "عهد، يا إلهي، هذا أنتِ حقا، كم افتقدتك"
تحركت عهد مسرعة وقد أشفقت عليها من حالتها البائسة وما أن أمسكت يد المرأة حتى جذبتها لأحضانها وقالت بألم وحزن "هل رأيتِ عهد؟ هل عرفتِ ما أصابنا؟ الكوارث تضربنا بلا رحمة"
وانهارت بالبكاء وعهد تحيطها بحنان وقالت "اهدئي مدام دولت، اهدئي من فضلك، كل شيء سيكون بخير إن شاء الله"
ظلت وهلة بين أحضانها حتى توقفت قليلا فابتعدت دون أن تترك ذراعيها ونظرت بعيون عهد وقالت "حقا؟ هل هي بخير؟ هل كنتِ معها؟ أنا أعلم أنكِ لا تكذبي عهد، أخبريني"
قالت بحنان "اطمئني هي حقا بخير، أنا كنت معها والجراحة ناجحة وستكون بأفضل حال هل تهدئي؟ قلبك لا يتحمل كل ذلك"
لم تتوقف دموع المرأة وهي تقول "قلبي أصبح لا يعرف إلا الألم عهد"
سمعته يقول "كفى، عهد هناك غرفة لنا هل تأخذيها لها من فضلك؟"
نظرت له ورأت حالته هو الآخر وقد بدا عليه التعب والإرهاق وعدم النوم ولم يذيل شعر ذقنه وملابسه تدل على حالته فهزت رأسها وقالت مغلفة الضعف بالعملية "هل لي برقم الغرفة؟ ومن الأفضل ذهابكم جميعا فلا داعي لوجودكم هنا لن يسمح لأحد بالدخول قبل الغد"
سمعت جون يقول "لكنك ستفعلين؟"
الفتت لجون فالتقت بعيونه الثابتة وهزت رأسها وقالت "نعم، بالتأكيد جون سأفعل"
أعطى أوامره لرجاله فتحركوا من حوله ودفع أحدهم كرسي المرأة للغرفة وهناك تجمع الجميع بالداخل وخلع هو جاكته وألقاه بعيدا وجلس على أول مقعد بينما ظلت دولت على مقعدها وجلس جون على طرف الفراش وقال
"هل تحدثت معك عهد؟"
كانت تقف بجوار دولت فنظرت لجون وقالت "نعم قبل الجراحة وهي راضية عما يحدث"
قالت دولت بألم "عليها أن تكون لأنها هي من دفعت نفسها لذلك"
قال "هل نتوقف؟"
صمتت المرأة فقالت هي "اسمحوا لي لابد أن أذهب، مدام لو أردت شيء الهاتف موجود واطلبيني وهم سيخبرونني"
وتحركت خارجة دون انتظار لأي كلمات من أحد، أرادت أن تفر منهم وكأنها تفر من الماضي الذي تساقط عليها كالأمطار بلا توقف وشعرت بالألم يعود وصدرها يصرخ طلبا للرحمة ولكن كيف وهي تعلم أنه موجود هنا بنفس المكان وكل ما يريده منها هو خدمة مرضاه، أكرهك ليث، أكرهك وأكره كل ذكرى تحملني إليك، ليتني ما رأيتك ولا عرفتك ومع ذلك أعرف أني أحبك
أخذها العمل أو ربما هي ألقت نفسها وسط الزحام كي تضيع فيه وتفقد أي اتصال بالذكريات ونجحت كعادتها بدفن أحزانها تحت وطأة أشغالها عندما طل الفجر وهي تدخل لرؤية بريهان بالعناية وقد بدا أنها استعادت بعض من وعيها والممرضة تقول
"لا مس جبالي أنتِ انتهيت من الجراحة"
تحركت عهد لها فرأتها تنظر لها فقالت "مس جبالي هل أنتِ بخير؟"
أغمضت الفتاة عيونها لحظة ثم فتحتها وقالت "أنا بريهان عهد، هل قطعوها؟"
هزت عهد رأسها وأمسكت يدها وقالت "المهم أنك بخير وستكونين أفضل"
دموع سقطت من عيونها وهي تقول "هل يعرف ليث أني مدمنة؟"
أجابت "نعم ولكن هناك طبيب يعمل على علاجك وسيكون الأمر أسهل لو أردت أنتِ ذلك"
قالت بريهان بحزن واضح "أريد عهد، أريد أن أتوقف عن كل حياتي التي كنت أحياها أنا أريد أن أموت عهد، لا أريد أن أعيش، لا أريد"
وزاد البكاء فنظرت عهد للممرضة وقالت "جين أحضري عقار..، هي بحاجة لمهدئ"
ردت بريهان "هناك الكثير بحياتي عهد يجعلني أريد الموت"
أحضرت الفتاة العقار فدفعته عهد بالمحلول وقالت "لا أحد ليس بحياته ما يؤلم بريهان فقط علينا أن ندرك الخطأ ولا نكرره"
ابتسمت بريهان ابتسامة حزن وندم وقالت بألم "إنها كثيرة، أخطائي كثيرة بحيث لم أعد أعلم من أين أبدأ"
تابعت عهد الأجهزة ثم أمسكت يدها لترى النبض وقالت "لا يهم من أين المهم أن تبدئي ووقتها ستجدي الطريق وتنساقي وراء الصواب بعيدا عن الظلام"
بدأت عيون بريهان تتساقط وهي تهمس "ليتني عرفتك، من، ال"
ولم تكمل وقد عادت للنوم فقالت الفتاة "لقد بدأت تنهار"
لم تنظر للمرضة وقالت "بل هي في طريقها للعودة من الانهيار"
عندما خرجت من العناية كانت متعبة حقا فرأت جون يتحرك تجاهها فتوقفت وهو يقول "لكِ يومان لم ترحلي ألا ترتاحي؟"
ابتسمت وقالت "تعلم أين راحتي"
نظر للعناية وقال "كيف هي؟"
تابعت نظراته وقالت "ما زالت متعبة ربما بالعصر يمكنكم رؤيتها"
تمنت ألا يذكر ليث وقد فعل وقال "لا أنا راحل جينيس اتصلت وأنا قلق عليها"
تبدلت نظراتها وقالت "هل أصابها شيء؟"
كانت نظراته حزينة وهو يقول "هي تقاوم عهد ولكنك تدركين أنه الأقوى"
تملكها الحزن وهي تدرك كلماته فقالت "المهم أنها تقاوم جون، والحب يزيد من قوتها وهو ما تمنحه لها أنت جون، حبك أنت"
كان هذا هو ما سمعه ليث وهو يقترب منهما فقال "حبه هو لمن؟"
تراجع جون وهو ينظر له بينما تراجعت هي دون أن تواجهه فقال جون "لعهد، بالطبع هي بحاجة لحبي فهي فتاة رائعة، ليث أنا لابد أن أذهب جيس هاتفتني"
سقطت نظراته عليها ولكنها لم تتجاوب معه وظلت عيونها بعيدة عنه كل البعد وهو يقول "بالتأكيد جون بلغها تحياتي حتى أراها"
تركهم جون ولم يمكنها أن ترفع عيونها له وهي تقول "اسمح لي"
كادت تذهب ولكنه قبض على ذراعها بقوة وانحنى لتسمعه بوضوح وهو يقول بقوة "لم أكن مخطئ عندما قلت أنكِ تمنحينه رعايتك لسداد الدين ورغبة في حبه؟"
لم تعرف كيف سقطت يدها على وجهه دون أي اهتمام بوجود أحد من عدمه بثت بصفعتها كل غضبها منه والألم الذي يسببه لها ثم جذبت ذراعها من يده وتحركت بكل قوتها دون استجابة لدموعها التي سبقتها وتحركت للحمام وأغلقت الباب خلفها وهي تلتقط أنفاسها وقد كان الغضب يتصارع مع الألم ولا ينضم أحدهم للحزن وتنازعوا كلهم صدرها الذي صرخ طالبا التوقف ولكن كيف وهو يفعل بها ذلك ألم يتراجع عن كلماته؟ كيف يعود مرة أخرى؟ ماذا يريد منها؟ لماذا يتعمد جرحها؟
ضربت الباب بيدها والدموع تطاردها وأرادت أن تصرخ اعتراضا على ما قاله ولكنها لم تستطع إلا أن تتألم في صمت، التفتت واستندت على الباب بظهرها وهي تكتم بكاءها وتعلم أنها لن تصرح بأي حزن أو دموع أو ألم، فقط الصمت هو رفيقها منذ الصغر وما زال حتى اليوم ولن يفارقها
خرجت عندما هدأت ثورة الدموع والغضب وتحركت لغرفتها ولكن اسمها كان يتردد بطلبها بالعناية فعادت إليها وهناك رأته مع دولت أمام باب العناية فلم تنظر له وهي تسرع للداخل، رأت جورج وماديسون الذي قال
"عهد هل منحتها عقار..؟"
هزت رأسها وقالت "نعم، دكتور فيليب أخبرني أن أفعل لو انهارت وأنا منحتها اثنان مل فقط"
نظر ماديسون إلى جورج وقال "هي تعليمات فيليب أخبرتك أنها لا تتصرف من تلقاء نفسها"
لم تفهم وقالت "هل حدث شيء دكتور؟"
نظر جورج لها وقال "ليس من حقك التصرف دون الرجوع لي عهد الحالة تخصني وأنا المسؤول"
ظلت ثابتة كما تعلمت وقالت "بالطبع دكتور أنا أتبع كل تعليماتك ولولا تعليمات دكتور فيليب الخاصة بانهيارها بمجرد أن تعود للوعي ما تصرفت"
تراجع عن غضبه وهز رأسه وقال "لا زيارات عهد قبل العصر سأعود بالمساء لرؤية الجرح"
هزت رأسها فتحرك خارجا بينما قال ماديسون "غروره يفسد نجاحه، لا تغضبي عهد أعلم أنك لست على خطأ"
ابتسمت وقالت "لم يحدث شيء دكتور كلنا نعرف طباعه، هل تمنح آل جبالي فكرة عن منع الزيارة؟ ربما لا يقتنعون بكلماتي وأنا راحلة فقد انتهى دوامي"
هز رأسه وارتاحت هي للأمر وهي أصلا لا تريد رؤيته أو مواجهته ليس بعد ما قاله
لم تخرج من العناية إلا بعد أن عرفت أنهم رحلوا وتحركت لغرفتها وبدلت ملابسها وتأكدت من منح جين بديلتها تقرير بما كان وتحركت خارجة من المشفى وهي تشعر بالضيق لأن سيارتها بالصيانة بذلك الجو الممطر وما أن وصلت للطريق حتى تراجعت بفزع من صوت عجل سيارة يقف بجوارها بقوة
بالتأكيد عرفت سيارته ولكنها تجاهلتها والغضب يعود لها والتفتت مبتعدة والحرارة تسري بجسدها تجعلها تريد أن تخلع عنها المعطف الثمين الذي ترتديه ولكن يده التي التفت على ذراعها جذبتها لترتد له بقوة كادت توقعها وهو يقول بغضب
"لن تذهبي لأي مكان قبل أن ننتهي مما بدأناه"
حاولت أن تبعد يده والغضب يتوهج بعيونها الذهبية وقالت "لقد أنهيت كل شيء فابتعد عني واتركني أنا لا أطيق حتى النظر لك"
لم يهتم بكلماتها والغضب بداخله يساوي غضبها وهو يقول "لا شيء انتهى لأني لم أنهيه بنفسي لذا ستأتين معي لأنهي أنا الأمر كما أريد"
حاولت الاعتراض ولكنه بالطبع كان الأقوى وقد بدأ المطر يعلن عن نفسه والأشخاص المارة بدأت تلتفت لهم وهو يدفعها بالسيارة ويصفع الباب بقوة لم تجعلها تخيفها وأبعدت وجهها عنه وهو يركب بجوارها دون النظر لها ويقود السيارة بنفس الجنون الذي أوقفها به
توقف بمكان بعيد عن المدينة والمطر ينهمر حولهم ولم تستطع الماسحات مجاراة قوته وعندما توقف الموتور هجم صمت ثقيل عليهم وكلاهم يحدق بعيدا إلى أن قال
"ماذا يوجد بينك وبين جون؟"
التفتت له وبالطبع الدموع كانت واضحة بعيونها وعندما لم تتحدث التفت لها ليرى الألم من بين الدموع وهي لا تصدق أن قلبها يكاد يندفع خارجا من صدرها من أجل ذلك الرجل وتمنت لو أوقفته وأوقفت كل نبض ينبض له وتصدق كلمة الكره التي تسمعها لنفسها
أبعد وجهه وقال "كلماتك له تعني الكثير"
وأخيرا تحدثت وقالت دون جنون "أعلم أنك تظن أني أتصيد الرجال خاصة الأغنياء لأصبح عشيقة لهم وأنا لن أدفع عن نفسي شيء لأني لست بحاجة لأفعل لك ولكن هل كنت تعلم عن جون الرجل الذي تلقاك وساندك ومنحك ما لم يمنحه لك الأب أنه ينظر لامرأة أخرى غير جينيس ويفكر يوما بأن يخونها؟ هل أظلمت عيونك حتى عن رؤية حقيقة أقرب الناس إليك؟"
كانت على حق وكلامها صفعه بقوة أكثر من صفعة يدها وظل ينظر للقطرات الضعيفة المتساقطة على زجاج السيارة حتى قال "وكلماتك؟"
مسحت الدموع بأصابعها وأبعدت وجهها وقالت "أنت اخترت ما أردت أن تسمعه"
التفت لها وقال بحدة "ماذا تعنين؟"
لم تنظر له وقالت "كان يتحدث عن مرض جينيس وأنا كنت أخبره أنها بحاجة لحبه"
طال الصمت مرة أخرى ودق الصداع رأسها فقالت وهي لا تعلم لماذا تبرر له موقفها كان عليها ألا تكون بهذا الضعف ولكن هو فقط من يعرف تلك المرأة داخلها
"أريد العودة لبيتي أنا متعبة ولدي عمل بالمساء"
أدار السيارة وقد هدأ غضبه بل جنونه وهو لا يعلم كيف يثور هكذا لكل ما يخصها أو رؤيتها مع أي رجل وكأنها ملكه هو ولا يجوز لسواه أن يشاركه بها؟ إنه حتى لم يسمع لكلمات الكره التي تلقيها بوجهه وهو يعلم أنه السبب بجعلها تنطق بها هو ظن أن برحيله انتهى كل ما كان بينهم ولكنه برؤيتها أدرك أنه كان يخدع نفسه وها هو أمامها يسقط ويهتز ويضعف كما لم يحدث له منذ ثمانية عشر عاما، أي امرأة أنتِ ذهبية العيون؟ تقتليني ببراءتك وتقذفيني للجحيم بغضبك، لم أعد أطيق خصامك بل كل ما أهواه وأفتقده هو. .ابتسامتك
أبعد وجهه لحظة نافضا أفكار متسلقا بعيدا عن ضعفه ثم عاد لها وقال بنبرة مختلفة "ألا تحصلين على أجازه؟ الجميع يفعل"
لم تنظر له وحاولت أن تبدو هادئة كما يفعل وقالت "عندما أحتاج لأجازه أنالها"
نظر لها ولكنها لم تستجب لنظراته فعاد للطريق وقال "وصلتِ لمكانة كبيرة هناك"
كانت تنتظر أن يكمل وعندما توقف قالت "وبالتأكيد تتساءل أي ثمن دفعته لأحقق ذلك أو ربما أي من الأطباء نال مني مقابل مساندته لي كي أصل لذلك"
التقى بعيونها وقد أدرك سخرية كلماتها فلم يرد وهو يحول عيونه للطريق حتى قال "سأمر على جون وجينيس ويمكنني أن أمر عليك بالمساء لنعود سويا"
كان قد وصل أمام بيتها وتوقف ففتحت الباب وقالت بقوة وهي تنزل "لا، فقط ابتعد عني لا أريد رؤيك"
ودفعت الباب خلفها وتحركت بثبات إلى الداخل دون أن تنظر حتى له ودون أن يدرك كم تسيطر على دموعها والألم الذي ينهش قلبها وهو يتابعها بنظراته ويدرك أن كل ما يقوله ويفعله معها يزيد من الهوة بينهم وهو يعرف أنه يفعل ذلك ويستمر بدفع السكين بعلاقتهم ممزقا إياها دون رحمة ولا يعلم سبب جنونه وتمنى لو يتراجع عنه فهو يريد عودة تلك الأيام بينهم، من داخله كان يعلم أنها لا تقسو عليه رغم كل ما حدث منه معها، ليته يستطيع إيقاف كل ذلك هو بحاجة لأن يستعيدها ولكن هل يمكنها أن تغفر له ما كان منه؟
لم تنم حتى بعد أن نالت حمام دافئ وأعدت طعام لنفسها ربما تشغل عقلها بالطهو وقدح دافئ من الشاي، مشطت شعرها ثم سقطت عيونها على تلك العلبة على مائدة الزينة ومدت يدها لها وبأصابع مرتجفة فتحتها لترى خاتمه الذي أهداه لها، مررت يدها عليه وعادت الدموع لعيونها، فكرت أن تعيده له وتحركت لتضعه بحقيبتها ولكنها توقفت ولم تستطع، شعرت أنه الشيء الوحيد منه وكلما نظرت له شعرت بوجوده معها فتراجعت ووضعت العلبة مكانها ولعنت نفسها على ضعفها
تحركت للفراش وبمجرد أن تمددت حتى ارتدت لها ذكريات اليوم مما جعل الألم يعود والأسئلة تندفع لعقلها وهي لا تفهم لماذا يصر على ملاحقتها ودفع الإهانة بكل كلمة من كلماته لها؟ لماذا لا يبتعد عنها كما فعل من قبل؟ كل ما عليه فعله أن ينسى وجودها من حوله وربما تفعل هي
اعتدلت بالفراش وقد طرأت الفكرة بذهنها، نعم لم لا تنال اجازة تبتعد فيها عن المشفى بل عن المدينة كلها تلك الفترة حتى تخرج أخته ويبتعد عنها مرة أخرى؟ نعم هذا هو الحل، سيتوقف الألم برحيلها من طريقه ولكن هل حقا بفراقهم يتوقف الألم؟ استلقت مرة أخرى بالفراش وهي تعلم أن فراقه كان الجحيم طوال العامين الماضيين
لم تفكر حتى بمهاتفة جينيس لأنها تعرف أنه هناك لذا نهضت بموعدها وارتدت ملابسها وتحركت للباب وهي ترتدي معطف بني جديد، كان الوقت ما زال مبكرا ولكنها لم تستطع البقاء وحدها مع أفكارها وفتحت الباب لتذهب عندما رأته واقفا يرفع يده ليدق الباب فتسمرت مكانها وفرت الدماء من وجهها وهي تلتقي بذهبية عيونه التي بدت تجاعيد حولها تعلن عن أربع وعشرين شهرا قد انقضوا من عمره وعمرها، سمعته يقول وعيونه تجوب على جسدها النابض بالأنوثة وعطرها الرقيق يحاصره
"الأنباء تحدثت عن عاصفة ففكرت أن أقلك للمشفى بطريقي"
ضاعت منها الكلمات وهي تنظر له حتى قالت "أخبرتك ألا تفعل لست بحاجة لك"
أبعد وجهه لحظة ثم عاد لها ورفع يداه وقال "حسنا عهد أنا لا أعرف كيف تلفظت بكلماتي مرة أخرى ولكني أسحبها أيضا ربما أجد حل للجنون الذي يصيبني عند رؤيتك تتحدثين مع الرجال، والآن هل أحصل على قدح قهوة قبل أن نذهب؟"
ظلت ثابتة للحظة والذهول يأخذها من كلماته ولا ماذا يقصد بها ولكنه شيء ما نبض داخله وكأن شيء بالخفاء داخل قلبها يهمس 'لا تعتقدي أنها غيرة' اندفعت الدماء لرأسها واحمر وجهها وعندما عجزت عن الرد وجدته يمحني مقتربا وهو يقول
"عهد لن تتركيني هكذا أليس كذلك؟"
قالت بضيق "ولماذا لا أفعل؟"
ظل يتجول داخل عيونها وقال "قلبك الطيب لن يتركني هكذا بالمطر والبرد دون قدح من القهوة، هيا عهد أعدك أن أجيد التصرف"
عيونه كانت تلقيها بقاذفات فولاذية تجعلها تتراجع بضعف أمامها، نفس النظرات، نفس النبرة، إلهي ماذا يصيبني؟
بالطبع الضعف أخذها أمام كلماته وأمام مظهره المرهق فتراجعت للداخل تاركة له الباب وهي تخلع معطفها وتركته على مقعد قريب وهي تتحرك للمطبخ وسمعت الباب يغلق وهو يتقدم للداخل وقال
"البيت دافئ"
كان قد ترك معطفه هو الآخر وجلس على الأريكة فقالت "جون ساعدني بتركيب المكيف، وهناك دفاية ولكن لا أستعملها"
قال وما زال يتأمل المكان "وأيام الثلج؟"
نظرت له وقالت "بالمشفى أو عند جيس وجون"
هز رأسه ورن هاتفه فأخرجه ولاحظت أنه أغلق الصوت دون حتى أن ينظر فتحركت تجاهه بالقهوة وقالت "أنت لا تفضل الكريمة"
رفع وجهه لها كما سقطت عيونها عليه وقال سعيد بأنها تذكر ما يفضله "لا"
هربت منه للمقعد البعيد واحتضنت كوبها وقالت "أنت تركت والدتك اليوم كله هناك؟"
أسند رأسه على الأريكة وأغمض عيونه وهو يقول "معها رجالي"
أدركت حالته من التعب البادي على وجهه فرق قلبها من أجله وهي تلعن قلبها الضعيف وقالت "هل أنت بخير؟"
فتح عيونه ناظرا لها وقال "نعم، فقط صداع من عدم النوم"
تأملته لحظة ثم قالت "هل تناولت أي طعام؟"
تناول القهوة وقال "البعض عند جيس"
ترددت قبل أن تسأله "لقد طهوت بعض الطعام المصري اليوم هل تحب أن أجهز لك بعض منه؟"
التفت لها ولا تعلم لماذا عاد جسدها يرتجف فهي لم تعد تلك الفتاة الصغيرة هي الآن كبيرة بما يكفي كي تنسى الخجل، قال "وقتك لن يسمح"
نهضت وقالت "ما زال لدي القليل"
وتحركت للمطبخ فقال "جينيس لا تبدو بخير؟"
لم تنظر له وهي تعبث بالطعام وقالت "نعم"
نهض وخلع جاكته وفك ربطة عنقه التي تدلت على صدره وتحرك تجاهها وقال "منذ متى وهي مريضة؟"
جلس على المقعد واستند على المائدة فقالت "ليس كثير"
عبث بعلبة الملح وقال "ما مرضها؟"
لم تتوقف عن جلب الأطباق وقالت "لم تسمح لي الظروف بمتابعة حالتها وجون يقول أنه إجهاد وأنيميا"
ظل صامتا وهي تضع الأطباق أمامه والطعام، تناول الطعام بشهية وهي تنتهي من وضع قدح القهوة أمامه وكادت تبتعد ولكنه أمسك يدها وقال "ألا تتناولين الطعام معي؟"
كانت النظرات تشق طريقها لتلتقي ونبضت يدها بين قبضته وارتجف صوتها وهي تقول "لقد فعلت مسبقا"
حاولت بفشل إبعاد يدها ولكنه لم يتركها وقال بنبرة أعادتها لما كان بينهم "لم أنسى لحظة واحدة لنا سويا عهد"
نظرتها له توهجت بلمعان ضم الغضب والألم والندم فقرأ ما بهم وهي تجذب يدها وتبتعد كي لا تنهار بالضعف أمامه أكثر من ذلك وقالت "ولكني نسيت، هل تنتهي كي لا نتأخر"
وقبل أن تنتهي سمعته يقول "كاذبة عهد"
التفتت لتراه خلفها فلم تقو على الحركة وعيونها ترتكز على عيونه وعاد عطره يخترق أنفاسها، نفس العطر لم يتغير، نظراتها البريئة ما زالت كما هي، فقط زال منها الغضب فعادت رقيقة وشفافة تجذبه كالنيران التي تجذب الفراشات وما أن يقترب حتى تلسعه برقتها وفتنتها التي زادت عما كانت، أصبحت أجمل بكثير وأرق مما كانت، استعاد ذكرياته ورفع أصابعه لوجهها ولكنها تراجعت وقد أفاقت من سحره والتفتت تمنحه ظهرها فنفخ ومرر يده بشعره وقال
"كما هو أنا، كلانا يدرك معنى وجودنا بحياة بعضنا"
تحرك حتى وقف أمامها فرفعت عيونها لتلتقي بنظراته ومنعت الدموع من أن ترتفع لمؤخرة عيونها وقالت "كنا"
زاد قربه وضعفه وقال "وما زلنا، إن مجرد وجودي معك يفقدني نفسي عهد"
قالت بضعف وهي تلتفت مبتعدة بألم "إذن لا تفعل"
وكأنه لم يسمعها وهو يهمس "لم يكن عليكِ دخول بيتي"
التفتت له مرة أخرى بحدة وقد فتح مصراع أبواب الذكرى المؤلمة والتقى بعيونها فابتعد هو وقال "هي أيضا دخلت بيته وكنت أنا الثمن"
تراجعت وهي تحاول أن تستوعب كلماته دون أن تفهم أي شيء وهو رأى نظراتها الحائرة ولم يستطع أن يتوقف بل لا يريد أن يتوقف فأكمل "مرة واحدة انقادت خلفه ونست أنها امرأة ما زالت بالعدة وليست زوجة لذلك الرجل واستسلمت لضعفها وأحضرتني للدنيا"
ظل ينظر لها ورأت نظرة ألم مختلطة بالغضب والسخط والنفور وصوت شخص معذب ينطلق من فمه ويقول "كان عليها أن تتوقف قبل أن تلقي بنفسها بأحضان رجل ليس بزوجها أو تقتلني داخل أحشاءها قبل أن تأتي بي الدنيا وتعذبني"
لم تفكر حتى بأن تتحرك من مكانها أو تنطق بكلمة واحدة فقط ظلت جامدة بمكانها تسمعه وتتأمل الألم الذي سكن عيونه التي تحول الذهبي بها لأحمر كالدم وأكمل وقد نسى أنها معه فقط كلمات دولت مؤخرا له وطلبها السماح أعاد له كل الذكريات وجعله يريد أن يخرجها من صدره الذي وهن من حملها طوال تلك السنوات، أراد أن يخرجها لها هي، أرادها أن تسمعه، هي فقط
لذا قال بألم "لا أحد يدرك ما شعرت به يوم أن صفعني بقوة وهو يصرخ بي؛ لا تناديني بابا أنت لست ابني، لست ابني ولا ابن أحد أنت ابن حرام، هل تسمع ابن حرام ولا مكان لأمثالك ببيتي اخرج من هنا وانسى أنك عشت بهذا البيت أو أن لك إخوة وإياك بالتفكير بالعودة هل تسمع"
صدمتها كلماته بقوة وارتجفت ساقاها غير قادرة على أن تحملها مما سمعته وجمدت بمكانها
يتبع..
أنت تقرأ
رواية وجهان لامرأة واحدة بقلمي داليا السيد
Romanceسكنت داخل ردائها الأبيض تحتمي خلفه من مواجهة العالم من حولها، اختارت أن تكون الممرضة الصامتة ، الضعيفة ترفض خروج المرأة القوية التي هي عليها متجاهلة وجودها بل لا تعترف بها، لكن يوم سقطت عيونها عليه تمزق الرداء الأبيض بقوته الهائلة وإيمانه بها، دفعها...