"عرش من دماء"

173 29 12
                                    

نظر حمزة إلى زيدان بعينين مشبعتين بحنين الأمس، وكأن كل ذكرى قديمة تزاحمت لتطل برأسها من بين صفحات الماضي. قال بصوتٍ ناعم يملؤه الشوق، كالمطر حين يلامس الأرض العطشى: "اشتقت إلى العاقير، يا زيدان. اشتقت إلى ضحكات الأهل، وإلى حكاياتهم التي كنا نحفظها عن ظهر قلب ونرددها في صبانا. اشتقت إلى رائحة الأرض وهي تزهر بلمسة المطر، كأنها تهمس لنا بأسرارها القديمة. افتقدت أرض الكتان، وأهلها الطيبين الذين كانوا كالأشجار، متجذرين في أرضهم، يظللونا بحبهم وطيب معشرهم. وافتقدت الشيخ عديل وكتابه، المكان الذي علمنا كيف نهجئ الحروف، وكيف نفهم لغة الأرض وأسرار الناس."

أحنى زيدان رأسه وقد زينت عينيه بريق الذكرى، ثم همس بصوت يوشك أن ينكسر تحت وطأة الشوق: "آه، يا حمزة، كانت العاقير أكثر من أرض... كانت تتنفس فينا، وكأننا جزءٌ من ترابها، نحمل نسيمها، ونستمع لصوت مائها. أذكر كل شيء وكأنه حلم لم أستيقظ منه بعد، حلم يظل يطاردني في يقظتي وفي منامي."

أضاف مصطفى، وقد ازدادت نبرة صوته عمقًا، وكأنها تحمل إرثًا من الشجاعة والعزم، وقال: "حين نادتنا العاقير، كنا أول من لبّى ندائها، لم نتردد لحظة. كنا نعلم، من يومنا الأول، أن الابتعاد عنها لا يعني فراقها، بل كنا على يقين أننا سنعود إليها يومًا ما. لقد غرسَت فينا حبها وحب أهلها، ووهبتنا من قوتها ما يكفي لنكون سيفها في مواجهة كل شرٍ يهددها. صحيح أن طريقنا محفوفٌ بالمخاطر، وأن الشر يكمن في كل خطوة، لكن حين تنادي الأرض، يصبح الخوف وهمًا. حبها يسري في دمائنا، ويمنحنا شجاعة لا تهاب التضحيات."

ساد صمتٌ مهيب، كأن الكلمات امتزجت بروح العاقير نفسها، تشدّ على أيديهم، وتقوي قلوبهم ليقفوا صفًا واحدًا أمام كل شر، حتى النهاية.

هبطت "شكال" من السماء، أمام قصر افيارا وبهدوء غامض، انزلق الأصدقاء من على ظهرها وأعينهم ترقب المحيط بحذر. لكن قبل أن يلتقطوا أنفاسهم، تمزق الصمت بظهور "أفيارا" كطيف مخيف ينبعث من العدم، تحدق في "شكال" بعينين متوهجتين، يكاد الظلام ينبعث من جسدها.

قالت بلهجة متعجرفة تمزج بين السخرية والازدراء: "ما هذا العبث؟!"

أجابت "هاتور" بصوت جامد، كمن يتحدى الخوف نفسه: "لقد تغلبنا على التنين."

ارتسمت على شفتي "أفيارا" ابتسامة ساخرة، واختلط وجهها باحتقار متزايد: "تغلبتِ؟ وهل تتوهمينني بهذه السذاجة؟ كان الهدف إبادة التنين، لا هذا الاستسلام المهين."

ثم التفتت نحو "شكال"، ووجهت كلماتها بنبرة تجسد الغدر والخيانة: "وأنتِ يا كائنتي العتيقة، تنينتي العزيزة، تخذلينني أمام هؤلاء الحثالة؟ ألم تستحِ من نفسك بعد قرون من الولاء؟"

امرأة من عالم الجن _الجزء الأول _نداهة العاقير (مكتملة).♡ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن