الفصل الرابع عشر
أنا أكرهك
لزمت غرفتها يومان كانت جينيس هي من تحاول معها بالطعام ولكنها كانت ترفض حتى سقطت باللا وعي وحضر الطبيب وقام باللازم حتى عادت للوعي ووقتها جلس جون أمامها وقد بهت وجهها وتحلقت العينان الجميلتان وفقدتا بريقهما الذهبي، قال بحزم
"هل تظني أن ما تفعليه بنفسك سيعيد أي شيء؟"
لم ترد ولكنه يعلم أنها تسمعه فأكمل "الخوف الذي يسكن كيانك هذا هو سبب كل ما أنت به الآن، أعلم أن الحب هو من كان يحركك ولكن الخوف أيضا كان شريكه، خوفك من أن يتركك ويرحل، خوفك من أن يتوقف عن اهتمامه بك لو رفضت وجوده، خوفك حتى من نفسك، كفى عهد لابد أن تستعيدي نفسك وتلتمسي القوة لإكمال حياتك هنا لأن البقاء يحتاج للأقوى ولأن تثبتي له أنك لست تلك الفتاة"
لم تنظر له ولم ترد ولكنه يعلم أنها تسمعه، بل هي تعلم أنه كان يخبرها بذلك، أن تبعد الخوف وتتحلى بالقوة وعليها أن تفعل ليس لتخرج المرأة القوية من خلف الظلام وإنما لتواجه بها الألم النابض بقلبها، لتعيد بها الثبات لحياتها المنهارة، لتستعيد ما كانت عليه بل أفضل
نهض جون متحركا للخارج ولكنه توقف عند الباب وقال "المشفى أرسل لك بالقبول عهد وسيبدأ عملك من أول الاسبوع أي بعد يومين"
وخرج تاركا إياها مع أحزانها وأفكارها وكلماته التي كانت تعلم أنها صحيحة وأن عليها أن تستعيد نفسها وتعود لحياتها بدونه، وكما تفكر الآن تعود لعهد الممرضة القوية ولم يعد هناك وجود لعهد أخرى فالاثنان الآن أصبحا واحدة بوجه واحد، القوة، لابد أن تغلب الضعف والممرضة بالنهاية امرأة ولكن قوية
أول يوم عمل كان أصعب الأيام التي مرت بها والتعارف على كل ما حولها والإلمام بكل شيء أخذ كل تركيزها وبنهاية دوامها كانت تنهار على مقعد بغرفة تبديل الملابس عندما دق الباب ودخلت إيلين رئيسة الممرضات فنهضت واقفة بينما قالت المرأة
"أردت إخبارك أن الجميع سعيد بعملك"
ابتسمت وقالت "شكرا جدا لك"
ابتسمت إيلين وقالت "ستتنقلين بكل الأقسام كما تعلمين وبعدها دكتور جيف هو من سيحدد مكان استقرارك"
هزت رأسها وقبل أن تذهب عادت تقول "ربما تدبرين أمر غطاء رأسك بما يتناسب مع مظهرك فهو أمر هام هنا"
هزت رأسها مرة أخرى وهي بالفعل كانت تفكر بذلك وقد استعانت بالنت كي تجد ما يناسب عملها ولا يتعارض مع تعاليم الدين وبالفعل بدون أن تشعر تبدلت كل حياتها وأغرقت نفسها بالعمل لتمنع عقلها من التفكير به ورفضت حتى الحديث عنه وأصبح الفراق واقع سلمت به حتى عندما تخطئ جينيس أمامها بذكره كانت تتخطى الأمر ومرنت قلبها على النسيان وآمنت أنها كانت تستحق ما جرى لها فهي منحته قلبها ولكنه هو لم يمنحها أي شيء ولم يعدها إلا بوجوده معها حتى تقف على أقدامها وقد فعل، أتى بها هنا ومنحها وظيفة وبيت وعندما رحل كان قد وفى بكلمته
أما جون فكان أكثر حرصا بحديثه معها ولم يذكره لها ولا مرة بل كان يشجعها ويساندها ويبحث لها عن دورات تدريبية بعد أن توقف مكتب ليث عن متابعتها واخترقت هي ذلك العالم بقوة وشجاعة أذهلتها وأذهلت جون حتى استقرت حياتها ونفذت ما أرادت
****
دق باب غرفتها بالمشفى والتفتت لترى ماسي تدخل وتقول "دكتور ماديسون يطلبك عهد بالعناية"
نظرت لها وقالت "ماريان هناك ويمكنني إرسال جانيت"
قالت ماسي "لا هو أرادك أنتِ"
هزت رأسها وجذبت الرداء الأزرق المميز وارتدته وهو لم يكن وقت عملها ولكن هي لا ترتبط بوقت للعمل لذا تحركت للعناية بدون تردد لتجد حالة من الطوارئ ودكتور ماديسون بنفسه بالداخل وهو دكتور قلب شهير ومدير المشفى بذات الوقت
"مساء الخير دكتور"
لم ينظر لها وقال وهو يتابع الجسد الممدد أمامه وقال "جلطة بالقلب وهبوط بالدورة الدموية بذات الوقت وأخشى أن الخلل قد يصيب القلب بقوة"
تحركت وهي تعرف ماذا تفعل رغم وجود غيرها من الممرضات ولكنهن تراجعن بوجودها فالجميع أصبح يعلم مهارتها ومكانتها بعد أن أصبحت رئيسة الممرضات بعد عام ونصف لها بالمشفى الجديد الذي انتقلت له بعد افتتاحه ولم توقف دوراتها التدريبية كلما وجدت واحدة
قالت بثقة "لم يتم الإسعاف بوقته دكتور؟"
نظر لجهاز قياس القلب وقال "لا، هيا امنحيني النيتروجلسرين"
كانت تمد يدها له فقال "دائما تعرفين ما أريد"
انتهى فأكملت ما تفعل وهو يطلب ما يعمل به فمنحته له فقال "هذا الرجل شخصية هامة وستجدين الصحافة تملأ المشفى بمجرد تسرب الخبر"
لم تهتم وقالت "وظيفتي تنتهي هنا دكتور"
ابتسم وقال "لا، سيكون عليك الاهتمام به شخصيا عهد، أنا لن أجازف بسمعة المشفى"
لم تسأل عن مدى أهميته فهي دائما ما تبتعد عن الأضواء وقالت "لم أرى أقارب له بالخارج"
انتهى من متابعة الحالة وقال "أعتقد أن له ابنة واحدة"
نزع الماسك من على وجهه وتبعته هي وهو يمنحها تعليماته الخاصة ثم قال "أريدك أن تتولي رعايته بنفسك، أنتِ عهد لا أحد آخر ذلك الرجل سيمنح المشفى سمعة من اثنين إما جيدة وإما"
ولم يكمل وهو يخرج وهي تمنح البنات أوامرها وقالت وهي تتبعه "حاضر دكتور لا تقلق"
تبعته لغرفة الإفاقة فقال "نصف ساعة وامنحيه جرعة أخرى أقل، بالتأكيد سنجد بالخارج من يسأل عنه"
فتح لها الباب وهي تقول "حاضر دكتور، سيحتاج لدوام مخصوص و"
توقفت ولم تكمل وارتجفت بقوة وهي تصطدم بتلك العيون التي ضاقت لرؤيتها ولم تسمع لما يقوله ماديسون الذي تركها والتفتت لصاحب العيون التي كانت تحدق بها وعلامات استفهام كثيرة تنطلق منها ولكنه أبعدها للطبيب وهو يقول
"ليث الجبالي، أريد الاطمئنان على عزيز"
تراجعت حتى كادت تسقط لولا الباب الذي أوقفها، هل حقا هو عزيز والد مي؟ ماديسون لم يخبرها باسمه وهي لم تهتم فهو ليس شأنها، أبعدت عيونها عنه كما فعل هو وتحركت للخلف حتى التقت بالباب ففتحته وعادت للداخل تاركة الباب يغلق خلفها وقدماها تجذبها إلى حيث لا تعرف وتحركت لغرفة الأطباء الفارغة وجلست على أقرب مقعد وهي تقاوم ألم قلبها الذي فاجأها من أنه ما زال يدق لرؤيته، ولكن لا، هو ليس ألم بل غضب، نعم هي غاضبة ولن تضعف كان عليها مواجهته لا الهروب منه كان عليها الوقوف أمامه ليعرف أنها نجحت بدونه وأكملت وحدها، نعم، أصبحت قوية وتبدلت وواجهت كل المشاكل بشجاعة وحققت بعامين ما حققه سواها بخمسة
صوت ماريان أعادها وهي تقول "دكتور ماديسون يبحث عنك"
نظرت لها فقالت الفتاة "هل أنتِ بخير؟"
استجمعت نفسها لتوقف ارتجافة جسدها وهزت رأسها ونهضت وهي تمنح نفسها كل القوة المستوحاة من الغضب الذي تحمله تجاهه لن يرى ضعفها ولن يراها إلا قوية، تحركت للخارج مرة أخرى لترى الرجال وقد زادوا عددا من حوله أو لا تعلم، لم تمنحه أي اهتمام واقتربت من ماديسون وقالت
"طلبتني دكتور؟"
التفت الدكتور لها وقال "مستر جبالي يريد رؤية مستر عزيز هل تصحبيه للداخل؟ لا أريد مضاعفات وأنا لابد أن أرحل يمكنك التعامل أليس كذلك؟"
هزت رأسها دون أن تنظر لسواه، من بين كل الممرضات ماديسون يريدها هي معه ومن كل مستشفيات نيويورك تواجد عزيز هنا لتعيد ما كان
التفت الطبيب له وقال "مس محمود ستصحبك مستر جبالي للداخل ولكن برجاء عدم البقاء كثيرا"
تراجعت والطبيب يذهب بينما لاحظت أن الرجال الأخرى تتراجع وهو ينظر لها فرفعت وجهها له وقالت بهدوء غريب "تفضل مستر جبالي من هنا"
وفتحت الباب وتحركت للداخل فتبعها بصمت وما زالت نظراته تخترقها وهو لا يفهم سبب تواجدها هنا ولا كيف يأتمنها المدير على عزيز بحالته تلك ولكنه نسى كل ذلك عندما شعر بكيانه يهتز لرؤيتها وحرارة تخترق جسده رغم المكيف البارد ولم ينكر سعادة خفية نبضت داخل صدره لتؤكد على كل ما كان داخله
تبعها وقد تبدلت ملامحها للأجمل وبدت غريبة بغطاء الرأس الملفوف بعناية على رأسها والرداء الأزرق المميز عن الأبيض لأنها ذات مكانة مميزة، خطواتها الثابتة اختلفت عن التي كانت ترتجف بالماضي، هي كبرت ولكنها تحولت للأجمل أكثر مما كانت، توقفت أمام فراش عزيز والتفتت له فرأى البطاقة المعلقة على صدرها وعرف أنها أصبحت المسؤولة، حقا لقد تبدلت تماما ترى كيف حققت كل ذلك بعد أن توقف عن مساعدتها؟
التفت لعزيز الذي كان ماسك النفس على وجهه والأجهزة بكل مكان بصدره وذراعه ولم يفتح عيونه فقال دون أن ينظر لها "هل يسمعني؟"
كم افتقدت صوته، كم اشتاقت لكلماته، ملامحه كما هي ولكن تجاعيد جديدة ظهرت بجوار عيونه كبصمة لما مر من وقت، ابتلعت ريقها ورفعت رأسها وقالت بثقة قد تكون حقيقية أمامه
"لا، ربما يستمر حتى الصباح"
نظر لها وقال "حالته خطر؟"
هزت رأسها وهي تبعد عيونها عنه وتجبر نفسها على الاستجابة له فهو عمل وعليها أداؤه كما اعتادت فقالت "نعم، للأسف لم يتم إسعافه بالوقت المناسب مما سبب أضرار كثيرة بالقلب"
هز رأسه وقال "ماديسون قال ذلك، أظن أن لا داعي لوجودي"
لم ترد فالتفت لها ولكنها لم تنظر له فلم يستطع أن يمنع نفسه من أن يسألها بحدة "ماذا تفعلين هنا؟"
نظرت له وتحلت بكل الشجاعة التي تمتلكها وقالت "كما ترى، أعمل"
تحرك مقتربا حتى وقف أمامها وقال وما زالت تواجه نظراته الغامضة "لم يكن هذا مكان عملك"
أبعدت عيونها وقالت "الحياة تتبدل، هل تسمح بالخروج؟"
انحنى وقال بغضب "لن تأمريني بشيء عهد"
رفعت وجهها له بقوة وقالت "ليس أمر مستر جبالي بل مصلحة المريض"
ظل الغضب يقفز من عيونه وهو يرمقها بنظراته وقال "لن تخبريني أنت بمصلحته من عدمها"
لم ترد وهي ترفض الهروب من أمامه بينما أبعد هو وجهه عنها وعاد لجسد الرجل الهامد ثم التفت خارجا من الغرفة والشياطين تتلاعب أمامه ولم تتبعه للخارج بل استندت إلى طرف الفراش وأطلقت أنفاسها وهي تغمض عيونها محاولة تنظيم دقات قلبها وتتنفس الهواء الذي اقتلعه ذلك الرجل من حولها
عندما خرج تبعه الرجال للخارج ولم يتحدث وهو يسب ويشتم من داخله لرؤيتها والقوة التي بدت بها والتحدي بعيونها وكأن ما كان بينهم لم يكن، فتح له السائق الباب وركب رجاله بالسيارات من خلفه وقال
"البيت"
أغمض عيونه وقد انهالت عليه الذكريات، تلك الليلة التي قلبت حياته كلها ومحت السعادة من حوله بما ألقته مي بوجهه وهو أراد أن يصدق أنها الحقيقة وباليوم التالي وقبل أن يرحل لطائرته كان جون ينتظره بالأسفل وقد كان يعلم أنه سيواجه
تحرك جون تجاهه وقال "ماذا حدث بالأمس ليث؟"
ألقى هاتفه بجيبه ونظر لجون وقال "ما الذي حدث جون؟"
توقف الرجلان أمام بعضهما البعض بقوة فقال جون "أنت تعلم ما حدث ليث، لقد تركت عهد وحدها بمكان لا تعرفه بعد أن أهانتها مي و"
تحرك من أمامه وقاطعه "وهل ظنت هي أن أترك خطيبتي وأرحل خلفها؟"
التفت جون له غير مصدق كلماته وقال "ماذا تقول ليث؟"
لم ينظر له وهو يقول "ماذا أقول جون؟ أليست هذه هي الحقيقة؟ لقد رسبت عهد بالاختبار جون، لقد أتت هنا برغبتها وأثبتت أنها كأي امرأة لا ترغب إلا"
هتف به جون بغضب "كفى ليث كفى، أنت لا تصدق حقا أن عهد بهذا الشكل، لا يمكن"
ابتعد أكثر وكلمات مي ما زالت تتلاعب بعقله وتثير ظنونه وتجعلها حقائق، قال ببرود "بل هي فتاة رائعة حقا، لقد صدقت قصتها عن الشرف والتضحية ولكن بالنهاية فسدت خطتها وأنا كشفتها"
قال جون "تقصد مي فعلت"
التفت له فأكمل جون "اسمع ليث أنا لن أتحدث كثيرا بالأمر ولن أدافع عن الفتاة التي عرفتها أنت قبلي وأصررت على إدخالها حياتك لأني لو فعلت فبالتأكيد لن نلتقي بعدها لكن سأخبرك شيء واحد وهو أن عهد ليست تلك الفتاة، لم ولن تكون هي فقط تبعت قلبها لذا سقطت بالفخ الذي قدتها أنت له، عهد ليست المرأة التي عشت عمرك كله تراها بكل امرأة"
الصمت لفهم ونظرات ليث الغاضبة لا تبتعد عن جون ولكنه كظم غضبه لأنه لم يعد يريد إكمال الأمر فقد قرر وانتهى الأمر، نظر لساعته وقال "الطائرة بعد ساعة، أنا راحل إلى لوس أنجلوس وبعدها للبرازيل ولا أعلم متى سأعود بلغ سلامي لجنيس"
وتركه وذهب وما زالت السحابة السوداء التي رفعتها مي أمام عيونه موجودة جعلته لا يرى بل ولا يسمع لأي شيء بل وزاد عليها كلمات جون 'عهد ليست المرأة التي عشت عمرك كله تراها بكل امرأة' ليدفع الماضي أيضا بطريقه
فتح عيونه وهو يدرك أن عامان انقضيا منذ تلك الليلة، رفض أن يسمع أو يعرف عنها أي شيء ولكنه لم ينساها لحظة واحدة، كلما مرت به لحظات وحدة كانت تخترق عقله ويرى عيونها البريئة ويسمع صوتها الرقيق، هو يعلم أنها المرأة الوحيدة التي احتلت جزء كبير من عقله بل بوقت ما كانت تملك كل عقله ولكنه أبعدها كما اعتاد أن يفعل فوجودها ببيته دفع كل غضب الماضي له وكلمات مي زادتها قوة وجعلته يتوقف عن حسن الظن بها فلفظها خارج حياته ورفض الإيمان بأنه أرادها كما لم يرد امرأة بحياته
بالوقت الذي أمضاه بعيدا حارب نفسه وقاوم رغبته بالعودة لها وإعادة ما كان بينهم ونجح بالبعد حتى أعماله هنا ابتعد عنها ووظف الكثيرين كي يقوموا بالعمل بل وحول مكتبه الرئيسي للفرع الجديد بلوس أنجلوس كي لا يعود هنا إلا للضرورة فعزيز كان شريك جيد، حتى مي عانت هي الأخرى من إهماله لها وحاولت معه ولكن كالمعتاد علاقته بها كانت على الهامش واختار البعد عن كل شيء ونجح حتى اليوم، اليوم سقطت بطريقه مرة أخرى ومن سخرية الأقدار أن هو من اختار المشفى، عادت أمامه مرة أخرى وقد بدت أكثر نضوجا وجمالا وثقة بالنفس، لقد تعلمت الدرس جيدا، لقد نجحت وحققت بتلك المدة القصيرة ما لم يتخيله أبدا
لم يدخل البيت منذ ذلك اليوم، كان يرى جون بقاعة الجيم عندما يأتي لمكتبه مرة كل فترة طويلة وقد أمضى العامان بسفر دائم أو بلوس أنجلوس مما جعله لا يفكر كثيرا بالماضي ولكن ها هو الماضي كله يسحقه بلحظة
تحركت أقدامه لداخل البيت ببطء شديد وهو يذكر وجودها معه وكأنه يراها بجواره وهو يحيطها بذراعه ثم عيونها التي انبهرت بجمال المكان، فك ربطة عنقه عندما اختنقت أنفاسه ثم أزرار قميصه وهو يتحرك لغرفة الجلوس وتوقف حيث كانت تقف وهو يأتيها بأكواب العصير التي لم تتناولها ثم رفع وجهه ليرى نفسه وهو يضمها له ويقبلها بقوة وهي استجابت له بقبلة رائعة لم يكررها مع سواها ولم ينساها لحظة واحدة، أغمض عيونه وكأنه يريد الاحتفاظ بالذكرى أمام عيونه أو ربما يستعيد مذاقها أو يشعر بذراعيها حول عنقه وأنفاسها تختلط بأنفاسه
"لم أصدق عندما أخبرني مكتبك بعودتك"
فتح عيونه ولم يلتفت لمواجهة جون كي يحتفظ بملامحه لنفسه وقال "كان لابد أن أعود تعلم ما أصاب عزيز بالعمل"
ثم تحرك لمائدة العصائر وسكب كوبا لنفسه وتناول كمية كبيرة ليوقف جفاف فمه ثم التفت ليرى جون قريبا ونظراته تعني الكثير وهو يقول "ومتى سترحل؟"
تناول بعض من العصير وقال "لا أعلم، عزيز لم يتحمل الخسائر وأصيب بجلطة بالقلب ونقل لمشفى..، وعدم وجوده يعني ضرورة وجودي"
لم يرد جون ولم تتبدل ملامحه فعاد يقول "كنت تعلم أنها تعمل هناك"
تحرك جون للأريكة وجلس وهو يقول "بالتأكيد، تعلم أنها تعيش معنا تقريبا، هل التقيت بها؟"
تناول ما تبقى بالكوب ثم تحرك وتركه بمكانه ولم يلتفت وهو يقول "نعم، ماذا تفعل هناك؟"
أجاب جون بهدوء "ماذا تفعل ليث؟ بالتأكيد تعمل"
التفت بغضب وهو يقول "لا تفعل جون تعلم أني لن أقبل بالتلاعب بالكلمات"
صمت جون للحظة وهو ينظر له ثم أبعد عيونه وقال "عملت ستة أشهر بالمشفى القديم وما أن افتتح الجديد حتى طلبها ماديسون معه ومنحها مركز كبير فقد حصلت على تقديرات مرتفعة بكل الدورات التدريبة التي حصلت عليها وأجادت اللغة بوقت قصير وأنت تعلم جيدا أنها بارعة بعملها"
أشاح بيده وقال "وهل ماديسون هو من حصل على اهتمامها بعد أن خاب أملها بي؟"
لم يرد جون ونظراتهم ثابتة ولكن ليث أبعد وجهه وقال "لماذا لا تجيب؟ هل خدعتك أنت أيضا لتجعلك تقف معها ضدي؟"
نهض جون وتحرك له حتى وقف أمامه وقال "اهدأ ليث، أنا لم أكن ضدك بأي يوم ولن أكون، عهد لم تخدع أحد لا أنت ولا أنا ولا ماديسون، عهد نفذت ما أردته أنت منها، أصبحت امرأة واحدة بوجه واحد وتحلت بالقوة والشجاعة، نفضت عنها الخوف وتذرعت بالعلم والعمل وحققت ما أرادت بمجهودها وتعبها وسهرها وليس بالغش والخداع ليث"
التوى فمه بسخرية وهو يقول "بعامين فقط تصبح رئيسة الممرضات بمشفى كبير كهذا؟ هل تعقل ما يحدث جون؟"
وابتعد ولكن جون قال "لست بحاجة لأن أعقل شيء ليث، تلك الفتاة تعيش ببيتي، تأكل على مائدتي، تمرض زوجتي وتخدمها فما الذي تريد أن تسمعه مني؟"
لم يرد وهو يلتفت له فأكمل جون "عهد فتاة لم أعرف مثلها من قبل، كل ما تفعله بالحياة هو خدمة الآخرين والسهر على راحتهم وعلى فكرة لقد حققت أرباحا كثيرة من عملها ولم تعد بحاجة لخداع أحد من أجل المال أنا أتيت لرؤيتك فقد افتقدتك"
ثم تحرك للخارج ولكنه توقف وقال "على فكرة جينيس مريضة وسألت عنك كثيرا، عهد تعمل دائما بالليل"
ثم تركه وذهب وهو يتابعه حتى اختفى فتحرك للمقعد وجلس ورفع يداه الاثنان بشعره الذي تناثرت به خصلات فضية فالعمر يمضي للأمام ولا يرتد للخلف، الصداع يكاد يدمره دون رحمة والأفكار تتزاحم داخل رأسه كالجراد بموسم الحصاد وعيونها تخترق جدران حصنه بلا رحمة
لم ترحل بانتهاء دوام الليل وهي كانت تعمل بالليل دائما كي لا تمنح رأسها مجال للتفكير، أشرق النهار وهي ما زالت تتابع عزيز وقد تداعت حالته بالليل بشكل سيء وقامت هي باللازم بعد متابعة ماديسون بالهاتف وظلت بجوار الرجل حتى استقرت حالته ووصل الطبيب بالصباح ليراه وقال
"أرى أنه سيحتاج للجراحة رغما عنا"
هزت رأسها بتعب واضح وقالت "الحالة تستقر ساعات قليلة ثم تنهار"
نظر لها وقال "أنتظر أي أحد ليمنحني توقيع بإجراء الجراحة"
قالت دون أن تنظر له "كنت أظن أن له ابنة"
هز رأسه وقال "نعم ولكنها اختفت منذ فترة ولا أعلم كيف لم تأتي لرؤية والدها"
من داخلها كانت تدرك أنها بالتأكيد أصبحت زوجته الآن، كيف لم تنظر لأصابعه لتعرف ما إذا كان قد تزوج أم لا لن يبقى كل تلك المدة دون زواج
انتهى ماديسون وقال "تحتاجين للراحة"
تبعته للخارج وقالت "نعم ولكن ليس الآن"
هز رأسه وخرج من العناية وهي خلفه لتصطدم به مرة أخرى أمامها وهو كذلك، أبعد عيونه عنها وقد بدا على كلاهم التعب والإرهاق، سأل باهتمام "كيف هو الآن؟"
قال الطبيب "ليس بحالة جيدة ولابد من إجراء جراحة فورية وأنتظر توقيعك بالموافقة"
تراجع وقد بدت ملامحه جامدة ولكن مجهدة وحاولت ألا تنظر له وهو صامتا يفكر حتى قال "حسنا يمكنني التوقيع طالما حالته بحاجة للجراحة"
التفت ماديسون لها وقال "عهد ستخبرك باللازم وبموعد الجراحة"
واستأذن بالذهاب فالتفت لها فقالت دون أن تمنحه فرصة ليضعفها بنظراته "تفضل لمكتب الاستقبال"
تحركت فتحرك بجوارها وهناك انتهى من الإجراءات وهي معه وكان يرى طريقة تعاملها مع الجميع وقد تبدلت للقوة والحزم والجميع يحترم كلماتها وكأنها المدير وهو يعلم أهمية مهنة التمريض هنا بل وأهمية منصبها
ما أن انتهى حتى نظرت له وقالت "لقد انتهينا وحضرتك عرفت موعد الجراحة اسمح لي"
حضرتك أعادت له كل الذكريات دفعة واحدة وجعلته يشعر بنيران تلتهم عروقه فحاول تهدئة ما يثور داخله خاصة عندما التفت لتذهب فقال "أريد رؤية عزيز"
نظرت له ولمعت عيونها ببريق لم يفهمه ثم سرعان ما هجرت عيونه فشعر ببرودة تسري بشرايينه وكأن نظراتها كانت الدفء الذي لم يناله منذ سنوات
ابتعدت وقالت "كما تشاء تفضل"
عادت معه عندما تحركت للعناية وتقابلت مع بعض الأطباء تبادلت معهم التحية بابتسامة رقيقة لاحظها بالطبع ولكنه التزم الصمت حتى تنحت جانبا أمام فراش عزيز وقالت
"لو أردت شيء جاني موجودة"
وتراجعت للباب خارجة وهو يتبعها وهي تعامله كشخص غريب لا تعرفه والآن تتركه وتذهب وكأنها لا تريد رؤيته والبقاء معه وهي بالفعل كانت تفر منه ومن مواجهته وتتمسك بكل ما تعلمته بالأيام المؤلمة التي قضتها بالبكاء والحزن والألم فهي لا تريد أن تعيش تلك الأيام مرة أخرى، لن تثق برجل نصب لها الفخ وأوقعها به وصدق أنها تغش وتخدع لتحقق مصالح شخصية أو أموال أو أيا كان الهدف وهي لم ولن تكون تلك الفتاة
بغرفتها بالمشفى أغلقت الباب وظلت تقبض على مقبض الباب بيد وتسند يدها الأخرى على الباب ووضعت رأسها عليها وتركت دموعها تسقط ومنحت قلبها الإذن ليصرخ بالألم، ظلت فترة لا تدري ما مداها تبكي حتى هدأت والتفتت لتستند بظهرها على الباب وهي تهتف بألم
"ابتعد عني، لا أريد رؤيتك، أنا أكرهك، أكرهك"
ولكن من داخلها كانت تعلم أنها كاذبة ولكنها لم تواجه نفسها بالحقيقة
خرج من المشفى وهو يشعر بحزن عميق يتسرب لقلبه وكل ما أراده أن يعيد تلك الأيام لنفسه، ولكن للأسف ما يرحل لا يعود، عاد لمكتبه وانشغل بالعمل اليوم كله وقرر الذهاب لرؤية جينيس بالليل كما أخبره جون، ترك الهاتف ونهض للوحة الرسم وقد مضى وقت طويل لم تخرج أصابعه أي شيء ولكنه الآن يريد أن يفعل فأمسك القلم وترك يده تعبث على الورق..
استعادت نفسها واغتسلت وتناولت الكثير من القهوة ثم عادت للعمل رغم أنها لم تنال راحة وقد اعتادت على ذلك، قابلها دكتور موريس وتحدث معها ثم تابعت المرور على الأقسام وتنظيم عمل الممرضات ووزعت الجدد ومع كل ذلك لم ترحل صورته من عقلها
بالثامنة مساء كانت تتهاوى بجوار ماديسون الذي قال "ارحلي"
رفعت وجهها له بدهشة فقال بأمر واضح "عودي لبيتك عهد لا فائدة منك وأنت تنهارين هكذا، أنت بحاجة للراحة"
ابتسمت بتعب وقالت "الحالة.."
قاطعها بحزم "الحالات لن تنتهي وهناك ممرضات تهتم بهم فاذهبي وارتاحي ببيتك وعودي غدا، هيا عهد"
هزت رأسها وهو كثيرا ما كان يفعل معها ذلك عندما يدرك أنها استهلكت كل طاقتها، ركبت السيارة التي اشترتها وقادت لبيت جينيس للاطمئنان عليها وتوقفت لشراء بعض الأشياء لتجهيز العشاء المفضل لها ولجون
عندما وصلت كانت جينيس تستلقي على الأريكة وهي تقول "جيس أنا بالبيت"
دخلت لترى ابتسامة جيس الجميلة وهي تقول "ظننتك ستعودين للبيت لك يومان لم تفعلي"
تحركت للمطبخ ووضعت الأكياس وقالت "ماديسون فقد الأمل بي ومنحني أجازة فأخبرت جون أني سأعد العشاء الليلة، هل تناولت دوائك؟"
قالت جيس "أنتظر جون سيأتي به معه"
ظلت المرأتان تتبادلان الحديث وهي تعد العشاء حتى سمعت صوت جون يقول "أنا بالبيت"
أطفأت على الطعام ولم تخلع قفازات الحرارة وهي تخرج وتقول "العشاء بعد نصف"
ولم تكمل عندما اصطدمت به ينحني ويقبل جيس ثم ارتد ليواجها عندما سمع صوتها وظل كلاهم يحدق بالآخر فهو يعلم أنها تعمل بالليل
هتف جون ليفصل لحظة الصدام "رائحة الطعام رائعة، اشتقت لطعامك عهد"
انتبهت لجون فالتفتت له وقالت "سأعد المائدة"
وتراجعت للمطبخ وما أن دخلت حتى استندت على طرف المائدة بذراعيها محاولة استعادة نفسها والتقاط أنفاسها التي رحلت برؤيته عندما سمعت جون يقول "آسف عهد كان معي وقت اتصلتِ ولم يمكنني إخبارك"
اعتدلت وهي تخلع القفازات وتتحرك لوضع الأطباق وقالت "لا عليك جون أعلم أن العالم صغير"
سمع كلاهم صوته وهو يقول "جيس تسأل عن الدواء"
كادت تذهب عندما قال جون "بالسيارة سأذهب لإحضاره"
التفتت محاولة التركيز بما تفعل عندما ظل يتابعها ثم قال "أرى أنك سعيدة هنا"
لم تنظر له وهي تضع أدوات المائدة بعصبية واضحة وقالت "أنا مدينة لهم بالكثير وأكن لهم محبة أكثر"
وضع يده بجيوبه واستند على الباب بكتفه وقال "بالتأكيد لقد وقف ضدي من أجلك"
رفعت عيونها الذهبية تجاهه بنظرة قتلته بمكانه فشحب وجهه وهي تقول "كان عليه ألا يفعل فأنا لا أستحق"
ارتدت القفاز وأخرجت الصينية من الفرن ووضعتها على المائدة ثم خلعت القفاز فقال "ولكنه فعل وأنت تسددين الدين برعاية زوجته ورعايته، بماذا وعدتِه؟"
كانت تقطع الرومي عندما قال ذلك فرفعت رأسها له بغضب ولم تنتبه للسكين الذي انغرز بيدها فأبعدت يدها بألم ولاحظ هو ذلك وقد ارتسم الألم على وجهها وكالعادة تتألم بصمت وأسرع هو تجاهها ولكنها تراجعت وهي تقبض على يدها وهتفت بقوة
"إياك"
توقف وعيونه تلتقي بعيونها والغضب متبادل وهو يقول "يدك تنزف عهد دعيني أراها"
زاد إصرارها وهي تقول "لا، الأمر لا يخصك"
وتحركت للخارج حيث الحمام والدموع تحاول أن تنزل ولكنها ترفضها، تركت الماء ينساب على جرح يدها ثم أخرجت حقيبة الإسعافات ولكن لأنها كانت ترتجف والدموع تغشى رؤيتها سقطت كل الأشياء بالأرض عندما رأته يتحرك للداخل ولم يمكنها إيقافه وهو يلتقط يدها ويفعل ما يلزم لإيقاف الدماء وهي ترتجف والدموع تمنعها من رؤية أي شيء حتى ربط يدها فتحركت من جواره للخارج وكتفها يضرب كتفه دون اهتمام منها وجذبت حقيبتها وجون يقف أمامها ولكنها تخطته لترحل
ما أن ركبت السيارة حتى سقطت رأسها على المقود وهي تبكي بقوة من ضعفها ومن كلماته ومن الألم الذي يلازمها، وجدت بابها يفتح وسمعته يقول "هل تتوقفي عن جنونك هذا؟ قد يصيبك دوار بالطريق"
رفعت وجهها وقالت دون النظر له "لا شأن لك بي وابتعد عن السيارة"
ثم أدارت السيارة ولكنها تفاجأت به ينحني داخل السيارة فتراجعت للخلف وهو يمد يده ويوقف السيارة وجذب المفتاح وهو يرتد خارجا ويقول "انزلي وابقي هنا أنا راحل"
قالت بقوة "لا تملي علي تصرفاتي وأعد المفاتيح واتركني وشأني"
نفخ بقوة محاولا التحكم بغضبه وهو يقول "سأمنحها لك عندما تنزلي من السيارة، أخبرتك أني لن أبقى"
كانت تعلم أنها لن تقوى على القيادة بتلك الحالة فنزلت من السيارة فرفع يده بالمفاتيح فجذبتها منه ونظرت له من بين الدموع وهتفت "أنا أكرهك"
وتحركت للداخل والدموع لا تتوقف وظل هو واقفا يتابعها وقد طعنته كلماتها بصدره بقوة جعلته يريد أن يصرخ من الألم الذي شعر به وقد أدرك من نظراتها أنها حقا تكرهه فتحرك لسيارته وركبها وقاد مبتعد والغضب يأخذه ليس منها بل من نفسه لما قاله
يتبع..
أنت تقرأ
رواية وجهان لامرأة واحدة بقلمي داليا السيد
Romanceسكنت داخل ردائها الأبيض تحتمي خلفه من مواجهة العالم من حولها، اختارت أن تكون الممرضة الصامتة ، الضعيفة ترفض خروج المرأة القوية التي هي عليها متجاهلة وجودها بل لا تعترف بها، لكن يوم سقطت عيونها عليه تمزق الرداء الأبيض بقوته الهائلة وإيمانه بها، دفعها...