الفصل الثامن والعشرين

329 19 3
                                    

الفصل الثامن والعشرين
ضياع
نظر من نافذة مكتبه بالبيت عندما دخل الخادم وقال "مسز جبالي بالخارج سيدي"
التفت له وللحظة ظن أنها زوجته ولكنه تذكر دولت فهز رأسه وقال "أنا قادم"
تحرك للخارج فرأى دولت تجلس على مقعدها وأحد رجاله يقف خلفها أحنى رأسه له باحترام ثم تحرك خارجا توقف أمامها وقال
"ماذا حدث؟ هل بريهان بخير؟"
لم تتغير ملامح دولت وقالت "هل عثرت على عهد؟"
تجمد جسده المنهك، أسابيع من البحث الذي لا يتوقف ولم يتوقف حتى اليوم دون فائدة، لم يعد يعرف طعم الراحة، النوم لم يعد يناله نهائيا ومؤخرا ظل بالبيت يسترجع ذكرياتهم سويا والأمل بعودتها يسكن كل جنباته، قال بهدوء
"لا"
ابتعد من أمامها وتبعته بمقعدها وقالت "عليك تكثيف جهودك ليث لا تنسى أنها حامل"
توقف أمام نافذته العملاقة والتي كانت شاهدة على لحظات كثيرة لهما سويا وقال "أنا أفعل" ثم نظر لها وقال "هو سبب آخر حتى تجيد الاختفاء، الحمل"
أخفضت دولت وجهها وقالت "خافت عليه كما خافت عليك"
لم يرد وهو يدرك كل كلمة ويعلم أنها الآن بمكان ما وحدها وهي التي كانت تخاف من الوحدة وهو الذي وعدها ألا يتركها أبدا فكيف ضاعت منه؟ كيف لم يستطع حمايتها من عزيز؟ كيف لم يتوقع أن يفعل ذلك؟
سمع دولت تقول "عهد لا تستحق ذلك، هي جديرة بالحب والاحترام لا التهديد والألم والحزن"
ظل ينظر لها وقال "ليت الأمر بيدي لمنحتها حياتي كي تكون سعيدة"
تأملته دولت ولم ترد وجون يدخل وتوقف عند رؤيتها بينما أبعد هو وجهه للنافذة وقال "أهلا مدام دولت، ليث هل هناك جديد؟"
هز رأسه دون رد فنظر لدولت التي هزت رأسه بحزن فتحرك جون تجاهه حتى وقف بجواره وقال "سنجدها ليث، هي لم تخرج من البلد حتى الآن"
نظر له وقال "هل تعرف كم ولاية بأمريكا جون؟ عهد أضاعت نفسها وسط الزحام كي لا أجدها، هي ستحميني لآخر قطرة من دمها"
حدق به جون ثم هتف بغضب "لقد كانت ضربة قاضية من عزيز واليوم، أحيانا أتسأل لو كنت مكانك ماذا كنت سأفعل به؟"
هتفت دولت "كان يستحق القتل"
أبعد وجهه وقال "وبماذا يفيد قتله؟ عهد لن تعود وأنا سأكون مجرم، لا أنا قاتل ولا يمكنني أن أمنح ابني أو ابنتي سمعة تلطخهم للأبد بأب مجرم، عهد رحلت لحمايتي وحماية طفلنا وأنا لم أقتل عزيز لنفس الغرض لن أفعل ذلك بأولادي"
هز جون رأسه وقال "معك حق هو يسأل عنك؟"
التفت له وتلونت عيونه بالسواد فرفع جون يداه أمامه وقال "اهدأ هو فقط"
تحرك ليث تجاهه وهتف بغضب واضح "هو ماذا جون؟ هل تجيبه حقا؟ لقد دمر حياتي جون؟"
لم يتراجع جون وقال "لا ليث أنا لم أجيبه بل هو أتى الصالة للقائي وأنا رفضت مقابلته فترك لي رسالة مع رجل من رجال الصالة بأنه يسأل عنك"
هتف دولت "ألم يكتفي بما حدث؟"
ظل الرجلان بمواجهة بعضهم البعض حتى هتف جون "ليث يدمره مدام، هل تدرك ماذا تفعل؟"
لم يتراجع وهو يقول "تعلم جيدا أني لا أتحرك بجهالة جون ليس ليث الجبالي، هو سيدفع ثمن ما فعل غاليا ربما لم أقتله بيدي ولكن ما فعلته وما سأفعله به سيجعله يتمنى لو كنت قتلته"
عيونه احترقت من نيران الغضب هو فكر وخطط ونفذ وسيدمر عزيز ببطء وسيجعله يعيش كل لحظة بحياته لا يعرف من أين ستأتيه المصيبة، الشيطان الذي اكتسبه من الجبالي طفا الآن على السطح وهو ما يحركه في انتقامه من عزيز وهو لم يوقف ذلك الشيطان أبدا، ليس بعد ما فعله بامرأته، لابد أن يندم
تراجع جون من مواجهته فقال "حسنا ليث أنا لا أوقفك عن شيء فقط انتبه لنفسه فالانتقام نار تسري بالهشيم وتأكل كل شيء"
ابتعد وقال "ليس أنا من أشعل النيران جون"
****
رحلت إلى واشنطن العاصمة بالقطار وهي تذكر جوليا، ممرضة كانت تعمل معها عندما بدأت عملها بالمشفى القديم وكانت تراسلها من وقت لآخر، ما أن وصلت محطة القطار حتى هاتفت جوليا وأعلنت الفتاة عن سعادتها بوصولها وطلبت منها أن تأخذ سيارة أجرة ومنحتها العنوان، لم تكن واشنطن كنيويورك بل بالطبع أكبر وأكثر ضوضاء ولكن الحزن الذي يسكنها والضياع الذي شعرت به منذ رحلت من بيتها وافترقت عن حب عمرها وأيضا التعب الذي شعرت به بعد رحلة القطار كل ذلك جعلها تفقد أي متعة بالمكان وتمنت لو تصل للشقة بأسرع وقت لتنال بعض الراحة
وصل السائق لمنطقة مباني مرتفعة وبدا أنها شقق سكنية كثيرا، منحته الأجرة ثم نزلت وأخذت حقيبتها وجرتها إلى المبني الذي لم يكن حديث بالمرة، المصعد توقف بالطابق العاشر وخرجت منه حيث شاهدت أبواب كثيرة فبحثت عن الرقم حتى عثرت عليه وطرقت الباب، استقبلتها جوليا بسعاد وساعدتها بنقل الحقائب للداخل
استقرت بغرفة جلوس صغيرة وقد نالت غرفة بفراش ودولاب والغرفة الأخرى لجوليا وحمام خارجي واحد ومطبخ صغير، لم تمنحها جوليا فرصة للراحة رغم التعب الذي كانت تشعر به وهي تجذبها بالحديث وقالت
"ومتى رحل زوجك؟"
شحب وجهها وقد كان عليها إيجاد قصة فقالت "الاسبوع الماضي رحل للمكسيك مع الشركة التي يعمل بها وأنا أتيت هنا لأعمل"
نظرت جوليا لخاتمها وقالت "لاموند ماركة عالمية لابد أن زوجك لديه عمل مربح؟"
أبعدت وجهها عنها وقالت بارتباك "لا، فقط رئيسه لديه علاقة جيدة بمدير فرع من فروع البيع لهم مما منحه تخفيض كبير"
ضحكت جوليا وقالت "هذا حظ لا يتوفر للكثيرين"
ابتسمت بألم وهي تتحدث عن الحظ يا لها من كلمة لم تعرفها بأي يوم ولم تكن رفيقتها طوال سنوات عمرها
عادت جوليا تقول "بصراحة أنا كنت حقا أبحث عن بديل بالسكن بعد رحيل ليليان إلى بيت رفيقها، ستعيش معه أخيرا بعد علاقتهم الطويلة، كانت سعيدة جدا وهي تعد حقائبها"
كانت تتحدث كثيرا وعهد صامتة بينما أكملت "عهد هل سيمكنك تحمل أجرة الشقة وحدك؟"
نظرت لها بدهشة فأكملت جوليا "عندما اتصلتِ بي كنت ما زلت أقيم هنا لكن صباح اليوم حصلت على عمل لدى عائلة بقرية ريفية، سأمرض امرأة عجوز ولابد أن أقيم معها"
هزت رأسها وهو وضع أفضل لها فقالت بنفس الهدوء "نعم يمكنني ولو عرفتُ برغبة أحدهم بعمل مشابه لعملك هذا أخبريني"
هزت جوليا رأسها وتلقت مكالمة فتركتها عهد ودخلت لغرفتها وتمددت على الفراش بتعب واضح، تعب بقلبها وجسدها، وضعت يدها على بطنها وكأنها تريد حماية طفلها حتى من نفسها، أغمضت عيونها ورأت عيون حبيبها تنظر لها بحب فابتسمت فما زالت تملك الذكريات الجميلة لهما وهي ما ستعيش عليه بالأيام القادمة ربما تستمد منها القوة لمواجهة المجهول ولكنها تعلم أنها سقطت بقيود الوحدة والضياع وربما تعود لعهد التي كانت تهجر الجميع وقتها كانت آمنة ودون ألم أو حزن أو جراح، لم تعرف حتى متى سقطت بالنوم لأنها ما زالت تردد على قلبها أنها فعلت الصواب حتى ولو فقدت من أحبت يكفي أنه بأمان..
بعد اسبوع حصلت لها جوليا على عمل لدى عائلة أخرى كانت تقوم بتمريض الجدة التي لم تكن تنهض من الفراش وابنها وزوجته وحفيدها كانوا يقيمون ببيت أخر بعيد وبالطبع لم يكونوا ليتركوا الجدة وحدها وقد رحلت الممرضة السابقة لزواجها، ما أن تسلمت العمل حتى أبلغها الابن أنهم رحلوا لقضاء شهر اجازة بمكان سياحي فكان عليها الانتقال لبيت العجوز والتعامل وحدها بكل ما يخص المرأة وهو أمر لا يشغلها فقد تعلمت كيف تتعامل معه فقط احتاجت بعض الوقت لتعتاد على البيت والقرية المجاورة
كان البيت بعيد عن أقرب مدينة، يقع قريبا من ساحل المحيط الهادي بالنسبة لها كان رائعا حقا ومثير للراحة مما جعلها لا تشعر بالأيام وهي ترحل وخفف من أحزانها التي لم تنتهي ولكنها لم تضعف بل ظلت على قوتها التي اكتسبتها من إحساسها أنها طالما هي بعيدة سيظل هو بأمان، اشترت هاتف صغير رغم عدم احتياجها له، بحثت عن أخبار زوجها ولكنها تعرف أنه لا يحب الميديا ولم يمنحهم شيء بأي يوم، مجرد أخبار عن خسارة كبيرة بشركات عزيز ولكنها لم تهتم
كان الوقت هادئ واعتادت على السباحة بالصباح الباكر قبل وجود أحد بالشاطئ وقبل موعد استيقاظ المرأة وتعود لتأخذ حمام وتبدل ملابسها وتبدأ يومها، الجميع عرف أنها متزوجة وزوجها رحل للعمل بمدينة أخرى تابعة لعمله وهي اختارت العمل هي الأخرى، المرأة كانت لطيفة وهادئة وهي لم تحاول الحديث بأي شيء خاص كعادتها حتى انتهى الشهر وأتى ابن العجوز وأسرته لزيارة الأم فتركت لهم المكان ولم تختلط بهم كثيرا حتى رحلوا مرة ثانية سعداء برعايتها لها
استقرت بالبيت مع المرأة دون ملل وبدأ الحمل يظهر عليها وكانت ماريكا الخادمة التي تقوم بأعمال المنزل تراعيها بالطعام والعصائر، أحبتها عهد كما اعتادت أن تحب كل الناس وكان عليها متابعة طبيب للحمل وقد انتقت طبيبا بالقرية كي لا تضطر لتسجيل اسمها الكترونيا بأي مشفى أو مركز طبي وبنهاية الشهر الخامس أخبرها الطبيب أنه ولد ومن بين الدموع كانت سعيدة لأن حبيبها أخبرها أن طفلهم ولد وقد كان
خرجت من العيادة وسارت كثيرا حتى استقرت على الشاطئ وهناك جلست على رماله الباردة والبحر ينظر لها ويمنحها صورة ليث وابتسامته الهادئة عندما يعرف أن طفله ولد
تألم قلبها واندفعت الدموع لعيونها وهي تحدق بصورته الخيالية وتسأله، ترى كيف حالك حبيبي؟ ماذا تفعل الآن؟ ما زلت تصدق أني امرأة نزيهة أم ستصدق عزيز؟
أنا لم أبيعك بالمال ليث، أنا فقط أردت حمايتك منه ومن شره، ليتني أستطيع رؤيتك حبيبي والعودة لذراعيك حيث الأمان، أنا عدت للخوف ليث، عدت أخاف من كل شيء، أشعر بالضياع بدونك، الوحدة تقتلني ليث ولولا ابننا لتمنيت الموت في بعدي عنك، ليتك تعرف حبيبي أنك تسكن كل كياني أنت تجري بعروقي لا يمكنني أن أنساك وأتمنى رؤيتك ولكن ليس بيدي وبالتأكيد لن ترغب برؤيتي، لن ترغب برؤية امرأة اختارت الأموال بدلا من قلبك وحبك
عندما عادت من القرية قابلتها ماريكا متسائلة فأخبرتها، احتضنتها المرأة بسعادة ثم عادت للعجوز التي كانت هي الأخرى سعيدة من أجلها، على المساء بدأت حالة المرأة تسوء وقامت بما يجب عليها أن تفعل ولكن الحالة لا تستجيب لذا هاتفت ابن المرأة والطبيب الخاص بها وما زالت تحاول إنقاذها وقد فعلت من قبل أكثر من مرة
عندما وصل الطبيب وتحدث معها ثم فحص العجوز ونظر لعهد وقال "لابد من نقلها المشفى عهد، الحالة لا تستجيب لن أفعل أكثر مما فعلت أنت"
كان ابن المرأة قد وصل واتصل بالإسعاف ولم تفكر وهي تركب مع المرأة التي قبضت على يد عهد لا تريد تركها وما أن وصلوا المشفى حتى تلقاها الأطباء وظلت هي بالخارج مع جيسون ابن المرأة الذي نظر لها وقال
"يمكنك الجلوس عهد أنتِ متعبة"
هزت رأسها وجلست وهي بالفعل تشعر بالتعب وظل السكون يلفهم أمام باب الطوارئ وبالطبع رأت ذكرياتها بالمشفى وسنوات عملها كممرضة حتى رأت ليث وهو يقابلها لأول مرة وما فعله من أجلها وتسربت الذكريات إليها فأشعلت لديها نيران الرحيل التي تجلب الحزن والألم لفقدانه وهي بكل يوم كانت تذكر أيامهم سويا، ضحكاتهم، لياليهم الجميلة، كل ما عاشته معه من سعادة
فجأة قطعها فتح الباب وتفاجأت بدكتور ألبير يخرج وتوقف لرؤيتها هو الآخر وقد كانت تعمل معه بأول مشفى عملت بها بنيويورك، شحب وجهها وهو ينظر لها قبل أن يتحرك جيسون إليه ليعرف حالة والدته فانتبه له ألبير وتناقش معه واضطرت أن تنهض وتشارك وما أن انتهى ألبير حتى التفت لها وقال
"عهد لا أصدق أني أراك"
حاولت أن تبتسم وقالت "وأنا سعيدة لرؤيتك دكتور"
سألها باهتمام "ماذا تفعلين هنا؟"
قال جيسون "هي الممرضة الخاصة لأمي"
هز ألبير رأسه وقال "بالتأكيد فما فعلته لا يخرج سوى من عهد، إنها ممرضة ممتازة حقا"
هزت رأسها دون رد وعاد جيسون للطبيب ولكن كلامه لم يمنحه أي راحة وأخيرا عاد لها ألبير "لا داعي لوجودك عهد، تعلمين أنها بالعناية ولن تدخلي بالطبع لذا عليكم بالرحيل والعودة بوقت الزيارة"
لم يصر جيسون على البقاء ولا هي وأعادها للبيت وجلست بالحديقة وذهنها مشغول هل يمكن أن يخبر ألبير أحد عن مكانها؟ ولكن هي تذكر أنه ترك نيويورك منذ فترة ولم يعد يعيش هناك فلا داعي للخوف أو القلق وهي ليست بحالة تسمح لها بالرحيل مرة أخرى ليس الآن على الأقل..
يتبع...

رواية وجهان لامرأة واحدة   بقلمي داليا السيدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن