في هذا العصر فقد الشعر جماله ورونقه ولم يعد له أهميةٍ كما كان في الماضي، فقد تغيرت الأحوال وأصبح من الصعب أن يجمع الشخص الصعب من الألفاظ والمعقد كما وجد قبلًا، وأن يتحدث عن الموضوعاتِ التي تهم المجتمعات منظومةً كشعر، فقد انتهى عصر التغني بالشجاعة والقوة، ولم يعد هناك من يبكي على الأطلال، وبسبب هذه العوامل والتغير الذي حدث للمجتمعات البشرية على مر العصور، ظهر أدب المهجر ليضع أُسُسًا يستطيع فيها الشاعر مواكبة هذه التغيرات الكبيرة بعيدًا عن الابتذال.
أدبُ المهجر هو نوعٌ حديثٌ من الأدبِ ظهر في أواخر القرن التاسع عشر نتيجةً لهجرة الشعراء العرب من مواطنهم إلى الدول الأجنبية مثل أوروبا، أمريكا والبرازيل نظرًا للظروف السيئة فيها، ومن أشهر شعرائه إيليا أبو ماضي، وجبران خليل جبران.
في بدايات ظهور مدرسة شعراء المهجر كانوا يدعون إلى الثورة ضد الأوضاع في العالم العربي وتحري الحق والحرية، وكانوا يتغنون باشتياقهم لأوطانهم، كما امتازت مدرسة المهجر ببساطة الألفاظ وسهولتها حيث خلقوا لأنفسهم أسلوبًا جديدًا؛ لرغبتهم في التخلص من القيود الشعرية، فكانوا يبتعدون عن الألفاظ الصعبة، ويركزون على المعاني التي يريدون إيصالها، وهذا ما جعل أشعارهم تدلف لقلوب الكثيرين وتصل معانيها إليهم، فعندما تمتزج روح الشاعر العربي في مجتمع الغربة وأفكاره ينتج هذا المزيج الفريد من نوعه.
انقسمت مدرسة المهجر إلى قسمين أساسيين هما أدباء المهجر الشمالي وأدباء المهجر الجنوبي، ويشار بالاسم الأول إلى الأدباء الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإلى مناطق أخرى من أمريكا الشمالية مثل نعمة الله الحاج وأمين الريحاني، ومن ضمن هؤلاء ظهر ما يسمى بالرابطة القلمية، والتي أسسها جبران خليل جبران ومجموعة من رفاقه حيث ظهرت بوادرها عام 1916 لأنهم ارتَأَوا أن يكون لأدباء المهجر رابطة تجمعهم وتوحد مساعيهم في سبيل اللغة العربية إلا أنها تأسست رسميًا عام 1920 في نيويورك، وتفككت عام 1931 بعد موت جبران خليل.
أما النوع الثاني فهم من هاجروا إلى أمريكا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين والمكسيك وفنزويلا، وأسس هناك الشاعر اللبناني ميشال معلوف العصبة الأندلسية ودعمها بكل طاقته، ولكن فكرة إنشائها بالأساس كانت لشكرالله الجر، وقد كان هدف هذه العصبة إعادة مجد الشعر العربي في ما وراء البحر، وكانت كتابتهم متأثرة بالموشحات الأندلسية من حيث موسيقاها وعذوبتها، ومن أشهر أعضائها: شفيق معلوف، وإلياس فرحات، وعقل الجر وغيرهم الكثير، وظهر بعد هؤلاء روابط أخرى مثل رابطة منيرفا والرابطة الأدبية، لكن لم يكن لهما الكثير من التأثير على الأدب المهجري.
كان لأدب المهجر خصائص معينة سواء موضوعية أو فنية على اختلاف قسميها ومن الخصائص الفنية، حِرص أتباعها على سهولة اللفظ كما أسلفت سابقًا، لكن العصبة الأندلسية كانت أكثر تمسكًا بالألفاظ الفصيحة والقوافي من الأخرى، نظرًا لأن بيئة أمريكا الجنوبية أكثر تحفظًا من الشمالية حيث إن الشعراء الشماليين كانوا يميلون للتجدد في الألفاظ والأساليب، وتركوا اللهجة الخطابية، واختاروا أسلوبًا سماه الدكتور مندور (الشعر المهموس).
ومن أهم ما دعوا إليه هو وحدة الموضوع، حيث اشتملت دواوينهم على مضمون واحد مرتبط بعنوانه، وقد أخذوا هذا الأمر من الشعر الغربي.
وكانوا يستعينون بالصور البيانية بكثرة لأنهم كانوا يرون بأنها تجمل المعنى وتجعله سلسًا ومبهجًا على أذن المتلقي.
كما كانوا يعتادون على القصة في قصائدهم، فكانت تزخر بالشخصيات التي تتحاور وتتصارع لتوصل المطلوب.أما أهم الخصائص الموضوعية هو التحدث عن الشوق والحنين للوطن وألم الغربة والتحدث مع الطبيعة ومحاورتها وبث مشاعرهم فيها سواء من حزن وفرح والخوف.
كما تحدثت العديد من قصائدهم عن النفس البشرية، ومحاولة فك غموضها ومكنوناتها والتحرر من جميع القيود الإنسانية، وظهر هذا في أدب المهجر الشمالي أكثر من الجنوبي، واشتركت قصائدهم في النزعة الإنسانية حيث دعوا إلى تقبل جميع البشر وحبهم.وقد كان هؤلاء الشعراء يقدسون الشعر، فقد قال جبران خليل جبران عن الشعر:
«الشّعر روح مقدّسة متجسّمة من ابتسامة تُحيي القلوب، أوتنهدّة تَسرق العينَ مدامعُها. أشباحٌ مَسكنُها النّفسُ وغِذاؤُها القلب ومَشربُها العواطف.»ويقول ميخائيل نعيمة: «هو غلبة النّور على الظّلمة، والحقّ على الباطل، هو ترنيمة البلبل ونَوح الوُرق وخرير الجداول وقصف الرعد.»
وعبّاس محمود العقّاد: «القصيدة الشّعريّة كالجسم الحيّ يقوم كلّ قسم منها مقام جهاز من أجهزة، ولا يُغني عنه غيرُه في موضعه إلاّ كما تُغني الأُذُن عن العين.»
ترك جميع هؤلاء الشعراء العِظام أثرًا لا يُمحى من تاريخ تنظيم الشعر حيث لا زال للآن يوجد الكثير من أتباع مدرسة المهجر، لكن ومع ظهور مشاغل الحياة والمُلهيات ما عاد أحد يلتفت لهذه المواهب العظيمة، لهذا أرى بأنه يجب علينا إعادة مجد الشعر العربي كما فعل هؤلاء في الماضي.
------------------------------------------------
المقال من كتابة أثينا 🔱
أنت تقرأ
تمرّد مقالات
Randomتمرّدت أقلام أعضاء فريق النقد، وأعلن كل فرد ثورةً لأجل أن يكتب ما يُمليه عقله الناقد، من مقالاتٍ جدليّة فلسفية تناقش الأدباء بالمنطق والمعرفة. نقدم لكم هنا مجموعة مقالات متفرقة كل واحد منها يتناول موضوعًا شيقًا في مضمار الكتابة الأدبية.