تعد العلاقة شديدة الإتصال بين الأدب وعلم النفس. وحسب الأدب أن يكون واضعه، ومتلقيه، ومحرره إنسانًا؛ حتى يغري دارسه بدراسته.
ويقدم علم النفس المفاتيح السحرية لدراسة الأدب تجربة وإبداعًا وتحليلًا، ولقد استخدم المنهج النفسي في دراسة الأدب منذ القديم، ومع أنه بقي غير كاف في توضيح جميع جوانبه إلا أنه يبقى مفيدًا في الكشف عن غوامض وخبايا العمل وصاحبه.
يقول الدكتور محمد مندور في كتابه «في الأدب والنقد»صفحة 188:
«أما علاقة الأدب بالفرد فتدور حول الحاجات الإنسانية التي يمكن أن يشبعها كفن جميل وكأداة للتعبير عند الفرد. وأهم مبحث هو تحليل حاسة الجمال عند البشر والبحث عن أصولها وأهدافها المختلفة والتمييز بين مفارقاتها فهناك الشيء الجميل أو اللطيف أو الجليل ومن حيث أن الأدب تعبير جمالي نفسي فعلى علم الجمال الأدبي أن يقف عند «نظرية انتقال المشاعر» كأن يحب الشاعر مثلاً كلب معشوقته من أجلها.»
وبهذا قيل أنّ قيس ابن الملوح رأى كلب ليلى، فأسرع خلفه حتى يدلّه على مكانها، فمرّ في طريقه بقوم يصلون ولما رجع سألوه: «مررت بنا ولم تصلِّ معنا؟»
قال: «والله ما رأيتكم، ووالله لو تحبون الله كحبي لليلى لما رأيتموني».والشعراء العرب كثيرًا ما كانوا يحبون ديار محبوباتهم لأنها تمثل هذه المحبوبة.
«وما حبّ الديار شغفن قلبي
ولكن حبّ من سكن الديارا»وما وصف الأطلال عند شعراء الجاهلية إلاّ بشخصيات نوعًا من هذه النظرة «انتقال المشاعر»، وإذا كان من اللازم على الدارس أن ينبش الكنوز المختبئة في بواطن الأدب، فإن من المفيد له أن يمعن النظر في عملية الإبداع، وفي المبدع نفسه والقوانين النفسية المتحكّمة بشخصيات العمل الأدبي وبالأدب نفسه، وسنفصّل القول في هذه القضايا.
ففي دراسة عملية الإبداع وآليتها، يمكن لنا أن نشير إلى نظرية الإلهام عند أفلاطون، الذي يعتبر أن المقدرة الإبداعية عند الأديب هي «الحماسة أو الحب» -إيروس-، ويرى أن مصدر هذا الإلهام هو الوحي الإلهي حيث تدفع «ربات الشعر» موضوعات الشاعر له، وعلى هذا فإنه يمكن للآلهة أن تنزع العقل عن الشعراء وتستخدمهم كهانًا، أو سحرة ملهمين.
وتقوم عمليّة الإلهام عنده على تذكرّ الإنسان لما رآه من صور وماهيّات في عالم المثل، الذي كانت تحيا فيه النفس، ومن ثمّ تقليد هذه الصور في عالم المحسوسات؛ مما يجعل الشاعر يحسّ بالجزع والحزن الذي يعقبه شعور بالحماسة يدفع الشعر على شكل أغانٍ.
وأكثر الشعراء مدانون بأشعارهم الجميلة للحماسة، ولنوع من الغييبوبة لا للفن، وهم يشبهون على حد قول أفلاطون كهّان الآلهة «سيبلي»، الذين لا يرقصون إِلا إِذا خرجوا عن شعورهم، وهذه الحالة تشبه حالة الوجد والشوق عند بعض فرق الصوفية في بلادنا، والتي ترقص إِذا هي تحدثت بالغيب وتجاوزت الوجود، وقد اتبع أصحاب المذهب الرومانسي طريق أفلاطون، وترسّم خطاه وصبغوه بلون من التصّوف، فعند «فيكتور هيغو» الشاعر ساحر يسمع ويردّد ما يتلقاه من عالم الغيب، بينما يرى «شيلي» أن الشاعر ينقل للناس رسالة من عند الله.
لقد كانت نظرة الرومانسيين الأوروبيين للإِلهام تلتقي مع نظرتهم للطبيعة فكلاهما هبة من الله.
ويعتبر الإمام أبو حامد الغزالي أن الإلهام كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صافٍ لطيفٍ فارغ.
بينما يرى محي الدين بن عربي أن الإلهَام ظاهرة ممكنة الحدوث لأيّ إنسان بشروطٍ هي:
- إيمان هذا الإنسان بقدرة القوة الخارقة «الله».
- كون الإنسان صافي الذهن.
- استعداده لإدراك لطائف المعرفة.
ولكنه أي «ابن عربيّ» كأفلاطون يرى أن الإلهام فيض يتلقاه الإنسان من خارج الذّات.
ويعد ابن سينا الإلهام حدسًا، أو إِشراقًا يتحصل في النفس، فتدرك الموجودات والمعقولات بما تستفيده من العقل الفعال، وقد يكون الإلهام رؤيا بينما يكون الحدس متفاوتًا بين الناس، ولا يمكن التوصل للعقل الفعال إِلا بالاتصال بالله وملائكته، وقد اعتبر ابن سينا الإلهام طريقة لتحصيل المعرفة من العقل الفعّال وترى الاتجاهات الحديثة وعلى رأسها «ووردزوورث»، أن الشعر تعبير عن انفعال مستعاد بهدوء تظهر فيه غريزة إِظهار النفس «حبّ الظهور»، وهذه الغريزة الاجتماعية ناجمة عن الرغبة في التعاطف، والتلذذ بإِنشاء شيء جديد.
الشاعر كالطفل ينشئ لينفّسَ عن وجدانه الزائد. وهو أي الإلهام تألق وانجذب عند «دي لاكروا» و«فيليكس»، بينما يرى «ديكارت وبرغسون واوستن وارين» أن الإلهام عملية تأمّل لا شعوري ينتهي بالحدس.
دمتم بود.
هذا المقال من كتابة «حلم». ❤
أنت تقرأ
تمرّد مقالات
Randomتمرّدت أقلام أعضاء فريق النقد، وأعلن كل فرد ثورةً لأجل أن يكتب ما يُمليه عقله الناقد، من مقالاتٍ جدليّة فلسفية تناقش الأدباء بالمنطق والمعرفة. نقدم لكم هنا مجموعة مقالات متفرقة كل واحد منها يتناول موضوعًا شيقًا في مضمار الكتابة الأدبية.