Part 9: شرق وغرب

561 55 25
                                    

الفصل التاسع: شرق وغرب

اطفأ سيجارته, وانهى شرب اخر رشفة لشراب فرنسي فاخر, بشعره الطويل الذي يغطي تقاسيم وجهه ومخفيا ندبة حفرت على حاجبه الايمن, بمعطفه الاسود وحذاءه الحربي الطراز, جالسا على طاولة طويلة لأحد الحانات المتبقية على قيد العمل في مدينة باريس, التي بدت كعاشقة مزقوا ثيابها, في تلك الليلة الصامتة بعد ضجيج دام سنوات من كابوس الحرب, فقد مضى خمسة اشهر على نهاية الحرب العالمية, فعاد قلب فرنسا للنبض وكذا باقي الشعوب نهضت كأجساد ممزقة تاركة مستنقع الحرب لتبدأ ميلاد جديد.

ناظرا الى الساقي وطالبا منه كأس اخر, دخل شخص يبدو الموت هاربا منه, يرتدي معطفا جلديا لامعا اسود اللون, بقبعة تغطي راسه, كجسد هائم في لحظات ليست لزمانه, اتجه صوب الساقي يعرج قليلا وممسكا ذراعه اليسرى, لو نظر اليه احد لعلم انه هرب من بوابة الجحيم الحديدية.

جلس بجانب صاحب الشعر الطويل, ولم ينطق بكلمة واضعا يديه على الطاولة وجاعلا اصابعه متداخلة فيما بينها, بعد زمن صمت نظر اليه ذو الشعر الطويل نظرة علم بها انه لا يجيد اللغة الفرنسية, فطلب من الساقي ان يعطيه كاسا من النبيذ على حسابه من نفس النوع الذي يحتسيه.

احضر الساقي الكأس لذو القبعة الكبيرة فنظر اليه نظرة ذئب جائع في وسط غابة مثلجة, شرب الكأس برشفة واحدة ثم طلب المزيد, فحرك راسه ذو الشعر موحي للساقي بان يلبي طلبه.

ذو الشعر متحدثا باللغة الانكليزية: "انه نبيذ فاخر من عام 1913 , اشرب قدر ما تشاء على حسابي".

نظر اليه بغضب ذو القبعة ثم أومأ براسه مشيرا انه سيفعل ذلك ولن يشكره لفعلته, بعد ساعة من صمت وشرب, دقت الساعة مخبرة ان الوقت هو منتصف الليل, دفع الحساب ذو الشعر وخرج من الحانة واشار بيده مودعا ذو القبعة.

تمشى في شارع باريس الطويل امام برج ايفيل والاجواء باردة جاعلة انفاسه تخرج كدخان مدفئة, فسحب اجزاء معطفه ليلفها حول جسده وادخل يديه في جيوبه, واستمر بالسير سرحانا في عوالم خياله, سقطت عيناه على زهرة فائقة الجمال قد خرجت من شقوق جدران احد الحدائق التي كانت على جانب الشارع الطويل, تقدم اليها وشم رائحتها العبقة, احتار لأمرها, كيف تمكنت من التفتح وساقها في الجانب الاخر من الجدار فقد شقت طريقها بين تشققات الحائط وازدهرت.

في تلك الليلة وفي برلين تحديدا, المدينة التي نهضت من الهلاك كفتاة خرجت من صحراء النسيان ولم يبقى فيها شيء متماسك, والناس يعملون ليلا ونهارا يزيلون الانقاض المتراكمة, وينظفون الشوارع والابنية, فمنذ ان اعلنت برلين استسلامها وانهارت الامبراطورية الألمانية, نهض سكانها او من تبقوا على قيد الحياة, ليعمروا ارضهم ويستعيدوا احلامهم الضائعة اذ لم يمنعهم خراب وطنهم او دمار احلامهم من التوقف بل انهم بدأوا من الصفر في سبيل احياء جسد لم يبق منه الا رماد وفتات.

جليدية المشاعرحيث تعيش القصص. اكتشف الآن