"غنائمُ المرء الحقيقية والتي لا تُقدر بثمن هي أماكنه الآمنة، أشياؤه الخاصة، ولحظاتُ صفاءه التّي لا يُشاركها مع من يُحب"
لقد مضت أربعة أعوام، كانوا بمثابـة ربيع جديد لعمـرٍ زاحمته الخيبات، بتُ أمرح في ملهى أحلامي، بيت دافئ يملأه الضحك والحُب، زوج حنون سد فراغات جوع روحي عن كافة البشر، فجأة أصبحت أمًا لستة أطفال، اثنتان خُلقن من نسل قلبي وأحلى هدايا القدر، وثلاثة من نسل عشقي، والرابع منهم ما زال يسبح برحمي لم يتبق على لقائنا إلا أربعة أشهر يا عزيزي وتنام بعدها في كنف أبيك وأمك.
جاءت الحياة ناصفة لأحلامي تلك المرة، وجاءت مغلفة بثوب السعادة التي تُغرد بداخل دارنا كل صباح بدلًا من صوت العصافير.. أعتدت أن ابني بيتًا من نسل أحلامي ورواياتي الحالمة دومًا، مع دقات الساعة الخامسة فجرًا استيقظ أول واحدة بالبيت كما كانت تفعل أمي ولأنني أصبحت سيدة هذا القصر والمسئولة الأولى عنه، انسحب من حضن أعظم رجل بالعالم بعد تقبيله وإلقاء تحية الصباح والحب على مسامعه النائمة، واسبقه بأداء فرضنا الديني الذي تعاهدنا عليه من يومها، ثم تبدأ جولتي من المطبخ؛ أعد فنجان قهوتي على صوت غناء فيروز وهي ترنم لتمنح الصباح ألوانه
" نسم علينا الهواء من مفرق الوادي". ينقضي وقتي الخاص ومن هنا يبدأ الوقت الخاص بمن أحب بتلك البطن المنتفخة قليلًا اتحرك بحرصٍ، خمسة أطفال لكُل منهم صندوق خاص للطعام بمذاق مختلفٍ عن الأخر، بوجبات متنوعة حسب رغبات كل منهم، وما أن أتممت مهمتي من عمل صناديقهم المدرسية أقوم بصفهم جانبًا في أحد الزوايا، ومن هنا يبدأ تحضيري لمائدة الإفطار، لقد حرصت خلال الأربع سنوات أن أعدها بنفسي بدون مساعدة من طاقم الخدم أردت أن أحيي تلك اللحظات الجميلة في قلبي وقلب أحبتي ليذكروها للأبد مثلما ترسخت ذكريات أمي بقلبي لهذه اللحظة.
شرعت "حياة" في إعداد أطباق الفطور الشهية بكُل حُب وهي تتمايـل على لحن فيروز الذي يزيد من سعادتها صباحًا وتجعل منها امرأة مشحونة بالحب على مدار اليوم الذي يُختم بحضن حبيب عُمرها.
فرغت حياة من تجهيز الأصناف المتعددة من الإفطار حتى جاءت في تلك اللحظة "سيدة" التي كلفتها بمهمة رص الأطباق وانسحبت بهدوء كي تبدأ رحلتهـا الأهم.
وصلت لباب غُرفة "تاليا وداليا" أولًا وبعد طرق خفيف على الباب تسللت بهدوء لتنحني مربتة على كتف تاليـا وهي تهمس لها:
- "يلا يا مامي كفاية نوم".
ثم نادت على داليا وهي تمسح على رأسها ونادت بهدوء:
- "دودو، يلا يا قلبـي.. صح النوم ".
نهضن الفتيات اللاتي اعتدن الاستيقاظ مبكرًا في تمام الساعة السادسـة صباحًا، وبعد ما ألقين التحيـة على أمهن التي كانت لهن ونعم الأم والصديقـة والحضن الذي يلجأن إليه مع كل ضيق، فركت تاليا جفونها بكسل وهي تجر نفسها جرًا للحمام:
- جود مورنينج مامي.
- جود مورنينج يا قلبي.
ثم نظرت لداليا مؤكدة:
- دودو، حبيبي مش عايزة كسل، تاليا تخلص الحمام تقومي بعدها على طول.
رفعت أصبعها الصغير متوسلة:
- هنام 2min بس.
داعبتها بأجواء يعُمها المرح:
- ولا نص مينت، أنا مش هتحرك من هنـا غير لما أتأكد أنك صحيتي.
ثم جذبتها بدلال من كفيها واكملت:
- وبعدين فين الحضن بتاعي؟
نهضت داليا مضطرة وهي تصرخ ضاحكة وتضمها:
- صحيت خلاص يا حيوية.
أجابتها محذرة:
- قولنا مامي!!
صححت الأمر سريعًا:
- بدلعك زي بابي.. ولا هو الدلع لبابي وبس!
- بس يا لمضة!! يلا قومي وبطلي كسـل.
ثم نظرت للباب الذي فُتح وهي تشدها عنوة بأجواء مرحة:
- توتا خرجت يلا يلا مفيش وقت، هروح أشوف جوز القرود اللي فوق.
ثم أشارت على ملابسهم المكوية والمجهزة على الأريكة:
- كل حاجة جاهزة، تخلصوا وتنزلوا تفطروا وبلاش نضيع وقت.
ما تأكدت من إفاقتهم من النوم تسللت بخفة لتتوجـه صـوب جناحهم الخاص بالدور الثالث.. حيث قام بإعداد غُرفة خاصة بأولاده بداخله، تتكون من ثلاثة سُرر، يفصل بينهمـا لوح خشبي طويل، فتحت الباب بهدوء لتسقط أعينها أولًا على "ريان وركان" اللذان احتلا فراشهم كالمعتاد.. ورسيـل التي استحوذت على مكان أبيها كعادتها كُل ليـلة.. ثم رُفعت جفونها لذلك الرجل الوسيم الذي يتمم استكمل ملابسـه أمام المرآة.. سارت على أطراف أصابعها بابتسامتها الساحرة وطوقت ذراعيها حول خصره ورأسها يميـل على ظهره:
- صباح الخير على أحلى دادي وأعظم زوج في الدنيـا وحبيب قلبي.
أنهى عقد رابطة عنقـه وهو يناظرها بالمرآة:
- صباح كُل حاجة حلوة بوجودك فيها.
ثم فك ذراعيـها وجذبها أمامه برفق وهو يمرر كفه على وجنتها الموردة وقال بعتب:
- ناوية تريحي نفسك أمتى؟
- مش عارفة والله يا عاصي، مش عارفة بجـد، مسئولية أني بقيت مامي وكل حاجة لازم تبقى مظبوطة، ومسئولية المذاكرة والتربية كلها محدش هيعرف يقوم بيها غيـري، أنا عايزة أخلق معاهم ذكريات حلوة خاصة بينا.
- تمام يا حبيبتي، بس مش على حساب صحتك بردو.. والبيبي.
ابتسمت بوجهه وهي تدنو منه خطوة لتقول ممازحة:
- وأنا بشرب قهوتي الصبح، جه في بالي حاجة كده، أنا كل ولادنا جم غلطة يا عاصي بيه، مفيش بيبي جه بالاتفاق.. على فكرة أنت طلعت رجل مكار وبتضحك عليا.
ضحكة خفيفة ارتسمت على محيـاه وهو يقبل بين عينيها بحُب ينمو يوم بعد الآخر:
- طيب وأيه الجديد؟ المفروض تكوني اتعودتي.
رفعت سبابتها محذرة:
- لا أنسى مش هتضحك عليا تاني، عُمران بس يجي بالسلامة وبعد كده انسى، لو عايز أطفال تاني روح اتجوز، أنا أهو بقول لك روح اتجوز.
رفع ذقنها إليه:
- وهتربيهم أنتِ بردو؟!
احتل العبوس ملامحها:
- وأنا مالي!! تربيهم مامتهم بقا.. كفاية عليا اللي عندي.
ثم تمسكت بياقة بذلته شاهقة:
- نهارك مش فايت!! عاصي أنتَ هتتجوز عليا بجد!! أنت عارف لو عملت كده أنا ممكن أعمل فيها أيه!!
ما زال الحديث معها يُسرب السعادة والفضول لقلبه:
- ايه!!
ردت بتوعد:
- هقتلها، وأي ست تفكر بس تقرب منك هي الجانية على اللي هيحصلها مني.
ثم دنت منه حد التهامس وأكملت:
- أنتَ بتاعي أنا وبس، يعني ملكيـة خاصة يا باشا.
باغتها بضمة قوية بعد ما لف ذراعه حول خصرها وهو يرميها بحضنـه ليوزع على ملامحها الثائرة غيث مشاعره المتأججة:
- يا بختي.
بدأ كفه يتنقلان بحُرية على لوحة ظهرها وهو يتهامس بالقُبل على ثمار ملامحها حتى تاهت بين أمواج عشقه الثائرة وما أوشك بالتهام ثغرها المكتنز هبت مفزوعة وهي تبتعد عنه:
- عاصي، الولاد.
ثم صاحت بأعلى طبقات صوتها وهي تنادي عليهم:
- ريان، ركان، رسيل.. ٣ ثواني وتكونوا في الحمام.. يلا!
انفجر ضاحكًا على هيئتها المهزوزة أمامه وهي تسترد حالتها العائدة من مدينة الحُب ليقول معاتبًا:
- ولاد الـ*** دول هيناموا أمتى في أوضهم!! شوفي لك حل يا حياة!! الكلام ده مش هينفع.
دنت من ريان النائم بالعرض في مؤخرة السرير وربتت على كتفه:
- ريان يلا يا مامي، المدرسة.
ثم رفعت الغطاء تُفتش عن ركان المدسوس تحته:
- الولد ده بيغطس فين!! ركان حياتي يلا قوم متغلبنيش أنت كمان!!
ثم فزعت رسيـل من نومها بمنتهى الحيوية وهي تبحث عن أبيها أول شيء لتركض ملهوفة لحضنه:
- بابي!!
تلقى صغيرته صاحبة الأربع سنوات على كتفه وهو يُقبلها:
- حبيبة بابي اللي ما يعرفش ينام غير وهي في حضنه!!
رمقته حياة بغيرة واضحة:
- والله!! طيب خليها تنفعـك.
ثم صرخت بريان:
- قوم يا ابني.. ركاااان!!
نهض ركان بكسل وهو يوقظ في أخيه وينغز أصابعه بكتفه:
- ووك أب يا ريان عشان مامي تعبانة ومش عايزين نغلبها.
رمقته بذهول:
- لا يا راجل!! ومن امتى العقل ده!! هعد من ١ لـ٣ لو مكنتوش في الحمام هتعامل بطريقتي.
ثم نظرت لعاصي بتعب:
- ما تقول حاجة!!
همست له رسيل الصغيرة بوشوشة:
- قول مفيش سكول ولا نيرسري تو داي وتبقى بابي حبيبي بجد!
عقد حاجبيـه مؤيدًا:
- هو ده الكلام.
ثم دنى من حياة وهو يحك بأنفه متحاميًا في صغيرته التي يحملهـا على يده:
- ما تسيبيهم على راحتهم يا حياة وبلاش مدرسة النهار ده هيجرى أيه يعني؟! ده حتى النهار ده الويك آند.
برقت عينيها بحدة:
- عاصي أنت بتقول أيه؟!
هجم كل من ريان وركان على أبيهم هاتفين:
- يعيش يعيش عاصي دويدار.
وضعت يديها بخصرها متوعدة له:
- والله!!
مال على مسامعها متهامسًا بعيدًا عن آذان ابنته التي تحاول سماعهما:
- لو هتوافقي اني استفرد بمراتي حبيبتي النهار ده هوديهم.. ده أنا هرحلهم من البيت.
تدخلت رسيل بخفة وهي تربت على خده:
- بابي أنتوا بتقولوا ايه؟! بليز كلمني أنا لوحدي.
رمقتها حياة بسخط:
- بس يا بنت، ويلا انزلي هتروحي النيرسري.
تحامت بأبيها متدللة:
- بابي قال مفيش نيرسري يا مامي.
هتفت حياة بوجهه:
- عاصي!! متهزرش، الوقت بيسرقنا.
رفع حاجبه بنظرات معينة وحدها التي تفهمتها:
- ديل أور نو ديل؟
تأففت باستسلام وهي تعبث بشعرها لتخفي عنه ضحكتها:
- خلاص ديل، بس يلا عشان معاد المدرسة.
ارتسمت ضحكة الانتصار على ملامحه وفي هذه اللحظة جاءت تاليا ثم داليا لعندهم، انزل رسيل لتقف على طرف السرير واستقبل بناته بترحاب وهو يقبلهن بحنان:
- شايفين دودو وتوتا جهزوا وأنتو لسه.
ثم ضم الاثنين كل واحدة شغلت جهة منه وهن تسندان رأسهن على جانبي أبيهم وقال معلنًا:
- للأسف مش هنعرف نزعل مامي ومضطرين تروحوا المدرسة دلوقتي.. بس لما ترجعوا هنروح كلنا نقضي الويك في الغردقة، هنروح كُلنا.
هلل الجميع وتحمس الصبيان ليتسابقا على الحمام فأتبعتهم رسيل هاتفة:
- أنا الأول.
سحبت حياة تاليا من حضن أبيها وبعد ما قبلت وجنتها أعقبت:
- حبيبتي شعرك مش مظبوط، تعالي أعملهولك.
أما عن داليا رفعت الكتاب بوجه أبيها طالبة:
- بابي ممكن تساعدني في حل السؤال ده!
اطلع على المنهج بيدها وعقد حاجبيه محاولًا فهم السؤال حتى ختمه معارضًا:
- أنتو مين سمح لكم تدخلوا قسم إيطالي!!
بررت داليا بضحك:
- مامي يا بابي أحنا أصلا من زمان بندرس إيطالي.
ربت على كتفها مُعلنا عجزه على حل السؤال:
- يبقى تروحوا لمامي.. مش تخصصي.
سألته ابنته علنًا:
- أومال أيه تخصصك يا بابي؟!
حك ذقنه وهو يرمق زوجته قائلًا بمزاح:
- مامي عارفة.. روحي أسأليها.
- طيب أيه أكتر subject كنت تحبها في المدرسة؟
رمق حياة لتنقذه من ذلك المأزق:
- مامي عارفة؟
اقتربت من حياة متسائلة:
-مامي ايه هو تخصص بابي؟ وكان بيحب ايه أكتر حاجة؟
وضعت "التوكة" برأس تاليا وقالت بثقة:
- بابي كان بيحب الأحياء يا حبيبتي.
- يعني ايه أحياء يا مامي؟!
تحمحمت بخفوت لتخفي الضحك:
- يعني الساينس، بابي مغرم بالساينس، أي حاجة تقف معاكم هو هيعرفها.
هتفت فرحة:
- خلاص أنا هخلي بابي يذاكر لي ساينس طول الوقت.
انفجرت ضاحكة وهي ترمقه بأعين متلألئة، ثم قالت:
- بابي هينبسط أوي.
تدخل عاصي وهو يبعثر شعر صغيرته:
- أنا هابقي أشرح المواضيع لمامي وهي تذاكر لكم.
فتحت حياة ثغرها بدهشة مزيفة:
- ده ليه يا بابي!! الساينس حلو.
عض على شفته متوعدًا:
- أصلي ما بعرفش أشرح غير عملي، الجزء النظري عندي مش اد كده.
غمزت له بحذر فأتبع مبررًا:
- اومال حلو تورطيني وتخلعي؟!
تركت رأس تاليا وهي تصيح بصغارها اللذين يمرحان بالماء وصوتهم يصدح بالغرفة:
- يا حبايبي كفاية بقا حرام عليكم، ما تقول حاجة يا عاصي هما مش ولادك، أنا بجد تعبت والله.
•••••••••••
بعد مرور نصف ساعة من الصياح والصراخ والنداءات المتكررة ونفاذ صبر "حياة" التي كادت أن تجن من تؤامها وصغيرتها رسيـل، هبط الجميع إلى غرفة الطعام التي تحتوي على سفُرة تتكون من أربعة وعشرين مقعد.. كانت "تميم" وزوجته يجلسان بمكانهما منتظرين قدوم عاصي وعائلتـه.
غرفت شمس بطبق "مصطفى" قطعة من الجُبن والخبز وبيضة وقالت برجاء:
- حبيبي عشان خاطر مامي خلص طبقك كُله.
وعلى الناحيـة الأخرى انتهى تميـم من تصفيف شعر صغيرته "نور" صاحبة الأربعة أعوام وبعد ما طبع قُبلة حنونة على رأسها قال:
- يلا أقعدي افطري بسرعة.
انضم لهم عاصي وعائلته في أجواء يعُمها الضحك والمرح والحماس لبدء يوم جديد.. جلس عاصي بمقدمة المائدة وألتف صغاره حولها كل منهم متجهًا لمقعده المُحدد إلا رسيـل التي تركت الجميع وتسللت بخبث لتجلس بجوار مصطفى وهي تلقى عليه التحية:
- جود مورننج يا ثاثا.
جر الطبق بينهم ليتقاسمان الفطار سويًا وهو يقول:
- جود مورننج، بالليل استنيتك كتير اوي عشان نلعب سوا بس أنطي حياة قالت أنك نمتي.
اعتذرت بنبرة طفولية:
- مث مثكلة، نعلب النهاردة فـي الويك آند.
ضربت حياة بقدمها ساق زوجها وهي تنظره له بعتب:
- شايف بنتك؟!
رفع حاجبه متفاخرًا:
- بنت عاصي دويدار بقا.
ثم تحمحم ناظرًا لتميـم:
- يا هندسة، هتعبك تحضر أنت ومراد ميتنچ النهار ده، وتخلصوا الديل مع شركة "__" بأي تمن.. وهتعبك تعدي تاخد الولاد من المدرسة وتخرجهم وديهم سينما دريم بارك توههم.. المهم ترجعهم على النوم.
ركلت حياة قدم زوجها فنظر لها واثقًا:
- أنا عارف بعمل أيه.
ارتشف تميم قهوته متسائلًا:
- ليه أنت مش جاي؟! شايفك جاهز!!
سعل بخفوت وهو يغطي على الأمر:
- طلعت لي شغلانة مستعجـلة.
- طيب وأيه دخل الولاد؟
رد بتلقائية:
- ما هي حياة الشغلانة.. قصدي يعني هتيجي معايا الشغلانة، تميم نفذ اللي بقول لك عليه وبعدين هفهمك.
برر معترضًا:
- عاصي أنت عايزني امشي بـ ٧ أطفال!! طيب بذمتك التوأم دول أنت مش بتستحملهم دقيقتين!!
ثم برق محذرًا لريان الذي يطعم نور بيده:
- عندها ايدين وبتعرف تاكل لوحدها يا حبيبي.
فأتبع ركان الذي صنع "لفافة" محشوة بالجبن كما علمته "حياة" وقال بهدوء:
- اتفضلي دي من إيدي يا نور.
عض تميم على شفته متوعدًا:
- العلاقة الثلاثية دي نهايتها أيه عشان أعرف!! ما تربي ولادك يا عاصي.
رفع حاجبه مبرئًا ذمته:
- لا أنا بخلف بس.
كتمت حياة وشمس ضحكهم لتتدخل الأولى في الحوار قائلة:
- متكبرش الموضوع يا تميم دول أطفال.
فأتبعت شمس:
- والأطفال أحباب الله.
أشار عليهما بسخط:
- بذمتك دول أطفال؟ دول قرود.
ثم ولى شاكيًا لعاصي:
- عاصي ولادك مش بيحترموا حد ولا معتبريني عمهم.
رد عاصي ممازحًا:
- مش لما يحترموا أبوهم الأول.. اخدم أخوك النهار ده وهعوضك بيوم إجازة من الشركة.
- وغلاوتك ولو شهر مش كفاية على اللي هيعملوه فيا ولادك، بص خد الاتنين اللي عندي وأنا مسامحك!! وبعدين أيه الشغلانة اللي معرفهاش دي!! هي سر يعني ولا ديل جديد؟!
رد عاصي بمنتهى الهدوء:
- صفقة تقيلـة.. محتاجة تركيز وتخطيط وصحة.
- ما تقول لي!
- لا مش تخصصك!
- ملهاش علاقة بالهندسة يعني؟!
رمق عاصي حياة التي تبتلع الضحك مع اللقمه بفمها بأعين لامعة:
- لا دي تبع الساينس.
- هتفتح معمل تحاليـل؟!
رد عاصي ببرود:
- لا مركز تأهيل.
نظر تميم لحياة معاتبًا:
- جوزك ماله على الصبح؟!
أنكرت حياة معرفتها بإيحاءات عاصي الماكرة وقالت:
- مش عارفة الصراحة ماله عندك أهو أسأله.
ثم ختم صوت "كلكسات" العربة المختصة بتوصيلهـم، فهرولت حياة مسرعة وهي تحفزهم:
- يلا عمو السواق جيه.. خلوا بالكم من بعض وبلاش شقاوة عشان خاطري.
ثم أوصت الأختين:
- توتا ودودو خلو بالكم منهم.. وبلاش يقعدوا جمب الشباك.
تحرك الثلاثي ريان، نور، ركان أولا وكل منهمـا ممسك بيد نور من جهة فزفر تميم صائحًا:
- سيب أيدين البنت يا hبني!! العلاقة الثلاثية اللي مجنناني دي!! طب فهمني أزاي؟
ثم تحرك مصطفى بصحبة رسيل التي كفلته بحمل حقيبتها المدرسية، فثارت غيرة تميم:
- شايف بنتك القادرة!!
غمز له عاصي قائلًا:
- قادرة بنت قادرة.. عندي أمها.
- عاصي، ما تتعب وتربي عيالك شوية!! أنا وعيالي شقيانين وغلبانين.
مال على أخيه واعظًا:
- العيلة اللي مفهاش صايع حقها ضايع، لعلمك أنا مش ناوي اربيهم عشان ياخدوا حقك أنت وعيالك.
لقد فاض صبـر تميم من هدوء أعصاب أخيه المعتادة التي عانى منها طوال السنوات الماضية ليقف ململمًا أشياءه:
- تصدق أنا غلطان أني بتناقش معاك.
ثم نظر لشمس:
- يلا يا دكتورة أوصلك في طريقي.
انتظرت حياة حتى غادر الجميع فلم يبق بالمكان غيرهم، سحبت المقعد للأمام وهي تتهامس معه:
- عاصي مش في غيرنا في البيت.
مد يده أسفل مقعدها الخشبي ليجره إليه قائلًا:
- ما هو ده المطلوب!!
- أنا بجد مش مصدقاك!! أنت بتخطط لأيه؟
أطعمها بيده، ثم مسح بإبهامه أثر قطرة المربى المنثورة على شفتها ولعقها بلسانه:
- ولا أي حاجة.
- عاصي!!
- بحاول استفرد بمراتي اللي مش عارف أقعد معاها ليا ٥ شهور، مرة تعب الحمل، مرة امتحانات البنات، مرة الولاد طابقين على نفسنا!! النهار ده مالكيش حجة.
ثم عاد ليطعمها بيده مرة أخرى وأتبع:
- في ضيف جاي لنـا الضهر، عايزك تجهزي لاستقباله.
- ضيف مين!! مش بقولك حاسة أنك بتعمـل حاجة من ورايا.. اعترف حالًا.
ساوم ثغرها على رائحة القُبل منه وقال متحديًا:
- هتعرفي لما يجي.
- لا دلوقتي.
تأرجحت عينيـه متحيرًا وهو يقبض على كفها:
- طيب تعالى فوق.
سحبها خلفه برفق ليقطعا درجات السُلم بتمهلٍ، فتمردت خلفه:
- عاصي، هتبطل أسلوبك ده أمتى؟ قلت لك مش بحب المفاجئات.
توقف في الطابق الثاني ليتأملاها مليًا، ثم انحنى فجأة ليحملها بين ذراعيه فهبت معترضة:
- عاصي أنا حامـل.
قطع أول درجة من السُلم:
- يعني أيه حامل!! هنبتدي ولا أيه!! لا بقول لك أيه اظبطي.
تردد صدى الضحكة بصدره وهي تبرر:
- يعني وزني تقيل حبة، قصدي خايفة عليك يا عاصي باشا.
غمز بطرف عينه قائلًا:
- والله!! شكل بعدي عنك طول الشهور اللي فاتت نساكي مين هو عاصي دويدار.
لفت ذراعها حول عنقه وهي تقول مداعبة:
- كفاية عليك بنتك رسيل، أهي أخدت مكاني وأنا ساكتة.. البنت بتتجنن أول ما تشوفني في حضنك يا عاصي وعلى فكرة أنتَ اللي عودتها.
- أنتِ عارفة أني بعشق رسيل الصغيرة لأنها نسخة منك، واخدة لون عيونك وتمردك وجبروتك، بيخلوني أقف قدامهم مسـلم، بقول أمين وبس.
ثم وصل لقعـر غرفته وانزلها بحذر شديد وأتبع:
- كان عندي فضول أشوف حياة الصغيرة وأعيش تفاصيلها الجميلة لحد ما بقيت ست جميلة سجنت واحد زي عاصي دويدار في عالمها وبس، متأكد أنك كنتِ في شقاوة رسيل زي ما أنت في شقاوة حياة.. أنا بعيش تفاصيل الأبوة من أول وجديد معاها، وبعيش معاكي تفاصيل الحُب اللي مكنش ينفع أعيشها مع غيرك.. أنتو بقيتوا أهم حاجة في حياتي.
ما أن ختم جُملـته حتى بادرت بزرع قُبلة طويلة على خده، ثم ضمة حنونة من قلبها الذي اعتاد أن يحتويه دومًا، فتح بيده مقبض الباب وسحبها لعالمه وهو يذوب ويُذيب الجدار الفاصل خلال أشهر بُعدهما.. تركت نفسها بين يده وهي تهمس في أذنـه قائلة بصوت متهدج:
- بردو مش هتقول لي مين الضيف اللي جاي.
انفصلت أنفاسه المُحتلة جدار عنقها بصعوبة وهو يفك حزام خصرها الحريري ويمسكه بين يديه ليلفـه على شعرها الفوضوي ويقول بهدوء بعيني راسخة كمن يتأملة لوحته الفنية المميزة:
- مخرج سنيمائي عجبته روايتك الاخيرة وحابب يحولها لفيـلم، جاي يقعد معاكي وهتتكلموا وتتفقوا.. وإنتاج أول فيلم ليكي هيكون عليا.. هدية لحياة، لحياتي.
ينعكس قلب المرء على وجهه، بات قلبها المتراقص فرحًا يتراكض فوق ملامحها بعدم استيعاب وهي تكرر جملتها بسعادة بالغة:
- ده بجد يا عاصي، الله أنتَ عارف أن ده هو حلمـي.
ثم ارتمت بحضنه وعانقته بلهفة:
- أنا خدت نصيبي الحلو كله من الدنيا فيك، عاصي أنا بعشقك.
همس بأذنها مُعلنًا شوقه للقائها:
- والعشق مرض ودواه الوحيد الوصال.
تغزلت بحيرتي عيونها الزرقاء بعينيه قائلة بولهٍ:
- وأنا عاشقة يا دويدار.
همست نواياه مُعلنـة مقصدها "أريد أن ألقاكِ بالمكان الذي لا يفترق فيه العاشقان أبدًا" دنا منها حد اختراقه لقوانين المسافات لينزع عنها مئزرها الطويـل الذي تساقط أرضًا تحت أقدامهما، فحظت عينيها الساحرة بقُبلتين من نهر حبه الجارف وهو يضمها لعنده، فثارت متفوهة لتُذمره:
- عاصي، أنا حامل.
رفع حاجبه مستنكرًا:
- وده أسربه ازاي!! أنا مسرب 5 أخواته تحت.. كلمة كمان هسربك أنتِ قبلهم.
انفجرت ضاحكـة بين يديه لتزلزل سواكن المنطق واللا منطق بقلبه، لتشعل بؤرة مدججة بالحب بصدره رجعته لعُمر الصبى والطيش في محراب حُبها الذي لا يتوب إلا بدروبه، ومن هنا دق ناقوس الحُب حاسمًا ساعته وتاريخه بجولة طويلة من الحب المتضاعف بينهما، حيث التقى الماء بالسماء، ونبتت الزهور من بين شقوق الصخور، اتحد البحر باليابس، وتراقص الغصن وطرقت الرياح النوافذ وصمتت العصافير احترامًا وتبجيلًا لأصوات الحب التي لا يعلو عليها شيء.
ذاب السُكر في حضن الماء ليحركه كيفما يشاء وقلب يصدح بحقيقة عشقهم المخلد:
"التقيتُك في بدايةِ رواية قرأتها
وأغرمت بك في منتصفها، وبدأتُ أستشعر وجودك حولي بدلًا من الكلمات.. وعشت طويلًا على الحب والوهم والخيال، حتى جاء بك البحر لعندي وكتبك القدر لقلبي خليلًا وسأظل أعلنها لحبات الرمل ونجوم السماء ومسامع البشر، أني عاشقة حد الجنون".
" تمت "
أنت تقرأ
" غوى بعصيانه قلبي "
Mystery / Thrillerولأنني امرأة مسرفة في مشاعرها ، أحببتك بقلبي كاملاً دون أن أدّخر منه شيئًا لأيام الحنين والغياب والاحتياج ، بتُ ملازمًا لقلبي كـ نبضه ، أحببتك في زمنٍ كذّبوا الحُب فيه، في وطنٍ يُعارض كُل شُعور، بين أُناسٍ يجهلون العاطفة، أَحببتك على أرضٍ جافّة، تحت...
