أبيضٌ وأسود ٢

99 25 31
                                    

كانَ مراد جالساً على الأريكة،يدخّن كعادته...منتظراً لؤي،كان سيحينُ وقتُ صلاة العصرحين فتحَ لؤي باب المنزل،رأى والدهُ جالساً في غرفةِ المعيشة التي ما زالتْ في حالةِ فوضى...
"م..مرحبًا أبي،آسف إن تأخرتْ"،ألقى لؤي التحية وقبّل يدَ والده.
"أينَ ذهبتَ بعد الدرس يا هذا؟"
"ذهبنا أنا والشيخُ وتناولنا المثلجات،وأحضرتُ لكَ هذه"،أخرجَ لؤي علبة المثلجات بالفانيلا التي يحبها والده،ظلّ مراد ينظر له ببرود.
"أيها الأبله،ألا ترى حالَ غرفةِ المعيشة؟!كما أنّ الوقت تأخر،عليك بإعدادَ الغداء لوالدك!"،تكلّم معه بقسوة.
"أ..أنا آسفٌ أبي،لم أقصدْ،ب..بماذا تريدني أن أبدأ أولاً؟"قالَ لؤي بصوتٍ مرتجف.
"نظف الفوضى التي هنا أولاً..وأسرع بتحضير الغداء"
"ح..حاضر"، وضعَ لؤي العلبة في الثلاجة وبدأ بتجميع الزجاج المتناثر وتنظيف الأرض،بينما والده كان جالساً يراقبه و ودخّن من جديد.
"إسمع...هل تركتَ الشيخَ يدفع لك ثمنَ المثلجات؟"،قال والده بغضب،علمَ لؤي بأنه إذا أخبره الحقيقة فلن يسلمَ من الضرب.
"ك..كلّا،انا دفعتُ خاصتي وخاصتك..."
"ومن أين لكَ المال؟"،إزدادَ غضبُ والدهِ أكثر،أطفئ سيجارتهُ ونهض لينظر في عيني لؤي.
"ل..لقدْ خبأتُ معي بعض المال...وأنفقتهُ اليوم"،بدأَ لؤي يتوتر أكثرْ...
"لماذا لا يمكنني أن أصدّقك...إقسمْ بالله الآن..."،أنزلَ لؤي رأسه؛مدركاً بأنّ كذبته كشفتْ،رغمَ كونه مدركاً بأنّ العقاب سيتبعه،لم يجرأ أو يفكّر يوماً بأن يقسم كذباً...
"الآنَ سأريكَ يا أيها الوغدْ"،سحبَ مراد الحزام من خصره وأمسك بلؤي من معصمهِ وسحبه لغرفته،وقف أمامه والغضبُ رُسِمَ على على وجهه.
"إخلعْ قميصكَ وإستدرْ..."،قالَ مراد بغضب،وكأنّه ينتظرُ هذهِ اللحظة ليخرجَ بها غضبه وقهره.
"أ..أبي أرجوك.."،توسل لؤي بضعف.
"أكرر كلامي،إخلعْ قميصك وإستدرْ وإلّا سأجعلكَ تنامُ يومين في قن الدجاج !"،صرخَ مراد بعصبيةٍ أكثر،رضخَ لؤي للأمر والدموع في عينيه،خلعَ قميصه كي لا يتمزق من آثار الحزام،إستدار ووضعَ يديه على رأسه مرتجفاً،وبدأ مراد بضربِ لؤي على ظهرهِ بقوة،ولؤي يتأوهُ من شدّة الألم والدموع تنذرفُ من عينيه،سقطَ على ركبتيه وهو يتوسل لوالدهِ أن يتوقف،وظهرهُ إرتسمتْ عليه  الدماء...
"يا ربي أرجوك،لم أعد أتحمل..."،قال لؤي في نفسه وهو على وشكِ أن يفقدَ وعيه من الألمْ،توقفَ والده أخيراً....بعدما أشفى غليله،لم يكنْ يريدُ أن يفقده الوعي كي يكملَ عمله...
"أنتَ بالفعل فتىً وضيع...إذا كذبتَ عليّ ثانيةً فأقسمُ بالله أنّي سوفَ أكسرُ عظامكَ وأحبسكَ في قن الدجاج أسبوعاً،أفهمت يا وغد؟!"،ظلّ لؤي يرتجفُ ولم ينطقْ بحرفٍ واحد.
"هيا إنهض وحضّر الغداء..هيا"،نهضَ لؤي بصعوبة وتوجه للمطبخِ وهو ما زال عاري الصدر وظهره متورمٌ  وتنزفُ منه الدماء...بعدما ما وضعَ قدر'المجدرة'على النار،ذهبَ للحمام ليعقمَ جراحه،أغلقَ بابَ الحمام و حاولَ أن يرى ما حلّ بظهره،أمسكَ بعلبةِ المعقم  و بدأ بتعقيم ظهره كاملًا وهو يعنُّ من الألم.وفجأةً يسمعَ صوت دق الباب بقوة.
"لا تمكثْ في الحمامْ!أسرعْ لتحضّر الطاولة!"
"ح..حاضر..."،قالَ لؤي بصوتٍ مكسور...خرجَ من الحمام وإرتدى قميصه ثانيةً وهو لا يزالُ متألماً من الضرب،حضّرَ المائدة وتناولَ الغداء هو ووالده بصمتْ.
"إسمعني جيداً،إتصلَ عمّك اليوم..وأخبرني بأنّ حنين قادمة..."،قالَ مراد بنبرةٍ مستاءة،"هذا ما كانَ ينقصني،أصبحتْ تأتي بمفردها وفي هذا الوقتْ!"،قال مراد بينهُ وبين نفسه.
"إسمعْ لؤي،إذا بكيتَ أو شكيتَ لها سوف أريكَ الويلْ،الرجلُ لا يبكي أمامَ أحد!هو ليسَ إمرأة ليبكي وينوح،وأحذّركْ،إذا رأيتُ شيئاً بدرَ منكما فلنْ أكتفيَ بضربِ ظهرك بل سأكسره!"،لم ينطق لؤي بكلمة وإكتفَ بهز رأسه.
"هيا،إنهض ورتب الطاولة،تحرك!"
.............................................
بعدَ صلاةِ المغرب،أعدّ لؤي الشاي لوالده وجلسا في غرفة المعيشة...كان والدهُ يشاهدُ التلفاز،ولؤي كانَ شاردَ الذهن؛يفكّر في سببِ كره والده لقدومِ حنين هكذا،عندما كانا أطفالاً لم يكنْ يمانعُ أن تأتي أو أن يلعبا مع بعضهما،فلمَ الآن باتَ ينظرُ إليهما بنظراتٍ حادة؟...كانَ يكرهُ تلكَ النظرات...رنّ جرسُ البيتِ فجأة...نهضَ مراد ليفتحَ الباب؛ليرى حنين واقفةً أمامه حاملةً كيسينِ في يدها.
"أهلاً عمتي،أتيتِ باكرةً اليوم"،قالَ بسخرية.
"لا تواخذني عمّي،لكن أردنا أن نطمئنّ عليكم،أيمكنني أن أدخل؟"،دخلتْ والبسمةُ على وجهها عندما رأتْ لؤي،لكن سرعانَ ما إختفت حين رأت تعابيرَ وجهه الحزينة والمهمومة.
"متى سيأتي والدك؟"،قالَ مراد.
"قالَ لي أنّه سوف يسبقني لهنا بعدَ نصفِ ساعة...هناكَ حلاوة بالفستق بالكيس الأسود،والآخرُ فيهِ جبنةٌ مالحة...أرادتْ عمتي أن تتذوقوا منها..."، وضعتُ الأكياسَ على الطاولة و نظرتْ للؤي بقلقٍ وإستفهام،و لؤي ما زالَ صامتاً ومنزلاً رأسه للأرض.
"عمي،أتسمحُ أن نجلسَ أنا ولؤي في غرفته؟...ربما يحتاجُ مساعدتي في الرياضيات"
"ما شاء الله عليكِ،أصبحتِ فالحةً هذهِ السنة...فليبقى بابُ الغرفةِ مفتوحاً!"،غضبتْ حنينُ من كلام عمها،"عمّي نحنُ لا نغلقُ الباب إلا في حال حدوث ضجةٍ عندما ندرس...على كلٍ كما تريدْ،لن نغلقه"،ردتْ حنين بهدوءٍ و حزم،إستدارت وأمسكتْ بيدِ لؤي وذهبا لغرفته،بينما بقيَ مراد واقفاً ينظرُ لهما وعيناهُ تشتعلانِ من الغضب.
...................................................
"أحضرتُ لكَ مفاجأة،هذه المصاصةُ التي تحبها وأحضرتُ لكَ بعض المارشميلو"،قالت متلهفةً وهي تخرجُ الحلوى من جيبها،لكن لؤي لم تُرسم البسمةُ على وجهه...حينَ إنتبهَ لها إصطنعَ الإبتسامة وأخذَ ما بيدها من حلوى،لكنها لم تقتنعْ.
"هل حصلَ شيء؟عمي غاضبٌ للغاية...ما الأمر؟"
"لا شيء،لقدْ أغضبتهُ كعادتي.."،تنهدتْ حنين ووضعتْ يدها فوق يدِ لؤي المتشققةِ من عمل المزرعة الشاق.
"أرجوكَ لا تحزنْ،أنت فتىً طيبٌ وبار...لكن عمي يغضبُ من لا شيء"
"لكنْ كانَ هناك سبب..."
"وما هو؟"،نظرَ لؤي للأسفلِ مستاءاً ،جلسَ على سريره وجلستْ هي الأخرى منتظرةً تفسيراً منه.
"لأنّي كذبتُ عليهِ مجدداً..أعرفُ أنّه لا يجوز وأنّه سوف يخسر ثقته بي أكثر...ل..لكنّي حقاً أخاف منه...أريدُ أحياناً أن أفلتَ منه بأيةِ طريقة...لكنّي أعرفُ أنه لا يجبُ عليّ أن أكذب وأدعو الله أن يسامحني كلّ يومٍ على كذبي المستمر..."،ضمّ لؤي رأسهُ بيديه وبدأ يبكي بصمت مرتجفاً،كانَ ضائعاً ما بينَ الخوف والشعور بالذنب...وفي النهايةِ لا يشعر بالراحة في أيّ طريقٍ يسلكه،مدتْ حنينُ يدها لتمسحَ على ظهرهِ؛قاصدةً تهدئته وإذْ صرخَ متألماً.
"كلّا ارجوكي لا تلمسي ظهري..."،قالَ لوي وهو ما زال متألماً من آثار الضرب.
"يا إلهي،أنا آسفة...ألا يملكُ ولو حتّى ذرة شفقة،لماذا هو هكذا؟"،قالتْ مستنكرة.
"لا...لا تتكلمي عليه...وأرجوكي لا تخبري أحداً بالأمر،لا أريدهُ أن يعلم كي لا يحزنَ منّي ولن أستطيعَ تحمل ضربه اليومَ أكثر من هذا..."قالَ وهو ما زال متألماً والدموعُ تتساقطُ من عينيه.
"دعني أرى ظهركْ،هل عقمته؟"
"ب..بلى"
"لا بأس دعني أعقمهُ ثانيةً،ربما ستشعرُ بتحسن"،هزّ رأسهُ موافقاً و ذهبتْ حنين لإحضارِ المعقمْ،عادتْ حاملةً بعض القطن،معقم ولواصقاً للجروح،خلعَ لؤي قميصه وغطى بهِ صدره وبطْنه...إرتعبتْ من منظرِ ظهره،مليئٌ بالكدمات والجروح ومتورمٌ من عدة جهات،ما زالتْ هناك بقعٌ مجففةٌ من الدم،لإنّ لؤي مهما حاول،يصعبُ عليهِ تنظيفُ الجروحِ بشكل جيد،ووالده لا يهتم ولا يساعده بتاتاً في الأمر.
"يا ربّاه،ما كلُّ هذا؟...هناكَ جروحٌ تحتاجُ إلى لواصقٍ يا لؤي"،قالتْ حنين وهي تحاولُ منعَ نفسها من البكاء،لقد كانتْ تحزنُ على حاله وسوءِ المعاملةِ التي يتلقاها...لمْ يكنْ والدها هكذا بتاتاً،فكانتْ هي الأخرى تستعجب من هذهِ القسوة،هل من المعقولِ أنْ يولدَ الإنسانُ قاسياً هكذا دونَ سبب؟...كانتْ تعقمُ جراحه بكلّ هدوءٍ وحذر..."هل تشعرُ بألم؟"
"ق..قليلاً..."
"ستتحسن بإذن الله وسأضعُ لكَ بعض اللواصق،قدْ تفي بالغرض"
"شكراً لك يا حنين،شكراً لكِ يا أختي"،أدارَ وجههُ نحوها مبتسماً،ردتْ له بإبتسامةٍ واسعة.
"حسناً...كدنا ننتهي،سأضعُ لواصقَ الجروح الآن،لكن لا تتحرك وإبقى ثابتاً"
"حسناً.."،بدأت تضعُ اللواصق بحذرْ،"هل تشعرُ بتحسنٍ الآن؟"
"ب..بلى،هكذا أفضلُ بكثير.."،وبعدما إنتهتْ حنين،نهضَ لؤي وكان سيرتدي قميصهُ ثانية فإستوقفتهْ.
"لحظة،دعني أره"
"ل..لما؟"
"أريدُ أن أتأكدَ أنهُ لا يوجدُ دمٌ عليهْ"
"أعطاها لؤي القميصَ ولم يستدرْ بعدها،"كما توقعتْ..هناكَ آثرُ دم..من الأفضلِ أن ترتدي شيئاً آخر،أو تغسله.."
"ما هذا الذي أراه؟!!ماذا الذي تفعلانه هنا؟!"
.............................................

نافذة الأمل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن