الفصل السادس

489 21 3
                                    

الفصل السادس
جلطة
كان عليها أن توقف دموعها التي لا داعي لها، هي تعلم أنها لا تمثل له أي شيء مجرد ممرضة أنقذها مرة وأشفق عليها مرة أخرى وانتشلها من الشارع والآن ماذا انتظرت منه؟
دق باب غرفتها فنهضت بعد أن مسحت عيونها وفتحت الباب لترى معاذ يقف أمامها ولمعت عيونه لرؤيتها وهو يقول "أردت رؤيتك قبل أن أذهب"
احمر وجهها ولم ترد فابتسم وقال "هل تعلمين أني كنت أتعذب طوال الأيام السابقة لأني كنت سبب بما أصابك؟"
أبعدت وجهها عنه وقالت "لا داعي لذلك أنا بخير"
تحرك تجاهها فتراجعت فتوقف وقد تبدلت ملامحها وقفز الخوف لعيونها وهو يقول وكأنه قرأ أفكارها "ولكنك تخافين مني؟"
تحكمت بمشاعرها بضعف وكاذبة قالت "لا ولكن أظن أن علي أن أذهب لوالدتك لا يجوز تركها وحدها"
تحرك تجاهها مرة أخرى وعيونه مازالت تلمع وقفزت هي للخلف بنفس الوقت وقلبها يعصف داخل صدرها بقوة الخوف من ذلك الرجل الذي تظهر الألعاب الشيطانية بعيونه وتحفزت لتصرفه التالي ولكن رنين هاتفه أوقفه وجعلها تنتفض وهو يخرجه لينفخ لرؤية الاسم فأغلق الصوت وقال
"نعم والدتي، حسنا سأراكِ مرة أخرى ما رأيك بتناول الغداء معي غدا؟"
جف حلقها وتنفست بعمق محاولة إخفاء نبضاتها المتسارعة وهي تجيب "آسفة لا يمكنني ترك عملي اسمح لي"
وعندما عاد هاتفه يرن استغلت الفرصة وأسرعت تفر من جواره خارجة لغرفة دولت وما زال رنين الهاتف بأذنها وقد أصيب ليث بالغضب عندما لم يجيبه معاذ وما أن رد هذا الأخير بالمرة الثانية حتى قال بعصبية
"لماذا لا تجيب معاذ؟"
أبعد ليث المنشفة عن رأسه وتحرك لمنامته وارتداها ولم يغلق أزرارها ومعاذ يجيبه "كنت أساعد أمي قبل أن أرحل ماذا تريد؟"
مرر يده بشعره المبلل وقال دون أن يصدق أخاه وقد ظلت نظرة معاذ لها عالقة بذهنه وهو يعلم سمعة أخيه المشبوهة وقد مانع كثير دخوله البيت بغيابه ولكن إلحاح دولت جعله يرضخ ويسمح له ورغم وجود رجاله إلا أنه ما زال يشعر بالقلق
"أريد أن أعرف أنك رحلت من البيت الآن فقد انتهى وقتك"
كان معاذ بالفعل ينزل السلم متجها للخارج وهو يقول "أنا أفعل فابتعد عني وما أن أحصل على بيت سأنقل أمي له لن تبقى عندك هل تفهم فهي لا تريدك هل تسمعني؟ لا تريدك ولا تريد أموالك احتفظ بها لنفسك"
فرد بقوة "عندما يمكنك أن توفي بوعودك انطق بها قبل هذا عد للحضانة التي تحبو بها"
وأغلق الهاتف بغضب ومعاذ يتحرك خارجا من الفيلا بينما تابع ليث هاتفه ورسالة من رجله تفيد برحيل معاذ فقذف الهاتف على المائدة وتحرك للنافذة وتوقف أمامها وهو يحدق بالظلام المحيط وكل ظلام الماضي يلفه ألم وحزن تجدد وهو من قذف نفسه به، لم يتحمل أن يرى دولت بين الحياة والموت ويتركها، أقنع نفسه أنه مجرد واجب لم يمكنه التملص منه ومحامي إبراهيم يتصل به ويخبره بالحادث وبالحالة المادية التي وصلوا لها بعد خسائر الجبالي الأخيرة ولم يأخذ منه الأمر كثيرا عندما قرر أن يعود لمصر وهو يعلم أنه كان بالإمكان أن تتولى رجال له الأمر هناك ولكن
أغمض عيونه وابتعد عن النافذة رافضا الاستسلام لضعف مشاعره، لن يسامح، لن ينسى بل لا يريد أن ينسى ستظل دولت السبب وستظل تحمل ذنبه للأبد
عليه أن يستعيد ليث المصمم، ليث صاحب لاموند الشهيرة، ليث البليونير الذي اجتاح العالمية ورن اسمه بآذان كل المشاهير دون أن يرمش له جفن، ليث الذي لم يخترق جداره أحد طوال ثمانية عشر عاما حتى الصحافة والإعلان ملت من فشلها بمتابعته لتحصينه لنفسه منهم فيأسوا وابتعدوا واحتفظ بسور عالي حول نفسه لا يخترقه إلا من أراد هو لذا عليه أن يعود داخل أسواره النجاح والعالمية هما هدفه وليس سواهم أما مصر فانتهت بكل ما كان بها
بالصباح نزل أفضل حالا ورأى جون يضع له قدح القهوة على المائدة فقال "صباح الخير جون، هل أخبرت كوباس عن الغد؟"
نظر له جون وقال "نعم، ماذا ستفعل مع عزيز؟"
جلس وجلس جون بجواره وتناول ليث الخبز ووضع به الجبن وقال "وما الذي يجعلني أفكر به الآن؟"
قال جون وهو يسكب العصير لهما "ابنته، مي، لا تخبرني أنك ستتم الخطوبة التي كانت تتحدث عنها بالأمس"
رفع عيونه له وقال بنبرة مرحة "ماذا جون ألا تعجبك يا رجل؟"
ابتسم جون وقال "جنيس هي فقط من تعجبني الأمر خاص بك يا رجل"
تناول العصير وأكمل طعامه وهو يفهم كلمات جون فقال بجدية "لا شيء جون، لم أفكر بأي شيء بالوقت الحالي لدي ما يشغلني"
قال جون وهو يتناول الطعام "ولكنها تلاحقك"
ابتسم وقال "هل هناك تغيير؟"
ضحك جون وقال "تبدو أفضل حالا اليوم"
نظر لساعته وتناول القهوة وقال "النوم يجيد التعامل معي جون، هل تخبر جنيس برغبتي برؤيتها؟"
نهض فقال جون "سأفعل"
وتابعه العجوز وهو يذهب برشاقة إلى الخارج وكأنه نسى ما كان بالأمس وهو بالفعل قرر ألا يشغل عقله بمصر فمنذ متى كان يهتم؟ لقد قرر أنه قام بواجبه تجاههم بعد الحادث وليس لديه أكثر من ذلك أما ذهبية العيون فلن تمثل أكثر من مجرد ممرضة لها حياتها ولا تهمه بشيء حتى ولو كانت أنقذت حياته مرة فهو أيضا سيبقيها خارج أسواره المرتفعة
المؤتمر كان على أفضل مما توقع مما جعله راضي عن نفسه ولم يهاتف صفاء بل اكتفى بأن يفعل مكتبه وتقديم تقرير مكتوب له قليلا ما كان يراجعه وكأنه كان يهرب من ذكرهم جميعا وشغل نفسه بكل ما يحتاج اهتمامه وما لا يحتاج
****
فتحت الباب لدكتور العلاج الطبيعي الذي دخل وقال "مساء الخير"
قالت دولت "مساء الخير دكتور"
تحرك الطبيب تجاهها وجلس حيث أشارت له وقال "دكتور منصور أخبرني بالحالة وأنا رأيت تقرير آخر أشعة هل لي بتقريرها اليومي يا آنسة؟"
تحركت تجاهه ومنحته تقاريرها اليومية، اطلع عليها بدقة ثم قال "تقريرك مفصل يا آنسة، منحني صورة واضحة، مدام يمكننا البدء من الغد فقط سنحتاجك بالمركز مرة واحدة بالأسبوع ومرتين بالبيت فهل يمكننا ذلك؟"
نظرت دولت لها فقالت عهد "يمكننا تدبر الأمر يا دكتور"
نظر للغرفة وقال "سيمنحك المختص قائمة بما يحتاج له عندما يصل"
سألته دولت "وما فائدة العلاج الطبيعي طالما لن يمكنني أن أتحرك على قدمي؟"
نظر إلى عهد ثم عاد لها وقال "العلاج الطبيعي يعالج أماكن أخرى تضررت من الإصابة وحتى لا تؤثر على أماكن جديدة"
أبعدت دولت وجهها وقالت "وهل يمكن أن تسوء الحالة أكثر من ذلك؟"
قال وهو ينهض "بالتأكيد مدام، هناك دائما الأسوء لذا نحمد الله على حالنا فهو بالتأكيد أفضل"
هزت رأسها ولم ترد، التفت لعهد وقال "المختص سيكون جاهز وسيتصل ليحدد مواعيده"
هزت رأسها وهي تعلم أن مكتب ليث يتعامل معهم فتحرك الرجل للخارج وتراجعت وهي ترى بريهان وقد فكت جبيرة ساقها وهي ما زالت تتحرك على عصا طبية واستعادت نشاطها وقد ارتدت ملابس خروج ودخلت وهي تقول
"ماما أنا سأخرج وأريد أموال"
نظرت دولت لها بدهشة وقالت "ماذا؟ تخرجين وأنت بتلك الحالة؟ إلى أين؟"
تراجعت عهد بصمت بينما قالت الفتاة "النادي، أريد رؤية أصحابي"
ولكن دولت قالت باستنكار "لا، لن تذهبي لأي مكان بريهان"
هتفت الفتاة بغضب "بل سأذهب ولن يوقفني أحد، أريد أموال"
قالت دولت بغضب "ليس هناك أموال بريهان ألم تدركي وضعنا حتى الآن؟ نحن لم نعد نملك أي شيء  ولا حتى النادي، استيقظي بريهان نحن فقدنا كل شيء، لا أمول ولا سيارة ولا أي شيء"
توترت عهد من كلمات المرأة والغضب الساكن بنبرة صوتها ولكن بريهان لم تكتفي وإنما عادت تصرخ "وماذا يعني ذلك؟ ربما فقدنا أموال دادي ولكن أليس ابنك بليونير؟ وهو الذي يتحكم بنا ويمنحنا كل ذلك لذا إذن بالتأكيد هناك أموال وهو يمنحها لكِ فهيا أخرجي المال وإلا سأفتش كل مكان هنا"
غضبت عهد من طريقة الفتاة المستفزة والمستهترة بينما صرخت دولت بنفس الغضب "هل جننت بريهان؟ ليث أنقذنا من الشارع ولولاه لألقي بنا بالمستشفيات الحكومية ولم نكن لننجو بل ومنحنا هذا البيت وتلك الرعاية ولا ينقصنا شيء ولأنه لم ينقصنا شيء فهو لا يترك لي أي أموال فلو أردتِ أنتِ المال فابحثي عن عمل واحصلي منه على ما تريدين"
صرخت الفتاة "عمل؟ أنا! لن يكون وابنك عليه بمنحي ما أريد هل تفهمين؟"
صرخت بها الأم دون اهتمام بمرضها "كفى وتحدثي بأدب وإلا اخرجي من هنا قبل أن أعلمك الأدب"
صرخت بها الفتاة "تعلميني الأدب؟ كيف وأنت عاجزة حتى عن تحريك اصبع قدمك، أنت أصبحت بلا فائدة ولا معنى للحديث معك"
كادت عهد تصرخ بها ولكن الفتاة خرجت مندفعة وتحركت عهد للمرأة عندما بدأت أنفاسها تتسارع ورفعت يدها لصدرها فأسرعت وأمسكت يدها تقيس نبضها فوجدته مرتفع فاندفعت للدواء وانتقت واحدة بسرعة وقالت
"مدام ضعي هذه تحت لسانك بسرعة"
كانت المرأة تضغط بيدها على صدرها بينما اتصلت عهد بمنصور الذي قال فور أن وصفت له الحالة "حسنا عهد سأرسل لك طبيب فورا"
ظلت تتابع النبض والمرأة بحالة من اللا وعي حتى وصل الطبيب الذي فحصها وقال "الحالة غير مستقرة، أشك بجلطة بالقلب"
قالت بتأكيد على كلامه "وأنا أيضا"
أخرج هاتفه وقال "سأطلب الاسعاف"
ما أن وصلوا المشفى حتى تلقاها الجميع لقسم الطوارئ وما زال الطبيب معها وانتظرت هي بالخارج ومضى وقت قبل أن يخرج الطبيب وقال "كما توقعت لابد أن تدخل العناية ولكن القرص الذي منحته أنت لها ساعد على تخفيف وطأتها ستبقى الليلة هنا يمكنك الرحيل لا مجال لبقائك تعلمين ذلك فقط الاستقبال يريدك"
ولكن ما أن تحركت لهم حتى قال الرجل "لا داعي يا فندم لقد تم اللازم"
ظلت تنظر له ثم خمنت أن صفاء بلغت ليث وهو تولى الأمر أو لا تعرف ماذا حدث المهم أن الأمر لم يعد يخصها، لم تتبعهم بريهان وقت وصلت الاسعاف وظلت واجمة وهي تقف تتابع الرجال يضعون الأم بالسيارة ورمقتها عهد بنظرة لوم ولكن الفتاة كانت جامدة ولا معاني بعيونها
خرجت عهد من المشفى وبحثت عن سيارة أجرة وأوقفت واحدة وركبتها عندما رن هاتفها باسمه فارتجفت يداها كالعادة وانتفض قلبها من داخل صدرها وأمسكت الهاتف بيديها الاثنان حتى يمكنها التحكم به وتجيب
"سيد ليث"
سمعته يقول بنبرة جمدت الدماء بعروقها "ماذا حدث؟"
كانت تسمع ضوضاء من حوله رغم وضوح صوته فلم تهتم وقالت "جلطة بالقلب وستبقى بالعناية"
كان يخرج من الحفل الختامي للمؤتمر وركب سيارته عندما أبلغته صفاء بالأمر وبالطبع رجاله تابعت الأمر بينما تملكه الغضب من بريهان مدللة أبيها وهو أيضا كان يدللها كثيرا قبل أن تنغلق حياته معهم
قاد السائق بعد أن أغلق باب سيده الذي يقول "أسألك ماذا حدث وليس ماذا أصابها؟"
ارتجفت من نبرته الغاضبة وأدركت أنه غاضب فحكت له ما كان من أخته حتى انتهت فقال "وأين بريهان؟"
قالت بضيق "كنت بالبيت وقت رحيلنا بالمشفى وبعدها انشغلت بوالدتك ولم أعرف شيء عنها"
امتلأ بالغضب من سلوك أخته وقال بغضب "لماذا لم توقفيها؟"
تراجعت بدهشة وقالت "أنا؟ بأي صفة سيدي؟"
لم تمر عليه كلماتها مما زاد غضبه دون سبب وتغاضي عنه وقال "بصفتك المسؤولة عن صحتها وتعرفين أن الانفعال غير مطلوب لها"
حاولت أن تبدو قوية، غاضبة، فهي ليست بتلك المكانة التي يصورها لذا أجابت بحدة أو غضب واهن "وهل أصبحت أنا السبب الآن؟"
قال دون أن يهدأ وقد زادته كلماتها غضب "بل تقصيرك هو السبب، كان عليك أداء عملك جيدا وإبعاد أي ضرر عنها، هذا هو عملك"
الذي يمنحها مرتب خيالي من أجله وهي لم تؤديه على الوجه الأكمل، هكذا أراد أن يكمل وهكذا هي فهمت واستوعبت فدمعت عيونها وهي ترد "نعم هو عملي ولكن حضرتك تنسى أن هذا الضرر كان ابنتها وليس من حقي إبعاد ابنتها عنها"
قال بصوت كالرعد دون تراجع عن موقفه "من حقك أي شيء طالما به صالحها حتى ولو كنت أنا عهد هل تفهمين؟ هذه مسؤوليتك وأنت لم تكوني على قدر المسؤولية وأنا أحملك مسؤولية ما حدث"
وأغلق الهاتف وقد نفذت قوته بالسيطرة على غضبه الكامن داخله وأبعد وجهه لنافذة السيارة وما أن انتظمت أنفاسه وهدأت ثورته حتى أدرك أن غضبه منها ليس لتقصيرها كما ادعى وإنما لخوفها وضعفها وهو لا يريد لها ذلك، أرداها امرأة قوية، عنيدة، ليست فقط ممرضة مميزة بعملها، رفع خصلة عنيدة داعبت جبهته وأبعدها للخلف وأغمض عيونه ربما يستعيد هدوئه
أبعدت الهاتف والدموع تنهار سيول من قوة غضبه الذي أشاع بها الخوف ولاحظت نظرات السائق لها فأبعدت وجهها للنافذة وهي تشعر بألم من كلماته وإحساس بالظلم والذنب بذات الوقت، هل كان عليها حقا التدخل وإيقاف تلك الطائشة عما فعلت بأمها؟ لماذا كل تلك الثورة وكل هذا الغضب؟ لقد رأت صدع كبير بعلاقته بأمه واخوته فلا تظن أن خوفه عليها سبب كل ذلك إذن لماذا كل ذلك؟ لقد جعلها تدرك أنها انتهت كممرضة وبالمكالمة التالية سينهي حياتها العملية عنده وهنا انقبض قلبها بقوة جعلتها تتألم وهي تفكر كيف يمكنها الرحيل وماذا سيكون مصيرها؟
وصلت للبيت فنزلت من السيارة ودفعت الأجرة وتلقتها صفاء بقلق ولكنها فزعت من مظهرها وقالت "ماذا حدث؟ هل هي بخير؟"
نظرت لها وقالت "نعم بالعناية لا تقلقي"
اقتربت صفاء منها وقالت "ولكن أنت ِماذا بك؟ هل أصابك شيء؟"
رفعت وجهها لصفاء ولم يمكنها منع البكاء أكثر من ذلك فانفجرت باكية فأسرعت صفاء إليها وتخلت عن جديتها وقناع العمل الذي ترتديه وأحاطتها بذراعيها وهي تبكي بقوة حتى هدأت فدفعتها صفاء للداخل وجعلتها تجلس وجلست بجوارها وقالت
"والآن أخبريني ما سر كل ذلك؟"
نظرت لها وهي تمسح دموعها بظهر يدها، لم تقاوم رغبتها بأن تتحدث وحكت لها ما فعله معها وغضبه منها وشعورها بالذنب الذي أدركته بسبب اتهاماته لها بالتقصير وعندما توقفت كانت قد هدأت فنظرت إلى صفاء التي ترددت قبل أن تقول
"نعم عهد كان عليكِ إيقافها إنها فتاة قليلة التربية ولابد أن يوقفها أحد"
تراجعت وقالت "ليس أنا مدام صفاء، ليس ممرضة لا صفة لها بينهم، ليس فتاة من الملجأ لا تعرف ماذا تقول عندما يجب أن يقال"
أمسكت صفاء بيدها وقالت "لست مجرد ممرضة عهد فأنت مسؤولة عن مدام دولت بكل شيء يخصها ولا أحد هنا يهتم بكونك من ملجأ أو عدمه فهو أمر لا يهم يكفي أنك ماهرة بعملك لذا كان عليك الوقوف أمام أي أحد يضر بعملك ومحاربته وعندما يحاسبك أحد وقتها تجيبي بأن هذا عملك وواجبك"
كلمات صفاء جعلتها تدرك الخطأ الذي سقطت به بسبب مخاوفها التي لا تنتهي وأدركت أنه كان على حق كان عليها إيقاف تلك الشيطانة المدللة الفاسدة بدلا من أن تقف صامتة بلا فائدة
ربتت صفاء على يدها وقالت "لا تحزني ستكون بخير وهو سيهدأ بالتأكيد فوجوده بعيدا يثير غضبه أكثر ولكنه سيهدأ بالنهاية، أنا أظن أنه أرادك أن تكوني أقوى من ذلك عهد، ليس الخوف سبيل للنجاح"
لم ترد والقوة أمر لم تعرفه منذ زمن بعيد، الخوف كان حبل نجاتها من الأولاد الذين كانوا يتنمرون عليها وبرؤيتهم الخوف بعيونها كانوا يرحلون ساخرين منها ضاحكين على الفتاة الصغيرة الضعيفة والجبانة، لم تتغير حتى بعد أن تركت الملجأ ربما أبعدت الخوف قليلا ولكنها اتخذت الوحدة بديل، لا أصدقاء لا حديث مع أحد، هي ونفسها ولا شيء سواهم
يد صفاء جذبتها ونهضت معها تقول "هيا اصعدي الآن واحصلي على حمام وحاولي أن ترتاحي"
هزت رأسها وقالت "سأذهب للمشفى مبكرا فقد تتحسن"
ابتسمت لها صفاء وقالت "حسنا"
تحركت صم قالت "أين بريهان؟ "
قالت صفاء "بغرفتها ولم تخرج منها"
هزت رأسها وتحركت لغرفها وحصلت على حمام دافئ وما زالت كلماته ترن بأذنها وغضبه يثير الرعب بكيانها وكذلك كلمات صفاء ولكن ماذا عساها تفعل؟ لقد وقع ما كان وربما تتعلم من أخطائها ومع ذلك ليس من السهل أن تكون امرأة أخرى غير التي تعرفها الآن
منذ التاسعة كانت بالمشفى وبريهان فقط سألت عن دولت ولكنها رفضت الذهاب للمشفى وعهد لم تهتم، ما أن دخلت المشفى حتى سألت عن حالة دولت فأخبروها أنها أفضل وأمكنها أن تدخل لرؤيتها واعتذرت منها لأنها لم توقف بريهان فقالت المرأة بتعب وتفهم
"ليس خطئك عهد، أنا وإبراهيم من يتحمل الذنب فلم أكن الأم الجيدة ولا هو الأب الجيد نحن من أفسد أولادنا ودللناهم فكانوا بتلك الصورة"
أشفقت عهد على المرأة وقالت "ولكنك امرأة رائعة وكل ذنبك أنك أحببت أولادك"
أبعدت عيونها وقالت "هذا بعد أن تعلمت الدرس جيدا ولكن متأخر جدا وقد خسرت كل شيء"
أسرعت تقول "ما زال لديك سيد ليث فهو حقا يهتم بك"
التفتت لها دولت وقد تحركت الدموع بعيونها وهي تقول "رغم أني لا أستحق اهتمامه أنتِ لا تفهمين شيء عهد"
هي لم تفهمها بالفعل ولكنها تساءلت "ولكنك أمه"
سقطت دموعها وقالت "نعم ولكني لا أستحق ابن مثله، أحيانا أتساءل كيف ما زال يمنحني اهتمامه"
تحرك الطبيب تجاههم ليقطع الحوار وقد تملك عهد الفضول عن أولئك القوم الذين امتلأت حياتهم بالألغاز وهي عاجزة عن إيجاد الحلول وحدها
سمعت الطبيب يسأل "كيف حالك الآن مدام؟"
أبعدت دولت وجهها للطبيب وأجابت بوهن "الحمد لله"
نظر لعهد وقال "ابنتها؟"
أجابت على الفور "لا الممرضة الخاصة بها"
هز رأسه وقال "حسنا يمكن أن تخرج على المساء من العناية ونتابعها حتى الصباح ووجودك معها ربما يجعلنا نسمح لها بالعودة للبيت على ألا تتعرض لأي ضغوط من أي نوع"
هزت رأسها بالموافقة فابتسم الطبيب وقال "يكفي ذلك حتى لا تجهد"
لم تعترض وخرجت دون أن تعرف لأين تذهب فلا رغبة لها بالعودة وهي سترتد لهنا مرة أخرى فتحركت لخارج المشفى دون هدى عندما رن هاتفها برقمه وبعودة الخوف والارتجاف أجابت لتسمعه يقول
"أين أنت؟"
ارتجف قلبها مع جسدها وهي ترد بصوت كالهمس "أمام المشفى"
رد بكلمة حاسمة "حسنا"
وما أن أغلق ورفعت عيونها عن الهاتف حتى رأت سيارته تدخل مكان الانتظار فشعرت بساقاها ترتجفان وهو يتألق بأناقة لا مثيل لها ووسامة تأخذ العقول وتحرك تجاهها برشاقته التي لاحظتها وثقة وقوة واضحة بكل خطوة من خطواته ونظراته عليها وعلى قوامها الملتف بفستان أزرق أنيق وبسيط، طويل يكسو ساقيها التي كانت مثار إعجاب الأولاد بالمدرسة وتعمدت فيما بعد إخفاءها عن كل العيون وطرحتها الرقيقة استقرت حول وجهها تخفي شعرها الذهبي نادر اللون وعيونها التي تتبعه تلمع كالذهب الذي يطوعه تحت ضوء الشمس
وقف أمامها وقد بدا طويلا جدا وهو ينظر له من ارتفاع المترين تقريبا ويخفض نظراته تجاهها وهو يسألها بحدة "إلى أين؟"
جذبت صوتها كالعادة بصعوبة وهي تقول "لا مكان، الطبيب أخبرني بإمكانية خروجها بالمساء من العناية ولا مكان لي هنا"
لمس ذراعها بيده فتحمد جسدها للحظة من لمسته ولكنه دفعها برقة للداخل وهو يقول "لنعود للداخل أريد رؤيتها قبل أن نذهب"
لم تعترض وهي تترك ذراعها بين أصابعه ليقودها دون مقاومة وهي تنظر له لتتمتع بملامحه التي افتقدتها وقد بدا غاية بالوسامة، ورغم أن ملامحه كانت جامدة وعيونه بدت مرهقة إلا أن ذلك لم يقلل من جاذبيته ولا من ثقته التي يتحرك بها، قادته هي لمكان العناية وسمحوا له بالدخول فجلست تنتظره بالخارج كما أمرها
فتحت دولت عيونها عندما سمعته يناديها، ابتسمت ورفعت يدها فوضع يده بها وقالت "مرة أخرى تعود من أجلي"
لم تتبدل ملامحه وقال "كيف حالك؟"
رحلت ابتسامتها من جمود ملامحه وقالت "بخير، آسفة لأني أربكت حياتك وأنا لا أستحق"
أبعد وجهه لحظة ما زال يصر على قراره ولن يهد أسواره مهما حدث، عاد لها وقال "هل تتوقفين؟ لم آتي من أجل كلماتك هذه تعلمين أني لا أريدها"
أخفضت عيونها وقالت "لم أشكرك حتى على ما فعلته أيام الحادث وألقيت بالذنب عليك، ليث أنا"
ترك يدها وهو يدرك ما تحاول أن تندفع وتدفعه معها له وهو يرفضه، لا يريده، هو فقط يؤدي واجب وليس أكثر لذا تمسك بالبرود والقوة وهو يذكر ظلام ماضيه فأشعل الغضب داخله ولكنه تعلم السيطرة عليه ودفعه لمكانه الصواب
تنفس بعمق وقال "هل توقفي ذلك؟ ليس الآن ولا هنا،  فقط استعيدي نفسك وعودي البيت"
شحب وجهها فهو لا يمنحها أي شيء ومع ذلك قالت "أختك"
نفخ وأبعد وجهه، بريهان نقطة ضعف رفضها وأزاحها من حياته ومع ذلك ما أن تقلب موج الماضي حتى صعد بما رسخ بالقاع للسطع فطفت لمحة من الألم أخفاها ولكن دولت أم وتدرك بواطن أولادها لذا رفعت يدها لوجهه وضغطت بضعف عليه وقالت
"من أجلي ليث، لا تتركها، هي لا دخل لها بالماضي، إبراهيم السبب، أنا السبب أنا سبب كل شيء ولكن لا يمكنني تحمل ضياعها"
أبعد وجهه عن كفها الدافئ ولا يصدق أنه يرفضها اليوم ولو أنها قدمتها له منذ عشر سنوات لكان قبلها واحتضنها، دفع أفكاره بعيدا وقال "لن تضيع اطمئني رجالي حولها بالبيت، فقط اهتمي بنفسك وصحتك لتخرجي من هنا"
هزت رأسها باستسلام وأغمضت عيونها بتعب فتحرك خارجا ومن داخله مشاعر رفضها ولن يقبلها، نهضت عهد عندما رأته يتجه لها فاستعاد نفسه برؤيتها واقترب منها وقال "هيا لنذهب من هنا"
ركبت بجواره وهي لا تعرف ماذا ينوي أن يفعل معها؟ لم يطردها حتى الآن، لم يعنفها مرة أخرى، هي حقا لا تفهم ذلك الرجل
فقاد في صمت عندما وتابعت ملامحه الجميلة بدون قصد ولم تشعر إلا عندما رن هاتفه باسم مي فلم يجيب بينما رأته يقود تجاه مطعم فاخر بدا كقطعة فنية، أوقف السيارة ونزل وهي الأخرى والتقت  به وهما يتحركان للباب الزجاجي الذي فتح بمجرد اقترابهم فدخلا لتنبهر بالمكان من جماله وتعثرت بخطواتها فأمسك ذراعها وقد شعر بارتباكها فقال
"ألا تعرفين شيء عن الثقة بالنفس؟"
رفعت وجهها له ولكنه لم ينظر لها وأدركت أنه يتخلل شرايينها ويصل لعقلها ويقرأ حتى أفكارها، ارتجفت هنا وهي تتساءل هل يمكنه أن يدرك أفكارها تجاهه؟
عادت للمسته وهو يقودها لمائدة منفردة بعيدة عن الزحام وصوت أم كلثوم يصدع من مكان بعيد بأغنية سيرة الحب وأدركت أن الكلمات تعنيها، هي أيضا تخاف من الحب وسيرة الحب وتصدق بظلم الحب لكل أصحابه
جلست خالية العقل، تائهة لا تعرف ما الذي أتى بها بهذا العالم الذي هي لا تنتمي له، تلك الوجوه غريبة بنات بنفس عمرها بملابس فاخرة ويجلسون مع شبان بنفس العمر أيضا ومع ذلك التفتت نظراتهن للرجل الجالس أمامها وقد فك جاكته وأكتافه العريضة دفعت أطراف الجاكت بعيدا كأنها تحرر نفسها منه وصدره الذي استكانت عليه مرة اختفى خلف القميص السماوي الثمين تحت الجاكيت، ارتفعت عيونها لوجهه الحاد عندما قال
"لا يجب أن يعرف الجميع أنك تملكين خوفا لا يمكنك التخلص منه"
ها هو يبدأ، فكرت، وبسرعة غير متوقعة دمعت عيونها من هجومه الهادئ والواضح فلم تنظر وأخفت دموعها تحت رموشها الطويلة بعيدا عن رؤيته وأنقذها رنين هاتفه مرة أخرى باسم مي فتنفس بعمق كعادته وأجاب
"أهلا مي"
انقبض قلبها للاسم الذي اخترق من أذنها لعقلها الذي دفعه لقلبها وكأنه يضحك منه ساخرا ويقول هل رأيت؟ ألم أخبرك أن عليك أن تخاف؟
رفعت عيونها له ولكن للأسف لم تجد أي شيء بعيونه فقط سمعته يقول "نعم وصلت من ساعة"
سألته مي "ستبقى كثيرا هناك؟"
قال وهو يتابع ملامح ذهبية العيون أمامه وهو يلتقي بالذهب الخالص بعيونها وكأنها سبيكة خالصة من الذهب الصافي تتلألأ تحت الأضواء وقد بدت مجهدة ومحلقة بالسواد، بشرتها البيضاء شاحبة وكأنها فقط كل دمائها جرعة واحدة، انتبه لمي التي نادته فقال
"لا أعرف بعد"
عادت تسأله بدلال لم يؤثر به كالعادة "من فضلك لا تتأخر عيد ميلادي بنهاية الاسبوع ولابد أن تأتي"
قال بعجلة ونفاد صبر "سأحاول"
قالت "حسنا حبيبي إلى اللقاء"
أنهى حديثه وأشار للرجل الذي بدا وكأنه ينتظره فأسرع له فطلب إفطار وعصير، انحنى الرجل باحترام مبتعدا بينا تراجع هو بالمقعد وقال "الصمت ليس حل"
قالت دون أن تنظر له "لم أعتد تلك الأماكن"
حدق بعيونها المنخفضة ورموشها المستكينة فوقها فلم يعجبه هذا الضعف وذلك الاستسلام فقال "ارفعي وجهك عهد ليس لديك ما تخجلي منه أليس كذلك؟"
كان يتحداها، رفعت عيونها له فعاد يتأملها ولكن الألم رافقه لأجلها، دامعة، حزينة، متألمة بصمت، انقبض صدره لأول مرة بطريقة لا يعرفها فتحرك بالمقعد غير شاعرا بالراحة مبعدا وجهه عنها وقال
"لم أجعلك المسؤولة عن دولت كي تجعلي الخوف يؤدي العمل بالنيابة عنك"
كان عليها مواجهة كلماته فهو لا يعرف شيء عما مرت به، الماضي يترك بصمات من نار لا يمكن إزالتها، قالت بضيق "فقط عندما لا تكون لي أي صفة"
انحنى للأمام مواجها إياها قائلا "تكذبين على نفسك لقد منحتك كل الصفات فما الذي أوقفك؟"
انخفض صوتها وهي ترد وردها صدر واهن لا أساس له "هي ابنتها"
قال بحدة "وأنتِ الممرضة الخاصة بها عهد، المسؤولة عن صحتها، حائط دفاعها عن أي ضرر يمكن أن يصيبها حتى ولو كانت ابنتها"
ما زال لا يفهم لذا لم تتراجع وقالت "هي لن ترحمني"
أجاب بدون تردد "أوقفيها"
كان عليها أن تستسلم فاعترفت "لم أكن لأعرف، لأقدر"
لم يرد فأبعدت وجهها للنافذة الزجاجية لتمنح الدموع مساحة لتسقط ثم عادت إليه وقالت "لم أعرف يوما كيف أواجه كل ذلك"
أدرك كلماتها وقال بهدوء "فتهربي من المواجهة بالخوف؟ وهل هذا هو الحل؟"
لم تترك نظراته وقالت "لم أعرف سواه، عندما تنشأ بغرفة كبيرة لا تعرف بها أحد ولا يتقبلك أحد لأن الجميع يظن أني، أني لقيطة لا أهل لي فيهاجمني هذا ويدفعني ذاك ولا تجد من يدفع عنك وتجد أن الفرار حل يبعدهم عنك فتتمسك بذلك الحل حتى أصبح هو كل ما أملك كي يمكنني أن أحيا"
تراجع بمقعده وهو يستمع لها ولا تعلم لماذا شعرت بأن عيونه أظلمت فجأة والذهب بها تحول لرماد، مسحت دموعها وهي تدرك أن ما قالته فقط لمحة مما عانت منه طوال عمرها، أكملت "لم يصدق أحد أن عمتي هي من تركتني بالملجأ ومديرة الملجأ لم تحاول أن تدفع عني الأمر فطفلة بعمري لن يهم ماذا يحدث لها ولا داعي للدفاع عنها فماذا تتوقع أن يكون مصيري؟"
انتبه الاثنان للرجل الذي وضع الأطباق وأكواب العصير ثم تحرك مبتعدا ولاحظت استمرار شروده، ظنوا أنها لقيطة، كاد ينفجر بالضحك من كلماتها، ماذا لو أجرى الآن مقارنة؟
دفع ظلامه بعيدا لن يندفع بالطريق ليس معها ليس الآن ليس بأي ثمن
دفع الشوكة بالطبق وقال وهو يصدق ما يقول "نحن من نصنع مصائرنا عهد وليس من حولنا حتى ولو كانوا أهلنا لذا لو لم تتمكني من تغيير الماضي فحاربي من أجل المستقبل"
ظلت تحدق به هي ولا مرة فكرت بالمستقبل، ولا خطر ببالها لحظة أن بإمكانها تغيير ما التصق بها من سنوات
بدأ بتناول الطعام بطريقته الأنيقة وهو يعلم أن كلماته تستقر برأسها وتصارع عقلها وهو لن يتراجع فهو ما آمن به ما كان سبب نجاحه، قال بحزم "تناولي طعامك، دولت ستحتاج لك عندما تخرج ولابد أن تكوني على قيد الحياة"
تنهدت وهو يستعيدها لواقعه وانتبهت لكلماته، إذن لن يقذفها بعيدا عن حياته، حياتهم، تساءلت بصدق "ستبقيني ممرضة لها؟"
رفع عيونه لها، هل ظنت أنه سيلقيها خارج حياته؟ قطب حاجبيه من سؤاله، هو يعني خارج حياة دولت، نعم هكذا هو الصواب، نظراته أحاطت بنظراتها التائهة وقال "هل تريدين أنتِ ذلك؟"
انتظر ردها وتنهد عندما قالت بسرعة ودون تفكير "نعم، نعم أريد بالتأكيد"
عاد لطعامه ليخفي ما قد يظهر بعيونه رغما عنه وقال "حسنا ولكن بشروطي"
لم تتناول أي شيء ولم تزح عيونها عنه وهي تردد "شروط؟"
أكمل طعامه وقال دون مواجهتها "نعم وأولها تنهين طعامك هذا وبعدها سنكمل باقي الشروط"
ظلت جامدة دون حركة فقال دون أن ينظر لها أيضا وبنبرة آمرة "تناولي طعامك عهد"
أطاعته هذه المرة وابتلعت ريقها وتناولت الطعام وذهنها مشغول بتلك الشروط التي تحدث عنها، هاتفه لم يتوقف عن الرنين وهو لا يجيبها كلها حتى انتهت هي من الطعام والعصير فأزال الرجل الأطباق وطلبا قهوة وعصير الشوكولاتة لها ثم دفع هاتفه بجيب الجاكيت فقالت
"هل ستخبرني بشروطك سيد ليث؟"
نظر لها وما زالت تضع القيود بينهم، ما زال السيد وهي؟ قال "شروطي كلها تتلخص بأن عليك القيام بعملك على أكمل وجه دون قيود، دون خوف، بقوة وبلا هروب"
ظلت تنظر له وقد تأرجحت الكلمات برأسها، دون قيود أو خوف، ومن أين القوة وهي لا تعرفها، لاحظ الجمود الذي استقر على ملامحها فعاد يقول "اسمعي عهد الحياة ليست فقط عمل وعمل ثم عمل، الحياة بها حياتك الشخصية وهذا يعني عهد الرابضة داخلك، قوية وشجاعة بدون عهد الممرضة، ولكنك تطمسين أي معالم لتلك الفتاة وتدفعين الممرضة للأمام"
أبعدت وجهها وقالت "الممرضة هي الناجحة بل أنا حقا ممرضة"
قال بهدوء وهو يدرك أنها ترفض الاعتراف بكلماته "الممرضة واجهة ضعيفة لفتاة قوية، إلى متى ستخفينها؟"
نظرت له وقالت بغضب من أنه يتغلغل داخلها بكل بساطة وكأنه يعرفها أكثر من نفسها، يا له من مغرور وهي لن تسمح له "لماذا لا تتركني أحيا كما أريد؟"
ابتسم وقال "لأنك أصلا لست على قيد الحياة، أنت ورقة واهنة تكاد تظهر على غصن شجرة الحياة كفاكِ جبن وخوف وواجهي الحياة كما يجب أن تكون"
شحب وجهها وتجمدت دموعها دون أن تسقط ولم تقوى على تحمله أكثر من ذلك فنهضت وتحركت للخارج والدموع تحاوطها كشريك يؤازرها بخطاها التي لم تعرف لأين تقودها فقط تبتعد عنه وعن كلماته المؤلمة، لا تريد أن تسمعه ولا تريد رؤيته و..
يده قبضت على ذراعها ليوقفها ويديرها له وهو يقول "الهروب لن يبدل الحقيقة"
عيونها الغاضبة كادت تحرق ما حولها وحاولت تخليص يدها وهي تهتف بغضب ممتزج بالدموع "فقط اتركني وابتعد عني"
ولكنه لم يتركها وهو يقول بإصرار غريب حتى على نفسه "ليس قبل أن تواجهي نفسك بالحقيقة قبل مواجهة الآخرين"
كانت تحاول تخليص نفسها وهي تقول "ليس لدي آخرين لمواجهتهم ولا حقيقة لأواجه بها أحد، أنا عهد الممرضة هكذا كنت وهكذا سأكون ولو كنت لا تريدني كما أنا فقط أخبرني وأنا"
جذبها له حتى كادت تصطدم بصدره وارتجفت ركبتيها من قوة قبضته ونارية نظراته وقال بنبرة قاطعة أوقفت عزيمتها "أنا أريدك أن تكفي عن الجبن الذي يسكنك وهذا لا علاقة له بالعمل أنا أتحدث عن المرأة التي تسكن خلف الفتاة الخائفة التي ترتدي الرداء الأبيض لتغشى العيون عن تلك المرأة لتبقيها بالظلام خلف الأبواب"
ظلت تنظر له وللحظة وهنت وهي تتجول داخلها، هل حقا هي تمتلك تلك المرأة داخلها؟ امرأة دفنتها بالمجهول ومنعتها من الظهور كي لا تضيع بسبب قوتها واختارت الممرضة الجبانة هل حقا هي كذلك؟
شعرت بالبرد يجتاحها دون سبب وجف حلقها وقالت وكأنها تريد أن تسمع هي نفسها ما تقول "لا، ليس هناك أي وجود لأي امرأة أخرى فقط الممرضة التي تخشى حتى مواجهة الجميع"
خفت قبضته وقربها له وهو يقول "بل هناك، هناك عهد فقط امنحيها فرصة للخروج ولا تخافين من أحد وتأكدي أني سأكون معك"
نظراته كانت ثابتة على عيونها ولم تجد أي لمحة كذب فهمست "أنت؟"
هز رأسه بإصرار وأجاب "نعم"
لم ترد ومرت لحظة عندما عادت أصوات السيارات من حولهم وخطوات لأشخاص هنا أو ضحكة لأحدهم هناك جعلته ينتبه للمكان ونظرات بعض المارين من حولهم فقال وهو يحركها
"هل نذهب من هنا؟"
لم تعوقه وهو يقودها للسيارة بل جلست بجواره ولم تتحدث ورأسها لخارج النافذة لا ترى أي شيء، كل ذهنها مشغول بكلماته عن المرأة، وعادت تسأل؛ هل حقا رأى ما بداخلها وشعر بأن هناك امرأة داخلها أقوى من الممرضة؟ وهل أدرك أيضا أن تلك المرأة قوية لتعترف أنها تنجذب له وتريد أن، تريد ماذا؟ هي نفسها لا تعرف ماذا تريد وكيف يمكنها أن تكون امرأة مختلفة عن عهد التي عرفتها؟ لا هي لا تصدق كل ذلك لا تصدق
وصل للكورنيش فأوقف السيارة وكان مكان هادئ بعيد عن الازدحام فظلت صامتة لحظة قبل أن تنظر له وتقول "لماذا تفعل معي ذلك؟"
ابتسم وقال "حضرتك التي تنطقين بها تجعلني أشعر بأنك مسؤولة مني، هل ابنتي تعجبك؟"
احمر وجهها وأبعدت عيونها وهي تقول "لا يمكن أن تكون أب لفتاة بخمس وعشرين عاما"
قال "ربما، ولكني أيضا لست صغيرا أنا بالسادسة والثلاثين"
رفعت عيونها له وقالت "لم تكن لتنجبني وأنت بالحادية عشر"
ضحك وقال "لا، إذن كفي عن حضرتك هذه وسأكف عن مناداتك فتاة"
هزت رأسها وقالت "لديك حضور يوقفني عن مناداتك بشيء آخر"
صمت وهو يحدق بها ثم قال "حضور سيء"
هزت رأسها وقالت "بل لا مثيل له يجبر من أمامك على احترامك وتقديرك"
ظلت عيونه تواجه نظراتها حتى تركها وهو يقول "لن تخبريني أن أموالي هي السبب"
أبعدت وجهها وقالت "سأترك لك الإجابة على ذلك"
نظر لها وقال "تتعلمين بسرعة"
بادلته النظرة وقالت "لدي معلم قوي لن يقبل بالهزيمة"
ابتسم وقال "هذا حقيقي وعليك وضعه باعتبارك"
هزت رأسها فعاد يقول "معاذ يريدك"
التفتت له ولكنه لم ينظر لها وهو يتابع رسائل هامة على هاتفه بينما قالت هي بدهشة "ماذا؟"
أكمل "نظراته لك ذات معنى عهد ألم تدركي ذلك؟"
أبعدت وجهها وهي تتذكر يوم جاء لزيارة والدته وكيف كاد يتقدم لغرفتها فعادت له وما زال يعبث بهاتفه ولكنه قال "تدركين ذلك لذا عليك بالحذر في تعاملك معه، ليس باستطاعتي منعه عن والدته وحتى بوجود رجالي عليك بالحذر، بريهان تعرف بمخاوفك وهي تلعب على ذلك لذا"
وصمت وهو ينظر لها فقالت "يجب أن أظهر شجاعة"
قال بنفس الهدوء والذي يزيده قوة أمامها "بل قوة وقدرة على المواجهة والرد ولا تنصتين لأي كلمة مهينة تخرجها فهي تهين نفسها لا أنت"
عادت تهز رأسها وهي لا تبعد عيونها عن وجهه الغارق بالهاتف بينما أنهى هو هاتفه وأدار السيارة وقال "علينا بالعودة للمشفى"
قاد فقالت "تظن أني سأنجح؟"
قال "الأمر ليس مرتبط بي بل بك وبما تريدين"
ظلت تتابعه للحظة وهو يخترق الزحام ثم التفتت له وقالت "عرفت أنك تقيم بنيويورك"
هز رأسه فأكملت "وحدك؟"
لم ينظر لها وهو يرد "لا"
شحب وجهها وانقبض قلبها مرة أخرى هي تريد أن تخترق صمته عن نفسه وحياته، أكمل "جون لا يتركني، هو من تولاني منذ وصلت هناك وما زال يهتم بي ولا يعترف أني أصبحت بالغ عاقل يمكنني تولي أموري بنفسي"
عادت الدماء لوجهها وهدأ قلبها ولكنها قالت "والزوجة والأولاد؟"
تذكر مي ولكنه أبعدها بالحال وهو ينظر لها ويقول "أربعة وعشرة أولاد والبيت يتسع لأكثر"
للحظة بدت في ذهول ثم من نظراته أدركت أنه يمزح فقالت وهي تتنهد بوضوح "لقد صدقتك"
ضحك بقوة حتى توقف وقال "عهد ألا تضحكين أبدا؟"
أبعدت وجهها وقالت "بلى أفعل"
تحرك وسط السيارات وقال "متى؟ لم أراك مرة تبتسمين حتى، لست وحدك من جرب المر عهد وعليكِ تبديل كل ما كان بداية بابتسامة صغيرة على تلك الشفاه الرقيقة"
ظلت تنظر له وقالت "هل يمكنني أن أسألك"
قاطعها وهو يفهم ما تريد "لا أظن أن لدي ما يمكن أن يشغل تفكيرك"
وأوقف السيارة وهو ينظر لها ويقول "لقد وصلنا المشفى"
التفتت حولها لتدرك صدق كلماته فعادت له فقابلتها عيونه فقالت "لماذا تفعل معي ذلك؟"
لم يجد إجابة لسؤالها ولكن كل ما استطاع قوله هو "ربما لأننا متشابهان باليتم"
ونزل وهي تحاول أن تفهمه وتتابعه وهو يتحرك تجاهها ويفتح لها الباب فنزلت ووقفت أمامه وهو يدفع الباب خلفها دون أن يبعدها ونظراتهم لا تفترق فقالت "شكرا لك"
ابتسم وقال "بأي وقت"
وتراجع ليتحركا للداخل والصمت ثالثهم فلم يعد هناك أي كلمات يمكن أن تكمل ما كان بينهم اليوم وبالفعل انتهت الكلمات بخروج الأم من العناية وتولت هي رعايتها بالغرفة مع الممرضة المختصة وسألتها الأم
"ماذا فعل ليث مع بريهان؟"
نظرت لها وقالت "لا أعلم مدام"
اندهشت الأم وقالت "ألم يعد للبيت لرؤية بريهان؟"
ارتبكت وهي تفكر بالرد عندما دق الباب ودخل هو وهو يقول "الطبيب أخبرني بإمكانية خروجك غدا"
قالت وهو يجلس على المقعد المواجه "لم ترى بريهان؟"
أجاب باختصار "لا"
نظرت هي الأخرى له بينما قالت الأم "وماذا ليث؟"
قال بهدوء "هي بالبيت لا تخشين شيء وحديثي معها لن يكون الآن فلا تقلقي"
دق الباب ورأت معاذ يدخل ولمعت عيونه برؤيتها ولكنها أبعدت وجهها عنه ولم ينظر ليث له وإنما لها وقد دلت نظراتها على عدم الاحترام، كلمات معاذ أعادت الجميع للواقع وهو يقول
"ماما كيف حالك؟"
تحرك تجاهها وقبل رأسها فقالت "بخير حبيبي كيف حالك أنت؟"
نظر لعهد وقال "أين كنتِ وقت ما حدث؟ وكيف لا تخبريني بالأمر؟"
أجاب ليث ببرود قاطعا عليها فرصة الرد "هي أخبرتني أنا معاذ فأنا المسؤول"
التفت له معاذ وقال "وأنا أيضا ليث، شئت أم أبيت أنا ابنها أيضا وهذا حقي"
نهض ليث وتحرك تجاهه وقال "لهذا أنت هنا الآن"
تواجه الرجلان فقالت الأم "كفى، لن تتشاجرا هنا أيضا"
ابتعد ليث وقال "لا، لن نفعل، تعالي عهد أريدك"
وتحرك للخارج فتبعته بصمت فقال "لن أبقى معه بمكان واحد" ثم نظر لها وقال "ولا أنتِ"
لم تدع الدهشة تأخذها فهو واجها بما يريده معاذ من قبل، تحركا لمكان الانتظار وجلسا فقالت "الكره يسود علاقتكم"
لم ينظر لها وهو يقول دون اهتمام "بالتأكيد السرقة والنصب ومحاولة القتل الأخيرة لن تصنع أي محبة"
رددت بدهشة "سرقة ونصب"
هز رأسه وقال "هذا جزء من كل"
سمعا صوتا ينطق اسمها "عهد"
نظرت لصاحب الصوت فوجدته هيثم الذي تحرك تجاههم وهو يبدل نظراته بينهما وعاد يقول "إذن الأمر كان صحيح، أنتم على علاقة"
يتبع..

رواية وجهان لامرأة واحدة   بقلمي داليا السيدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن