مشاعرٌ مكتومة

101 28 25
                                    

"إذن شيخي،هل تريد بعض الخضار من عندنا؟الطماطمُ جيدة-"
"أبا لؤي شكراً لك لا داعي،أريدُ التحدث معك بموضوعٍ مهم"،نظر له مراد،"إنهُ بخصوص لؤي"،أشاح مراد بوجهه غير مبالي.
"ما خطبه يا شيخي؟إنه حيّ..يعيش،يأكل وينام،لكنّه مثل الفتيات،يبكي ويتأثرُ من لا شيء..يا لهُ من أمرٍ عظيمْ"،بدأ مراد برش النباتات ليتجنب النظر لعيون الشيخ وإكمال الحديث،لكن عبد الحميد كان رجلًا صبوراً.
"معكَ حق،إنه يأكل ويشربُ وينام وصحته جيدة..لكن ماذا عن الطرف الآخر؟"
"ماذا تقصد؟"
"نفسيته،يا مراد إبنك الآن في عمر صعب،وأنت يجب أن تكون أقربَ الناس إليه"
"لستُ مقصراً معه بشيء،أطعمه وألبسه،وأعطيه مصروفاً كل شهر،بالرغم أنه أصبحَ كثيرَ المشاكل وعنيداً أيضاً"
"يا أبا لؤي-"
"شيخي،من فضلك توقف عن مناداتي هكذا،أبا لؤي،أبا لؤي..هل أنا في الخمسين من عمري؟"قال مراد بإستهزاءٍ وغضب.
"من الجيد أن لؤي لم يسمعك"،قال الشيخ بينه وبين نفسهْ،ولم يكترث برد مراد المستفز.
"أنتَ لا زلتَ لا ترى الطرف الآخر..ما عنيته هو كلمة لطيفة،التعامل بهدوءٍ،الله عندما أرسل موسى لفرعون آمره بأن يحدّثه بنبرة لينة،ونحن هنا لا نتكلم عن عدوٍ لك أو ظالم،نحن نتكلم عن ولدك من دمك ولحمك"،ما زال مراد يتجنبُّ رؤية الشيخ ويحاول إشغال نفسهِ بأي شيء."أنا لم أعد أراك في المسجدِ أيضاً،لماذا يا بنيّ؟"،سأله الشيخ بلطف،إلتف مراد ونظرَ للشيخِ مباشرةً
"شيخي،كلامك عن الكلمة اللطيفة والتعامل بهدوءٍ شيءٌ لم أعشه في حياتي يوماً،كيف تطلبُ مني أن أعطيه للحمار الذي عندي؟ كما أنني لستُ نبي،موسى نبيّ هناك فرق"ردّ مراد بعصبية،"ها أنا أمامك،هل أنا أبدو كشخصٍ قد تمّ التعامل معه بحنان ولطف؟لماذا أنا مجبرٌ على التعامل معه بهذه الطريقة إذا أنا لم أشعر بها يوماً؟!...فاقد الشيء لا يعطيه وها أنا حيٌ رغم كل شيء حدث ،وحتى إن كان بإمكاني أن أعطيه لن أفعل!عليه أن يتغيّر ويصبحَ قوياً"،ظنّ مراد برده الطويل ونبرته الحازمة أنهُ حسمَ النقاش، تركَ ما بيده ونادا الشيخ للفطور.
"لكنكَ لم تكن يتيمَ الأم"،إستدار الشيخ لجهته؛إلتفت مراد له وملامح وجهه تغيرت،أصبحت غاضبةً أكثر.
"لا أعني ان أفتحَ لك جرحك،لكن فلتفكر أيضاً بأن إبنك لم يشعر بحنان الأم يوماً-"،قبلَ أن ينهي الشيخُ جملته،قاطعه مراد صارخاً.
"إنه هو السبب من الأصل!"،تفاجئْ الشيخ من ردة فعل مراد هذه،وحاول أن يستوعبَ الجملة ،بينما أنزلَ مراد رأسه وحاولَ أن يهدأ،حلّ الصمت لثوانٍ،"تفضل للداخل،الفطور ينتظر"،أكملَ مراد طريقه للمنزل ولحقه الشيخ صادماً،لقد فكر بهذه الإحتمالية لكن لم يكن واثقًا بعد،لكن إذا كان ما يفكّر بهِ صحيح،فلؤي بالتأكيد لا يعرف ولا يجبُ أن يعرف...
.......................................
كان لؤي جالساً،مترقباً قدوم الشيخ بأخبارٍ مبهجة..دخل والده غاضبًا بعض الشيء،بينما الشيخ إبتسم للؤي إبتسامةً مجاملة وبدأو بتناول الفطور،والشيخُ حاولَ أن يطيّبَ الجو.
"سلمتْ يداكَ يا لؤي،كم والدكَ محظوظٌ بك"،إبتسمَ لؤي إبتسامة خجل،التي أزعجتْ والده.
"توقف عن الخجل مثلَ الفتيات،كن رجلًا!!"،صرخَ مراد في وجه لؤي الذي أنزلَ رأسه وبدأ ينهي طعامه بسرعة فقط لينهض عن الطاولة،بينما الشيخُ إنزعجَ من ردة فعل مراد هذه،وكيف أنه صرخَ عليه هكذا أمامه،نهض لؤي بسرعة؛لتجنب عصبيةِ مراد.
"إلى أين؟"
"أبي،سأبدأ بترتيبِ الغرف"
"يا لك من فتاً أبله!عندما يكون هناك ضيوف تبقى جالساً حتى آمركَ أنا بالنهوض!"،عادَ لؤي مطأطأً رأسهُ،محرجاً من هذهِ الإهانات.
"ألستُ من أهل البيتِ يا مراد؟أتعتبرني ضيفاً؟"،قال الشيخ مع إبتسامة أربكتْ مراد.
"لا يا شيخي أعني-من..من أجلِ واجبك"
"شكراً لك،لكن برأيي دعْ لؤي ينهي مهامه في المنزل،لأني أريدُ أن أعطيه بعضَ دروسِ القرآن قبل الظهيرة إن لم يكن لكَ مانع"،مراد لم يكن يكره أنّ لؤي يتعلم التجويد أو حفظ القرآن،كان يريدُ لولده أن يكونَ ملتزماً وبعيداً عن الإنحراف والمشاكل،والشيخ وضعهُ في خانةِ عدم الرفض.
"لا بأس،فلينهي أعمال المنزلِ وبعدها يمكنه أن يذهبْ"،تبسّمَ لؤي فرحاً،لكن سرعانَ ما أخفى إبتسامته كي لا يلاحظَ والده.
"أبي،هل تسمحُ لي بأن أبدأ بالتنظيف؟"
"إنقلع.."،قالَ مراد ببرود وعادَ ليكملَ فطوره،أرادَ مراد أن يفرغُ عصبيته بلؤي بعد الفطور،ظناً منه بأنه هو من حرض الشيخَ عليه،لكن خابَ أملهُ عندما رأى بأن الشيخ لم يغادر مباشرةً،بعدَ ما رتب لؤي مائدةَ الإفطار،ذهبَ لؤي بسرعةٍ لينهيَ بقية أعماله،بينما كان مراد والشيخ جالسانِ في غرفة الجلوس.
"ما رأيك بفنجان قهوة من تحتِ يدي؟"،قال الشيخ ونهضَ للمطبخ،كان الشيخ يريد أن يهدّأ من روع مراد،لأنه يعرف بأنه لن يدع الأمر ينتهي بدون عقاب أو كلامٍ فظٍ منه للؤي.
"كلّا والله،لا يجوز،يا لؤ-"،وضع الشيخ يدهُ على كتف مراد قائلاً:"أنا أريد أن أعدّها،فلتترك لؤي ينهي عمله،ففي الحركةِ بركةٌ يا بني"
"ك..كما تريد"،وقفَ مراد بجانب الشيخ وهو يعدُ القهوة،وفجأة رأى لؤي وهو يخرج من المنزل لينشر الغسيل؛فإستغلّ الفرصة.[لؤي دائماً ما يجعلُ آخرَ مهامه في المنزل هي نشر الغسيل].
"هو يخبركُ بما يحدثُ في المنزلِ،أليسَ كذلك؟"
"الكثير يأتي إليّ ويشكي لي حاله،هموم،ديون،مشاكل عائلية،أسئلةٍ وجودية...وتطول القائمة"،ردّ الشيخ وهو يسكب القهوة في الفناجين،حملَ مراد الصينية وجلسا في غرفة المعيشة.
"أنا يا شيخي لا أحبُّ أن تخرجَ أسرارُ المنزل للخارج...لماذا لا يخبركَ عن كسله أو قلّة أدبه مثلاً،أليس عليه أن يبر والده؟!"
"لكنك تعامله بقسوةٍ أمام الجميع،لم تستطع حتى أن تعامله بإحترامٍ أمامي...كما أنه لا يزالُ إنسانًا،يخطىُ ويصيب أحيانًا،كما أنّ لؤي بار وملتزم ويريد أن يرضيك...هذهِ من أكبرِ نعمِ الله عليك يا مراد...أنا دعوتُ الله أكثرَ من ثلاثين سنة بأن يرزقني بطفلٍ واحد...ولكنْ رغم عقمي وكبِري في السن،لدي الكثير من الشباب الطيبين الذينَ يذكرونني بالخير ويزوروني،وعندما أرى لؤي أشعر بالسعادة،وكأنّه مثل إبني،وأشعرُ بأنّ الله إستجاب دعائي بطريقةٍ مختلفة"
"شيخي،كلامكُ من المفترض أن يسعدني صحيح؟...أعني فكرة بأنك تعتبر لؤي كإبنك وأنا أعلمُ كم تحبه...لكنّي أنا والده...لم أستطع أن أحبه،لا أستطيع،لماذا لا يمكنُ لأحدٍ أن يفهم هذهِ الفكرة؟...لم أرده أصلاً،لم أرد أحداً في حياتي إلّا شخصاً واحداً،إمرأةً واحدة،وسلبتْ مني بسبب لؤي...على ماذا أحبه،هل لديك إجابة؟"،ردّ مراد بحزن وقهر وأنزلَ رأسه حزيناً غاضباً،متذكراً أحداث ذلك اليومِ المشؤوم والليلة التي كانتْ له مثل أفلام الرعب،ظلّ الشيخ صامتاً لوهلة؛لقد عرِفَ أخيراً سر كلّ هذه القسوة،وأدركَ بأنّ جرح مراد يكبر أكثر فأكثر،لم يكن يظهرهُ بتاتاً في طفولة لؤي...فكان السبب غامضاً له"
"هل أخبرتَ لؤي بالأمر؟"
"...لا...أودّ بأن أقولها في وجهه،على أمل أن يلتئمَ جرحي،لكن الكل قسمَ بأخذهِ مني وطردي من المزرعة إن حدث شيءٌ كهذا"،وظلّ مراد صامتاً،دخلَ لؤي حينها متحمساً.
"أبي،لقد-"،إرتعب لؤي من نظراتِ والده له،ظنّ بأنه غاضبٌ من ذهابه مع الشيخ او أنه هو من حرض الشيخَ عليه.
"أبي،إذا أردت فلن أذهب اليوم...لن أذهب إلا وأنت راضٍ عني"،ضمّ مراد يده بغضبٍ شديد وهو يرجف،كان يريدُ أن يمسكُ لؤي من رقبته وأن يضربهُ ضرباً شديداً.وقف لؤي خائفاً ونظرَ للشيخ بإستفهام وقلق.إبتسمَ الشيخُ لتهدئته،"هيا،أحضرْ قرآنك،والدك لن يمانع ذهابك لتتعلم التجويد"،كانَ الشيخ يريدُ أن يخرجَ لؤي بسرعة قبلَ أنْ ينفعلَ والده.
"لحظة،عليّ أن أغسلَ الفناجين"،وعندما إقتربَ لأخذِ الفناجين،ضربَ والدهُ الطاولة بعنفْ.
"لم آمرك بأن تأخذَ شيئاً!إسمعْ كلامَ الشيخ و إذهب من هنا!!"،ذهب لؤي وهو يرتجفُ إلى غرفته وأخذَ القرآن،لم يكن لديه الشجاعةُ أو القدرةُ حتّى لإنتظار الشيخ وإنتظره خارج المنزل.
"مراد..."،قال الشيخُ و هو يضعُ يدهُ على كتفِ مراد،"أنا أعتذرُ منك،لم أقصدْ أن أنكئ جراحك...ولكن صدّقني عندما أقولُ لكْ...أن لؤي هديةٌ من الله،وليس نقمة...إذا ضاقَ بكَ الحالُ فإعتبرني كأخٍ لكْ،وآمل أن أراكَ في المسجد قريباً...السلام عليكم"،طبطبَ الشيخُ على كتفِ مراد وخرجَ من المنزل.
بدأ مراد يتنفسُ غاضباً،ركلَ الطاولة على الأرض،وسقطتْ فناجين القهوةِ وكسرتْ وحلِّت الفوضى في الغرفة.
"اللعنةُ عليك!فليأخذكَ الله يا لؤي لأرتاحَ منك!"،قالها مراد بدونِ أي تردد...وخرجَ من المنزل كي يعملَ في المزرعةِ ويهدأ غضبه..وليحاولَ نسيان ذكرى ذلك اليوم...

نافذة الأمل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن