كانت الطبيبة في حالة يئس وأوشكت ان تتيقن ان جودا ستصبح في عداد الأموات ولكن مالك كان هادئاَ جداً وقال لها : كنت متوقعاً ذلك ايتها الطبيبة وأعرف ان دمي مصاب وسيكون من الخطر على كلينا القيام بعملية كهذه فهذا قد يقتلني او يقتلها ولهذا لاتجزعي فقد حزمت أمري مسبقاً ..تفضلي . ثم سلم الامير مالك للطبيبة ورقة فلما فتحتها الطبيبة استغربت واندهشت وتعثرت الكلمات وتمتمت بجملة : هذا لايصدق سموك ..ولكن كيف ؟ فقاطعها مالك : إنه كما ترين تماماً وقد إتخذت الاجراءات اللازمة لذلك وبعد اثني عشر دقيقة من الآن ستقومين بإجراء العملية لجودا ألطف آالدوما بشكل خاص. فقالت الطبيبة رابيا : ولكن قد تعترض العائلة الملكية على هذا ، والمتبرع ..؟؟ فقال مالك : كلا لن يحصل ذلك لأني من وقعت الأمر بنفسي بصفتي المتصرف الأعلى لشؤون العائلة الملكية ولا يجرؤ أحد على اعتراض الأمر كما انه موقع من مدير المستشفى الملكي لذلك لن تقع عليكي أو على المستشفى العام اي مسؤولية بل على العكس ألزمتهم بدعمكم بكل مايلزم لإنقاذ المريضة. فإبتسمت الطبيبة وشعرت بإرتياح عظيم وقالت مستغربة : ينتابني فضولٌ أيها الأمير عن دوافعك لفعل ذلك فهذا لايحدث إلا نادراً كيف تحظى فتاة من العامة بإهتمام شخص بمركزك. فقال مالك : لدي يقين في أمر عظيم ايتها الطبيبة ان في هذه الحياة قد يضعك الله في طريق احدهم لتساعديه او تبدلي حياته للافضل ..وان فيها ايضا انه قد يأتي عليكي يوم تحتاجي فيه لشخص ما ليساعدك او يغير حياتك فيضعه الله لك في الطريق .. بكلا الحالتين النادر الذي يحصل معها قد يحصل معي ببساطة ..وهو دوري الآن. فقالت الطبيبة بإعجاب شديد : عافاك الله ايها الأمير على هذا الموقف النبيل فما سمعته عنك أصاب كبد الحقيقة ولكن كل ما أعرفه ان تلك الفتاة محظوظة جدا حتى تكتب لها حياة جديدة هذا اليوم وبهذه الطريقة ..فقال مالك : ولكن لي رجاء منك ايتها الطبيبة فأومأت رابيا ان بالطبع على الرحب والسعة فقال مالك أبقي الأمر سراً فلا أريد ان يعلم أحد بهوية المتبرع . فقالت الطبيبة : وماذا عنها ان سألتني ؟ فقال مالك وهو يشير بعينيه لها مؤكداً بصرامه: قلت لا أحد ايتها الطبيبة .فسكتت رابيا وهزت رأسها بالموافقة .. فقال مالك : وقعي على هذا التعهد بعدم الوشاية لأحد ..وأومأ الى مساعده وقدم للطبيبة ورقة قرأتها بعنايه ووقعتها بهدوء وسلمها نسخة واحتفظ بالأخرى .. فقالت الطبيبة وهي تنظر الى مالك مطولاً ..لا أصدق ان كل ذلك من منطلق الواجب فقط فهذا ان لم أخطئ ..حب يتجاوز كل الحدود ..فإلتفت لها مالك ونظر لها وكأنها صفعته على وجهه بتلك الكلمة وشعر بأن ضربات قلبه اضطربت فقد داعبته تلك العبارة بشكل ملفت وإلتزم الصمت فلما يئست الطبيبة من إجابة قالت : سأذهب لإجراء العملية ..ممتنة لسموك بدعمنا وإنقاذ روح بريئة أخرى هذا اليوم ..طابت ليلتك. وانصرفت بينما تركت الأمير مشغول الفكر بجودا وخرج من الغرفة على مهل يراقب الطبيبة اين ذهبت وكان ضمن نطاق الردهة فقطع الممر وشاهد الطبيبة تدخل الى غرفة الجراحة فخمن ان جودا هناك فلما اقترب ونظر من نافذة الباب الزجاجية شاهد جودا ترقد بسكون وهي محاطة باجهزة وفريق طبي يهتم بها فضل متسمراً مكانه وهو لا يرف له جفن ينظر اليها بحب وحزن وقد لاحت بعينه دمعه نزلت هادئة على خده ولكنها حارقة بما يكفي ليشيح بوجهه ويتكأ على الباب فلم يتحمل رؤيتها هكذا فخرج من المكان وهو يوصي مساعده ان يراقب كل شئ جيداً وان يبلغه عندما تستيقظ المريضة فهز الرجل رأسه كالآلة مطيعاً لسيده وانصرف الامير بينما كان جلال بغرفة المكتب الخاصة بابنة عمه وقد اتخذها مصلى وخر ساجداً لله يتضرع ويبكي بحرقة متوسلاً أن ينقذها الله وكان صوته قد اختنق من شدة البكاء حتى تحول الى غمغمة غير مفهومة لمن يسمعه كان يبكي ويناجي ربه دون ان يشعر بأحد او يحس بأحد وبعد سجدته رفع رأسه وحدق بالسماء وقد بح صوته أثر البكاء واخذ يناجي الله بدعاء النبي الاكرم فيردد بصوت متكسر باكي : يا رب ..يا من علا فقهر و يا من بطن فخبر و يا من ملك فقدر و يا من عبد فشكر و يا من عُصِيّْ فغفر يا من لا يحيط به الفكر يا من لا يدركه بصر و يا من لا يخفى عليه أثر يا عالي المكان يا شديد الأركان يا منزل الفرقان يا مبدل الزمان يا قابل القربان يا نير البرهان يا عظيم الشأن يا ذا المن و الإحسان و يا ذا العزة و السلطان يا رحيم يا رحمان يا رب الأرباب يا تواب يا وهاب يا معتق الرقاب يا منشئ السحاب يا من حيث ما دعي أجاب يا مرخص الأسعار يا منزل الأمطار ما منبت الأشجار في الأرض القفار يا مخرج النبات يا محيي الأموات يا مقيل العثرات يا كاشف الكربات يا من لا تضجره الأصوات و لا تشتبه عليه اللغات و لا تغشاه الظلمات يا معطي السؤلات يا ولي الحسنات يا دافع البليات يا قابل الصدقات يا قابل التوبات يا عالم الخفيات يا مجيب الدعوات يا رافع الدرجات يا قاضي الحاجات يا راحم العبرات يا منجح الطلبات يا منزل البركات يا جامع الشتات يا راد ما كان فات يا جمال الأرضين و السماوات يا سابغ النعم يا كاشف الألم يا شافي السقم يا معدن الجود و الكرم يا أجود الأجودين يا أكرم الأكرمين يا أسمع السامعين يا أبصر الناظرين يا أرحم الراحمين يا أقرب الأقربين يا إله العالمين يا غياث المستغيثين يا جار المستجيرين يا متجاوزا عن المسيئين يا من لا يعجل على الخاطئين يا فكاك المأسورين يا مفرج غم المغمومين يا جامع المتفرقين يا مدرك الهاربين يا غاية الطالبين يا صاحب كل غريب يا مونس كل وحيد يا راحم الشيخ الكبير يا رازق الطفل الصغير يا جابر العظم الكسير يا عصمة الخائف المستجير يا من له التدبير و إليه التقدير يا من العسير عليه سهل يسير يا من هو بكل شيء خبير يا من هو على كل شيء قدير يا خالق السماء و القمر المنير يا فالق الإصباح يا مرسل الرياح يا باعث الأرواح يا ذا الجود و السماح يا من بيده كل مفتاح يا عون من لا عون له يا ركن من لا ركن له يا غياث من لا غياث له يا عظيم المن يا كريم العفو يا حسن التجاوز يا واسع المغفرة يا باسط اليدين بالرحمة يا مبتدئا بالنعم قبل استحقاقها يا ذا الحجة البالغة يا ذا الملك و الملكوت يا ذا العزة و الجبروت يا من هو حي لا يموت أسألك بعلمك الغيوب و بمعرفتك ما في ضمائر القلوب و بكل اسم هو لك اصطفيته لنفسك أو أنزلته في كتاب من كتبك أو استأثرت به في علم الغيب عندك و بأسمائك الحسنى كلها حتى انتهى إلى اسمك العظيم الأعظم الذي فضلته على جميع أسمائك أسألك به أسألك به أسألك به أن تصلي على حبيبك النبي الأمين محمد و آله الاطهار وأصحابه الاخيار و أن تيسر لي من أمري ما أخاف عسره و تفرج عني الهم و الغم و الكرب و ما ضاق به صدري و عيل به صبري فإنه لا يقدر على فرجي سواك و افعل بي ما أنت أهله يا أهل التقوى و أهل المغفرة يا من لا يكشف الكرب غيره و لا يجلي الحزن سواه و لا يفرج عني إلا هو اكفني شر نفسي خاصة و شر الناس عامة و أصلح لي شأني كله و أصلح أموري و اقض لي حوائجي و اجعل لي من أمري فرجا و مخرجا فإنك تعلم و لا أعلم و تقدر و لا أقدر و أنت على كل شيء قدير برحمتك يا أرحم الراحمين. وبعد فراغه اخذ يسبح ويمجد الله كثيراً حتى تعب وأغمض وغاب فرأى حلماً في عالم الرؤيا انه هناك طفل صغير جميل جداً يلعب ويلعب ويجوب الارجاء على عشب أخضر ويبتسم لجلال وكلما اقترب منه جلال يركض ويدور ويستحث جلال على اللحاق به حتى وصل الطفل يلعب بالقرب من إمرأة شابة جميلة رغم ان هناك خصلة من الشيب تغزو شعرها وقالت بصوت هادئ رخيم " رخيم : تعني صوت جميل عميق" وهي تحيك ثوباً من الصوف دون ان تلتفت والطفل يلعب ويدور حولها : يامالك ..مالك يابني تعال وإلعب هنا لا تبتعد ..فوالدك سيقلق ..فلما اقترب جلال منها: تهلل وجهها وقالت: كنت انتظرك أيها البار..إقترب يا عزيزي لا تخف..ولكن جلال كان متردداً إلا انه شعر بإرتياح كبير لحنان تلك المرأة وكانت تكبره بالسن فأقتربت منه وأخذت بيده وقالت له بحنان : انتظرتك طويلاً يابني ..ثم قبلت رأسه واعطته ثوباً من الصوف الزهري هو الذي كانت تحيكه فأمسكه باستغراب وهو لا ينطق بكلمة ونظر لها فإبتسمت وقالت : لقد اكملته اخيراً ..مضت عشرون عاماً من القلق والحب وأنا احيك به ولكن اليوم أملي قد تحقق .. اعتني به وبطفلتي أيها العزيز البار..فنطق جلال اخيرا بكلمة وقال مذهولاً متلعثماً وتعصف به الافكار : سيدتي انا ..انا لا افهم .. فردت المرأة على ذات الابتسامة ستفهم كل شئ قريباً يابني ..لا تقلق.. فقال جلال : ولكن من انتي ومن هذا الطفل وماهذا الثوب ..سيدتي انا...لا.. فقاطعته المرأة وهي تمسح على خده موصية : انه مالك حفيدي ..لاتنسى ياجلال اعتني بشاهينور ..ثم تركته وفجاة تحولت الى سراب واختفت وبقي الثوب الزهري لطفلة ذات العامين بيد جلال وقد اختفى الطفل ايضاً مع جدته ولم يعد له أثر يذكر. وفجأة فتح عينه على يد تمسح على خده فقفز من مكانه لما وجد انها رابيا فلما رات فزعه قالت متداركه : إهدأ يا جلال هذا انا ..وانظر أرتدي القفاز لا تقلق . فهدأ جلال وسحب نفساً عميقاً ومسح على وجهه . قالت رابيا : كنت أتاكد من سلامتك يبدو انك كنت غائباً عن الوعي جلال .. حرارتك مرتفعة قليلاً ..هات يدك . فمد يده وسألها لاهفاً : كيف حال جودا الآن؟؟ فوضعت جهازها وسماعتها لتقيس ضغطه بصمت فوجدته منخفضاً ..فقالت موبخة : لما ضغطك منخفض هكذا ألم تتناول شيئاً البارحة ..فهز جلال رأسه بالنفي .. فقالت رابيا مستاءة : اه ..كما توقعت .. اسمع لا بأس ان تشفق على الاخرين وتساعدهم ولكن اشفق على نفسك أيضاً وارحمها ..الأعمال الخيرية تاخذ جل وقتك ياجلال لدرجة انك تنسى احياناً الاعتناء بنفسك ليست هذه اول مرة تسعف فيها احداً ولكنها أول مرة يغمى عليك فيها هنا ..وهذا ليس مؤشر جيد ياعزيزي .. خذ هذا .. سيساعدك لتستعيد نشاطك. وناولته عصير الفاكهة مع شطيرة تقليدية شهية فقال مجدداً : رابيا سالتك كيف حال جودا ؟؟ فقالت رابيا مبتسمة مازحة: ايها الابله خمسة عشر عاما مع بعضنا البعض ولم تعرفني بعد ؟؟؟هل تعتقد انه من الممكن اناولك كوباً من القهوة ومريضتي تموت بالداخل ..هيا تناول هذا وتعال لتطمئن عليها فقد أصبحت بخير الآن وحالتها مستقرة ..فتهلل وجه جلال وبدا غير مستقر وهو يشكر رابيا بحرارة ويتلعثم في الامتنان لها ..ويتحرك بإرتباك في مكانه لا يدري هل ينهض ام يبقى كان تائهاً مبتهجاً فإستغربت رابيا وقالت ضاحكة : ما الذي دهاك الان ؟؟ تتصرف كالأطفال . فضحك جلال وقال : انا اسف ولكن كل شئ حصل بسرعة تربكني ..انا ممتن لك عزيزتي..شكرا لك ..فقالت رابيا : لا تشكرني انا ياجلال بل اشكر الرب على انقاذها ..هيا انتهي من تناول تلك الاشياء وإلا لن اسمح لك برؤيتها. فقال جلال بسرعة : ولكن من المتبرع. فقالت رابيا : لا تصريح لي بإعطائك اي معلومات بهذا الشأن ..ولا تكثر الثرثرة و... أشارت على الطعام ثم اكملت متوعدة : وإلا ... فأطرق جلال بسرعة فرحاً وتركته رابيا على عجل ..فسجد شكراً لله على تلك النعمة وغسل وجهه وتناول افطاره سريعاً ليلحق وعده فلما خرج من مكتب الطبيبة متجهاً اليها رآها مع ذلك الشاب الذي قدم ليلة البارحة ليتبرع بالدم فهل ياترى ذلك الامير هو المتبرع ورأى رابيا تقود الشاب الى غرفة اخرى فلما تبعهم وجد انه يدخل الغرفة ويجلس بالقرب من جودا وعلى الجهة الثانية السيدة ناشدة وكانت جودا شاحبه وتتكلم بصعوبة كما يبدو كلمة او اثنين نطقتهما بإبتسامة واهنة وقد وضع مالك يده على يدها بحنان ثم رفع تلك اليد بهدوء وقبلها فلم تجد جودا القوة والبال لتعترض الان وكانت ملامحها متعبة وصامتة تغمض تارة وتفتح عينها تارة و عينها تتجه وتدور ناحية الباب كل حين وكأنها تنتظر قدوم أحد وهناك مايشغل بالها فلما شاهد جلال ان عينيها تكاد ان تقع عليه من وراء الباب النصف مفتوح ..تنحى جانباً لكي لا تراه وظن ان لها علاقة بهذا الشاب بطريقة ما ..فشعر بالخجل لمقاطعتهما وفضل زيارتها بوقت لاحق ولكن لم يفهم لما شعر بالضيق فجأة وكانه يختنق فخرج من المستشفى ..بينما سألت جودا ناشدة بصعوبة : لما لم يحضر أبي لرؤيتي ياعمة...وأين جدتي هل يعلمان بالحادثة ؟؟ فنظرت ناشدة الى الامير وقد ألجمها الموقف فلا تدري كيف ستخبرها بما حل بعائلتها ..وتبادلت ناشدة النظرات مع الامير وهي لا تدري مايجب ان تقوله ...وانقذها من مأزق الإجابة دخول المفوض ..
القادم / الزواج الاضطراري الذي سيغير مجرى حياة الغجرية وعابد الليل ..انتظرونا
أنت تقرأ
الغجرية وعابد الليل The Gypsy and Anchorite of The Night
Romanceنبذة عن القصة التقاء عالمين مختلفين بين غجرية راقصة وعابد يعشقان ارتياد نسك الليل هي برقص الحسناء وهو يلهج في مناجاة السماء حيث تخطفت تلك العاشقة أقدار غريبة من عقر مملكتها وتحولت من اميرة الى راقصة في ليلة وضحاها وترعرعت بين الغجر لتتلقى مصيرها ال...