شرقت الشمسُ معلنةً بداية يومٍ جديد،كانَ لؤي نائماً على القش الخشن،بدأتْ تسمعُ أصواتُ الدجاج المزعجة؛التي أيقظتْ لؤي،فتحَ عينيه ليرى نفسه ما زالَ في هذا المكان الكئيب..كانَ حلقهُ جافاً ومعدتهُ فارغة،نهضَ بصعوبة وتوجه إلى الباب،نظرَ من فتحةٍ صغيرة إلى الخارج..أرادَ فقط أن يرى الضوء ولونَ السماء الأزرق كي ينسى الظلام المحيطَ به،الذي يشعرُ بهِ في داخله.
"يا ربي،أنا جائعٌ للغاية..كانَ يجب أن أخزن بعض الطعام هنا،لكن أين بإمكاني وضعه؟"،فكّر لؤي بهذهِ الطريقةِ البائسة.
"صحيح،لقد فوتُ الفجر،يا لغبائي..."،نهضَ لؤي متعباً من الجوع،تيمم من التراب وصلّ الفجر بصعوبة..بعدَ نصفِ ساعة سمعَ صوتَ أقدامٍ تخطو المزرعة،إتجهَ ثانيةً نحو الفتحةِ الصغيرة،ورأى والدهُ بدأ يعمل..بدأَ يضربُ الباب بيده بيأسٍ على أملِ أن يسامحهُ والده فقط هذهِ المرة..
"أبي،أ..أرجوك إفتح لي!صدقني لن أفعلها ثانيةً!أرجوك!"،بعدَ ثوانٍ شعرَ بقدوم والده للقن،فتحَ الباب بقوةٍ وهو غاضب.
"خيراً؟!أمازلتَ قادراً على الكلام بعدَ حبسك؟من الأفضل أن تخرسَ وإلا سأملئُ فمكَ بالدماء!"،صرخَ مراد غاضباً.رأى أنّ والدهُ لم يشفق على حاله،لم يكنْ يريدُ شيئاً الآن أكثر من كأس ماءٍ بارد.
"أ..أبي أرجوك،ح..حلقي جاف،فقط أريدُ دمعة ماء فقط،وأعدك سأبقى صامتاً بعدها"
"تريد بعضَ الماء؟.."،ذهب والده فجأة،ظنّ لؤي لوهلة أنهُ قد شفقَ عليه،أو ربما يودّ أن يتوقف عن التذمر ويسكته،لم يهتم للسبب،كانَ يريدُ أن يذهبَ ظمأهُ بأية طريقة،عاد والده بدلوٍ من الماء،وبدون مقدمات،رشقَ نصفَ الدلو على لؤي.
"تفضل،هاكَ الماء،الآن إخرسْ وإبقى هادئاً"،دخلَ والدهُ القن ليضعَ الماء للدجاج ويطعمه،وداسَ على قدمَ لؤي عمداً؛لكي يصمتْ،أنّ لؤي من الألم،توجه للزاوية وبقيَ يرتجفُ،لم تكن المياه باردةً أو ساخنة،لم يفهم حتّى ما سببُ هذه الرجفة المستمرة،هل هي من الخوف؟قالَ بينه وبينَ نفسه"هل يمكنني يوماً أن أعتادَ على الخوف؟ربما لن أشعرُ حينها بالحزن والقهر حينَ يحبسني أو يضربني،ربما سيصبحُ الأمرّ أقلَّ قسوة"....خرجَ والدهُ وتركهُ ثانيةً لوحده والدموع تنهمرُ على خديه.نظرَ للدجاج وهو يشربُ ويرتوي من الماء،وشعرَ بالقهر وإزدادت دموعهُ أكثرَ فأكثر..لم يكن يستطيعُ أن يشرب من نفس الماء،خوفاً بأن يصابَ بمرض..ولا بإمكانهِ أيضاً ان يأكل القمح وفتاتِ الخبز،كانَ يشعرُ بالخزي كلما تذكرَ المرة حينَ أكلَ فتات الخبز الملقى للدجاج من جوعه...شعرَ بالشفقة على نفسه وكيفَ سرقَ طعام غيره،حتّى لو كانَ حيواناً..
"الأفضلُ أن أنام،ربما أنسى شعورَ العطشِ والجوع.."،إستلقى لؤي على القش ثانيةً،أغمضَ عينيه بيأسٍ على أملِ أن يستيقظَ ويرى نفسهُ في غرفته ويكونَ هذا مجرد حلم...
......................................................
لؤي:
إستيقظتُ لأرى نفسي في تلكَ الحديقةِ الصغيرة،أدركتُ ما معناها،بدأتُ أنظرُ يميناً وشمالاً؛باحثاً عنها وإذ رأيتها تلعب بمياه بركةٍ صغيرة،ركضتُ إليها بكلّ شوق.
"أمي،أمي!"،صرختُ بكلِّ لهفة،إلتفتتْ ونهضت من مكانها،فتحتْ ذراعيها،رميتُ نفسي في حضنها الدافئ وهججتُ بالبكاء،لكنّي رغم كلّ هذا لا يمكنني رؤية وجهها،كأنّ جسدها فقط الذي رسمُ في أحلامي وكيفَ أرى وجهها وأنا لا أملكُ صورةً لها؟
"أهلاً عزيزي،أهلاً بصغيري"
"إشتقتُ لكِ،إشتقتُ لكِ كثيراً،أنا سعيدٌ جداً برؤيتك اليوم،أخيراً أتيتِ.."
"أتفرحُ لهذهِ الدرجةِ بقدومي؟"
"أجل،وأتمنى أن لا أبتعدَ أبداً عنكِ.."
......................................................
"هكذا إذًا....لما صوتكَ هكذا يا عزيزي؟"،كسرتْ العناقَ ووضعت يداها على خديه.
"أمي،أنا عطشٌ للغاية.."،إلتفتت ثانيةً للبركة،جمعت الماء النقي بيدها وإلتفتت لإبنها ثانيةً.
"هاكَ يا عزيزي،إشربْ"،شربَ لؤي وأذهبَ ظمأهْ،وضعَ رأسه على فخذيها مبتسماً.
"شكراً لكِ أمي،أيمكنكَ أن تلعبِ بشعري؟"،مدتْ يدها لخصلات شعره الكثيفة وبدأتْ تلعبُ به،وإذ يشعرُ لوي بأنه سيستيقظ،تشبثّ بأمه بقوة.
"كلّا،لحظة،لم أرها كفاية،أرجوكَ يا ربي"،صرخَ لؤي و إختفى كلّ شيءٌ وإنتشرَ الظلام وإذْ إستيقظَ وهو يشعرُ بضرباتِ قلبه تطرقُ بقوة والعرقُ يتصبب منه،رأى بأنه لا زالَ بالقن،يبدو أنّه إستيقظَ على صوت طرق الباب.
"لؤي،هل أنتَ بخير؟رد عليٍّ أرجوك!"،كانَ صوتَ حنين،زحفَ لؤي ليقتربَ إليها.
"ح..حنين،لا عليكَ أنا بخير.."
"الحمدلله،لقد أتيتُ أنا وعمتي،لكنْ لا يمكنني البقاء لفترةٍ طويلة،ستحاولُ عمتي إقناعَ والدكَ اليوم،بإذنِ الله ستنجحْ"
"إن شاء الله.........ما فائدةُ أخباركِ هذه؟"،قالَ لؤي وهو محبط،لقد إستيقظَ من منامهِ المشرق ليرى الظلام من جديد.
"أ..أردتُ أن أُطمئنك.."،قلقتْ حنين من نبرة صوتِ لؤي.
"حنين...حقاً،ما فائدة كلِّ هذا؟أبي لن يقتنع،سأبقى هنا حتى يقرر ذلك أو أموت من الجوع!لماذا أيقظتنيني؟لقدْ كنتُ سعيداً في حلمي،لم أشعر لا بالجوع ولا بالعطش!"،صرخَ لؤي بقهر وهجّ بالبكاء،لم تتضايق حنين من صراخه،بل حزنتْ عليه،فهو محق،قررتْ الذهاب ومحاولة إقناع والده مع عمتها؛لإخراج لؤي بأسرعِ وقت وإسعاده.
"حنين،حنين!أرجوكي لا..لا تؤخذِ على خاطركِ مني،لم أقصدْ أن أصرخَ عليكِ..أنا آسف"،شعرَ لؤي بالخجلِ من نفسه على صراخه هكذا،أسندَ ظهرهُ للحائطِ الخشبي للقن و سرحَ في التفكير؛ظناً منهُ بأنّ حنين قد غادرت.
"لا يا لؤي،لم أغضب منك،لا عليك..ألى تأكل شيئاً بعد؟"
"ك..كلّا،أرجوكِ أيمكنُ أن تحضري لي قنينة ماء؟أو سندويشة؟،أي شيءٍ حتى لو كانَ خبزًا"
"كيفَ سأعطيكَ إياها؟"
"س..سأحفرُ تحتَ التراب هنا كي تستطيعِ تمريرالقنينة و السندويشة...لكن قد يستغرقُ الأمرُ وقتاً،قد يأخذُ ربع ساعة من العمل"
"لكنْ قد تنكسرُ أظافرك وتجرحُ يديك هكذا،هناك حجر والترابُ قاسٍ"
"لا يهم لا يهم،أنا أتألمُ بكلِّ الأحوال،سأتألمُ من أجلِ شيءٍ مهم.."
"حسناً.."،ذهبتْ حنين ولؤي بدأ يحفر في التراب.
...................................................
"أختي،توقفي عن التذمر،ألم تملي من تكرارِ نفس الحديث؟"،قالَ مراد وهو جالسٌ على الأريكة،بينما علياء كانت تعملُ في المطبخ.
"أخي،أرحني وأرح نفسك،فك أسرَ هذا اليتيم،هذا حرام،إنّه يحتاج للحنان وليسَ للضرب والحبس،إنتظر فقط عدة سنوات ولن تراه ثانيةً"،قالتْ أختهُ بإستياء.
"ماذا يعني هذا؟"
"لؤي لم يعد صغيراً،أصبحَ شاباً،بعد أربع أو خمسِ سنوات سيصبحُ في العشرين من عمره،أتظنُّ أنُّه سيظلُّ صامتاً؟ماذا لو أصبحَ عصبياً مثلك؟ماذا لو قررَ أن يهربَ وأن يصاحب رفقة سوء؟"،إلتفتت علياء وواجهت مراد،أطفئَ سيجارته متوتراً وغاضباً.
"لن أدعهُ يخطي خطوةً خارجَ هذا المنزل،أفضل أن يموت ولا يحصلَ ذلك!كما من أينَ لهُ رفقاء السوء وهو لا يذهبُ للمدرسة ولا يخرجُ إلّا بحضوري؟!"
"إبقى على طبعك أخي،إبقى"،إلتفتت يائسةً من عنادِ أخيها وعادتْ لتعملَ في المطبخ.
"إسمعيني علياء،لقدْ فكرتُ في الأمر،وهذا لأثبتَ لكِ بأنّي أحسبها دائماً،أنا أعلمُ تماماً ماذا يجبُ أن أفعلَ مع لؤي"
"لا تقلْ لي دعني أحزر،إحبسه في غرفته وإربطه بالسلاسل"،قالتْ بإستياءٍ وسخرية.
"أنا قررتُ بعدَ سنتين أو ثلاث...بأنّي سأزوجُ لؤي"،ألقت كل ما بيدها،إلتفتت وعلامات الصدمة واضحةٌ على وجهها.
"أ..أأنتَ جاد؟"
"وما المشكلة؟ألمْ تقولي بأنهُ أصبحَ شاباً؟قريباً سوف يصبحُ أطول مني،سأزوجهُ بفتاةٍ جميلة من هنا تصغرهُ بقليل،يعيشان هنا،منها هو سوف يعملُ في المزرعة كالرجال،وزوجتهُ هي من ستهتم بأعمال المنزل"
"مراد،هذا غير معقول،إبنك ليسَ جاهزاً لمسؤوليةٍ كهذه،أنتَ تعرفُ كم عانينا من قرار أبيك عندما قررَ أن يزوجنا واحداً تلو الآخر،وكلنا لم نبلغ العشرين،كلنا عانينا..أتريدُ أن يعيشَ لؤي كذلكَ أيضاً؟"
"أنا عشتُ هكذا،وهناكَ فرقٌ لو إنتبهتي،أنا لم أخرجْ إبني من قريته وأسكنته في المدينة مع فتاةٍ في السابعةِ عشرَ لوحده!أنا سأكونُ معه،والمزرعة جاهزة وسيبقى في المكانِ الذي ولدَ به،كما أنّ الفتيان والفتياتَ في هذا العمر بلاءٌ حقيقي!"
"أخي،الماضي قد ذهب،قد مات،فكّر في نسيانه،حاولْ أن ترى الأشياء المشرقة في الحاضر،إذا لم نتخطى الماضي فسنبقى نشكوا من الألم،ماذا فعلَ لؤي حتّى تقول عنهُ أنّهُ بلاءٌ لك؟
"أختي،هو الآن شاب،تفكيره سيتغير،أنتِ تفهمينَ قصدي،ألا تسمعينَ بالمعاصي والفجور الذي يرتكبها الذين بعمره؟!لا أريدُ منهُ أن يغمس رأسي في الوحل!لذا من البداية،سأزوجه وأرتاح وأطمئنُّ بأّنه لن يفعل شيئاً يكسرُ ظهري فيه مستقبلاً!"،بقيتْ علياء تنظرُ مصدومةً وهو أشعل سيجارةً أخرى وصمتْ.سمعُ دق الباب،فتحت علياء لترى حنين أمامها.
"عمتي،أينَ هي الحقيبة التي إشتريتها لي؟"
"صحيح!نسيتُ أمرها"أخرجتْ علياء حقيبةَ ظهرٍ صغيرةً من حقيبتها وأعطتها لحنين،الحقيبةُ لم تكن هدية بل كانتْ وسيلةً لتهريبِ الطعام للؤي.
"شكراً لكِ عمتي سأذهبُ الآن،مع السلامة،م..مع السلامة عمي"،نظرتْ حنينُ لمراد بطرف عينها ورأت ملامح وجهٍ غاضبة،من الواضح أنه يريدها أن ترحل.
"رافقتك السلامة عزيزتي!"،خرجتْ حنين بسرعةٍ وركضت نحو القن،في تلك الأثناء كانَ لؤي لا يزال يحفر وإنكسر إظفرانِ له وخرجت الدماء من أصابعه ويداه تشققتا من الحجارة الصغيرة،لكنهُ لم ييأس وبقي يحفر،سمعَ أصواتَ أقدامِ حنين وبدأ يحفرُ بقوةٍ أكثرْ.
"لؤي،أخبرتُ عمتي مسبقاً بما حدثَ البارحة فحضرتْ لكَ سندويشة لبنة وقنينة ماء،لكنْ أرجوك خبئها جيداً كي لا يراها والدك"
"لا عليكِ سأفعل"،بقيَ يحفرُ أكثر فأكثر والدماء تخرج من أصابعه وحنين بدأت تحفرُ من عندها أيضاً.
"إنتبهي،إنتبهي كي لا تجرحي يداكِ"،بعدَ دقائق إستطاعَ كليهما خلق فتحةٍ صغيرة ليمر الطعام منها،أدخلت الكيس إلى الداخل وشدّه لؤي من عندهِ وأخيراً تمتْ المهمةُ بنجاح،لمعت عيناهُ ودمعتْ من الفرحة،الله دائماً ما يرسلُ أمّه في الحلم كعلامةٍ على سعادةٍ آتية،كعلامة أمل ولكي يصبر،أو هكذا إعتقد...
"حسناً لؤي،أنا عليّ الذهاب،بالعافية أخي"،بدأت تخطو بعيداً عن القن.
"شكراً حنين،و..وداعاً"،فتحَ لؤي الكيس وبدأ يأكلُ بكلّ شراهة وشربَ المياه كلّها،أنهى كلّ شيء بأقلِّ من خمس دقائق من الجوع.
"الحمدلله لكَ يا ربي،أخيراً أُسكِتَ جوعي قليلاً"،إستلقى لؤي على الأرضِ ثانيةً وبدأَ ضميرهُ يأنبهُ قليلاً لأنهُ لم يتوضأ بقليلٍ من الماء.
"ياربي سامحني،كنتُ أموتُ من العطش.....يا لغبائي!"،نهضَ فجأة.
"لم أسأل حنين عن الوقت من لأجل الصلاة..سأحاولَ أن لا أعودَ للنوم كي لا يفوتني الأذان..لكن الآن يجبُ أن أصلّ صلاة الظهر"،نهضَ لؤي وهذهِ المرة لديهِ بعضٌ من الطاقة،صلّ الظهر وعادَ ليجلسَ ثانيةً لوحدهِ محاطاً بالدجاج،ولم يستطعْ المقاومة،بعدَ ساعةٍ غلبهُ النومُ ثانيةً،لكن لم يرى أمّهُ هذه المرة..
أنت تقرأ
نافذة الأمل
Randomقصة تتناول حياة مراهقين ،تتكلم عن آلامهم،طموحاتهم،وأحلامهم. ونرى كيف يواجهون بعض الصعوبات التي يواجهونها الذين من عمرهم ..ونرى من يحاول التمسك بحبل الأمل منهم..في النهاية نرى من سيستطيع النجاة من بركة اليأس ومن سيبقى غريقاً فيها ...