أبيضٌ وأسود

89 26 33
                                    

"شيخي،هل غضِبَ أبي من ذهابي معك؟أم أنه ظنّ بأني حرضتك للتكلمِ معه...أنا لا أحب أن يظنّ بي هكذا"،قال لؤي بنبرة حزينة
"كلّا لمْ يغضب...لقد كلّمته بهدوء،لن يظنّ بكَ شيء،هل أنتَ متحمسٌ لورقةِ اليوم؟"
"نعم كثيراً"
.................................
"مراد،مراد...إستيقظ أرجوك،لا تنمْ بسرعةٍ وتتركني وحدي أفكر"......
"دعيني أنامُ سلمى،توقفي عن هزّ كتفي هكذا"،ردّ مراد منزعجاً
"برأيكَ ماذا علينا أن نسميَ الطفل؟..وعلينا أن نختار إسمين"
"لماذا؟هل أصبحتِ حاملاً بتوأمينِ فجأة؟"،قال مراد ساخرًا
"هه...خفيف دم،كلّا...علينا أن نختار إسمين،واحدٌ لصبي والآخر لفتاة،لازلنا لا نعرف جنس الجنين بعد"
"ما زلتِ في الشهر الرابع وتفكرين منذ الآن في الأسماء؟"،نهض مراد غاضباً بعدما أيقظته سلمى وأزعجته بسؤالها.
"أرجوك مراد،فكر معي...لن أدعكَ تنام بسلامٍ حتّى تفكر معي"،قالتْ بعدما وضعت يديها فوق بعضهما كنوعٍ من الإحتجاج.
"سأسهل عليكِ المهمة،إذا كان فتىً سنسميه لؤي على إسم والدي،هو بالأصح لن يدعنا نسميه كما نريد...وسمي البنت ما تشائين،هل يمكنكِ تركي لأنام بسلامٍ الآن؟"،وضعَ رأسهُ على وسادتهِ ثانيةً محاولاً النوم بعد يومٍ متعب في المزرعة...
"يا لكَ من شخصٍ كسول"،فتح مراد عينيه منصدماً من هذه الكلمة ووجههُ أصبحَ أحمراً من الغضب،نهضَ ثانيةً بعدما طار النوم من عينيه.
"أنا كسول؟!شخصٌ يستيقظ منذ أذان الفجر ليحرث ويسقي و يهتمّ بالدجاج ويحضرَ أغراض المنزل،ويذهب للمدينة لبيع الخضروات والفواكه،ومن بعد هذا يعود في وقتِ المغربِ ليرى في وجهه زوجةً كثيرة الكلامِ مثلك ويتعامل معها وفي النهاية تبخلينَ عليّ بساعاتِ نومي القليلة؟!"
إنفجرت من الضحك على ردة فعل زوجها هذه،مراد إنزعجَ أكثر وأدار وجهه وإستلقى ثانيةً؛مقرراً تجاهلها تماماً،إنتبهت على ردة فعله وقررت مواساته.
"هيا مراد لم أقصدْ شيئاً،كنتُ أمزح معك...حسناً سأسئلك آخر سؤال وأدعكَ تنام بسلام..."قالت مبتسمة.
"ماذا؟"
"هل تفضّل أن يأتينا فتاةٌ أم صبي؟"
"...فتاة...لا أريدُ صبياً"
"حقاً؟غريب،أنا أعرفُ أنّ الرجال يفضلون الصبيانَ أكثر من البنات..."
"البعض...لكن عندما يفضّلون الصبي،يدللونه ويحبونه،لا يقومون بضربه وإهانته أمام الجميع مراراً وتكراراً...على الأقل الفتاة ستكونُ هادئةً أكثر منه..."،قالَ مراد بقهر،محاولاً عدم إسقاطَ أي دمعةٍ من عينيه،وقرر العودة للنوم،وفجأةً يشعر بيدها تمسح على كتفه،بينما ما زالتْ تنظرُ لسقف المنزل.
"أتعرف؟ أدركتُ أنّ الأمر لم يكن له علاقة بقضية فتاةٍ أو صبي،بل بالمعاملة ونظرة الأهل لهم..."،أدارَ وجههُ نحوها ليراها تذرف الدموع وهي مبتسمةٌ إبتسامةً حزينة.
"أرجوك مراد..."أدارت وجهها نحوه وأمسكتْ بيده،"عدني،أنه مهما كان جنس الجنين،أن تهتمّ به وتحبه...دعنا نعطيه حياةً سعيدة"،نظرَ مراد بعينيْها اللتان يذرفان الدموع،أشاح بوجهه للحظة ونظرَ لها مجدداً.
"إن شاء الله...سأفعلُ ما بوسعي...لكنْ عديني أن تكوني معي للنهاية في هذهِ المهمة"،قالَ مراد غيرَ واثقٍ من كلامه وخائفٌ من هذهِ المسؤولية كذلك،نظرتْ له والبسمة على وجهها وهي تمسحُ دموعها،"بالطبعْ سوفَ أبقى معك...أهلي لا يحبّونَ فكرة الطلاق،ولن أدعَ طفلي يربى بدون أم"،قالت بعدما أدارتْ للجهة الأخرى وإستلقت على السرير،ضحكَ مراد ضحكةً خفيفة وأدار هو الآخرُ للجهة الأخرى وعادَ للنوم.
...........................
"لقدْ خنتي الوعد يا سلمى،وتركتِ هذا الرجل ليكملهُ لوحده.."،قالَ مراد وهو مستلقٍ على سريره بعدما آلمه ظهرهُ من أعمال المزرعة.
..............................
"هذهِ ملاحظاتك لليوم عليكَ التركيزُ على تفخيم وترقيق الراء أكثر..."،قالَ الشيخُ وهو يكتبُ للؤي على ورقة صغيرةٍ كالمعتاد ملاحظات التجويد التي يعطيه إياها كلّ درس.
"حاضرٌ يا شيخي"
"والآن إفتح يديك.."،مدّ لؤي يده متحمساً،وأعطاهُ ورقةً مطويةً بخيط خمري رفيع،فتحها لؤي وقرأ الآية:..."لا تدري لعلّ الله يحدثُ بعدَ ذلكَ أمرا"
"هذهِ الآية فيها الكثيرُ من الأمل،وقررتُ إعطائها لك في هذا الوقت...أعرفُ أنّ ظروفك تزدادُ سوءًا يوماً بعدَ يوم...لكن دائماً تذكر كم وضعَ الله في قلبِ المؤمن من أملٍ وإطمئنان في هذهِ الآية وإستشعرها دائماً في نفسك..."
"شكراً لك يا شيخي...سأظلُّ متماسكاً إن شاء الله،وسأعلّق الآية اليوم مع الأخريات"
"أما زلتَ تعلق الآياتِ على الحائط؟"
"نعم،لكي أراهم وقتَ النوم وأقرئهم،وأرى واحدةً تهدّء من شدة حزني"
"بارك الله فيك يا بنيّ"،إقتربَ الشيخُ وقبَّل رأسَ لؤي ولؤي قبَّل يدَ الشيخ بكلِّ حب.لؤي كان يحبُّ الشيخ عبدَ الحميد حبّاً شديداً،لقد تعرّف عليه منذُ أن كانَ في الثامنة من عمره،لكنه لم يكن يعيش في الحي آنذاك،كان يأتي في فترة الصيف ويعود لمنزله الذي يقع في المدينةِ المجاورة في الشتاء،وكان لؤي ينتظر الصيفَ فقط لرؤية الشيخَ ورؤية حنين .إنتقلَ الشيخُ بعدها للعيش في الحي حينَ كانَ لؤي في الثالثةَ عشرَ من عمره،كانَ يشعرُ معه بالأمان،الذي يختفي حينَ يغادرُ المسجدَ قاصداً منزلهُ الصغير.
"والآن ما رأيكَ بأن أدعوكَ لتناولِ المثلجات؟"
"سيكونَ ذلكَ رائعاً..."
"هيا بنا..."،خرجا من الجامع؛ذاهبانِ لمتجرِ المثلجات...كانَ لؤي يحملِ بحوزته القليل من المال،لا يكفي لشراء علبةٍ له ولوالده،لكنّه كان يريدُ أن يشتريَ شيئاً لوالدهِ فهو يعلمُ أنّهُ يحبُّ المثلّجات،إشترى الشيخُ له ولنفسه،لكن لؤي ما زال يفكّر بوالده...كانَ يحتاجُ فقط للقليل لكي يستطيع شراء علبة صغيرة لوالده...بعدما تناولا المثلجات،وحانَ وقتُ عودةِ كلِّ واحدٍ لوجهته...فكّرَ لؤي أكثرَ في الأمر.
"هل يمكنني الطلبُ منه؟...هو بالتأكيد لن يرفض ولكن..."، قال لؤي بينه وبين نفسه حتّى تشجع وقال:"شيخي،أنا أعلم أني أثقلكُ بطلباتي الدائمة،لكن أيمكن أن أطلب منكَ طلباً صغيراً؟إ..إذا لم يكنْ لديكَ مانع..."قال لؤي بتوترٍ وحرج.
"أسمعك يا لؤي...تفضل"،قالَ الشيخُ مبتسماً.
"أيمكن أن تعطيني فقط ستين قرشاً؟...أريدُ أن أخذ علبةً لأبي...إذا كان ممكنًا..."،نظرَ لهُ الشيخُ مستاءاً،وظنّ لؤي أنه انزعجَ من طلبه،لكنّهُ في الحقيقةِ حزينٌ عليه..."شابٌ في عمره ولا يملك مالاً كافياً لشراء شيءٍ بسيط،المشكلة أنه ليسَ فقيراً أو مقطوعاً...يا خوفي أن تلعب برأسه الوساوس و الأفكار و يقرر أن يأخذَ المال من طرقٍ أخرى...والدهُ لا يدركُ أن الحرمان والقمع قدْ يولدُ الخراب والضياع...خصيصًا الذين في عمره"،فكّر الشيخُ بصمت،إنتبه بعدها للؤي الذي أنزلَ وجهه حرجاً.
"أعتذرُ منكَ يا شيخي على طلبي إن أزعجك...أنا آسفٌ حقاً"،أمسك الشيخُ بذقنِ لؤي ورفع رأسه نحوه،"يا بنيّ،أتظن حقاً أن طلباً كهذا سوف يغضبني؟...أنتَ تجرحني هكذا...بالطبع لن أمانعْ...ولا تخجلْ أن تطلب مني شيئاً..."،أخرجَ الشيخُ من جيبهِ ما يحتاجه لؤي من مال،قاصداً فعلته...وقبلَ أن يعطيهِ المال نظرَ لهُ قائلاً:"إسمعني لؤي، ما رأيك بأن تعمل معي عملاً بسيطاً وتجني منه مالاً؟"،نظرَ له لؤي،"يسعدني ذلك يا شيخي،لكن أبي لن يقبلَ ذلك،كما أنه يحتاجني في المزرعة..."
"لم تسألني عن طبيعةِ العملْ..."
"أستسمحكْ...ما هو شيخي؟"
"أنت تقرأ خمس صفحاتٍ في كلِّ جلسةٍ نقيمها،سأعطيكَ على كلِّ صفحة حفظتها وأتقنتَ تجويدها مبلغاً معيناً،وإذا أخطأت خطئاً بالتجويدِ أو القراءة،سأخصمِ منكَ خمسينَ قرشاً،ما رأيك؟"،نظرَ لؤي بدهشة،لقد كان أمراً رائعاً أن يستطيعَ كسبَ ولو القليل من المال،فهو في النهاية يرغب في شراء بعض الحاجيات كغيره ولمْ يكنْ والدهُ يعطيه الكثير،خوفاً من شرائه الدّخان أو تبذيره للمال،كانَ سعيداً للغاية؛فعانق الشيخَ ولمْ يستطعْ مسكَ نفسه،ردّ الشيخ العناقَ بالمثل،لم يردْ إحراجَ لؤي من هذه المسألة،ورأى بأنه سيتشجعُ أكثرَ لحفظِ القرآن وإتقانِ التجويد...ظلّ لؤي صامتاً طول العناق،ولكن رغمَ كلِّ محاولاتِ الشيخ لعدمَ خلقِ شعور الحرج،شعرَ لؤي به بقوة،الناس تعطفُ عليه ولا تريدهُ أن يلاحظ.
"شكراً لكَ شيخي،أشكركَ من كلِّ قلبي"
"العفو العفو،هيا هاكَ بقية المال،إشتري بعض المثلجات لمراد،أراكَ غداً إن شاء الله ولا تنسى أن تجهزَ نفسك للعملِ الأسبوعَ القادم"،قالَ الشيخ وبدأ مسيره.
"بإذنِ الله شيخي،أعدك..مع السلامة"،لوح لؤي بيده  مودعاً الشيخَ وعادَ لمتجرِ المثلجات مجدداً.
"سيفرحُ أبي بها،وهكذا سيخفُّ شعورُ الندم عندي،وأشعرُ بأني أرضيتهُ لوجهِ الله"،وبالفعلْ إشترى لؤي المثلجات المفضلة لوالدهِ وعاد للمنزل.
....................

نافذة الأمل حيث تعيش القصص. اكتشف الآن