النهاردة هنحكي أسطورتين مختلفتين بس مرتبطين ببعض بشكل كبير.. أعتقد يعني.
الأسطورة الأولى هي قصة إيوس وتيثونس Eos and Tithonus والتانية هي قصة سيلين وإندميون Selene and Endymion...
الأسطورة الأولى بتتكلم عن إلهة الفجر عند الإغريق إيوس اللي وقعت في حب شاب بشري فانٍ اسمه تيثونس. من كتر حبها في تيثونس طلبت من زيوس إنه يوهبه الخلود علشان يقدر يعيش معها للأبد، وفعلاً زيوس حقق لها رغبتها وتيثونس بقى خالد (بيتمتع بالخلود مش بقى اسمه خالد!) على الرغم من احتفاظه بالصفات البشرية. إيوس وتيثونس عاشوا مع بعض في سعادة سنين طويلة لحد ما إيوس لاحظت إن وش حبيبها بدأ يظهر فيه تجاعيد وشعره يبقى أبيض وصحته تتدهور.. من الأخر بدأ يعجّز. إيوس جريت على زيوس وقالت له أنت مش وهبت لتيثونس الخلود؟ ليه بيكبر في السن وبيعجّز؟ زيوس قال لها أنتي طلبتي مني الحياة الأبدية مش الشباب الأبدي، ثانيًا تيثونس إنسان مش إله فلازم جسمه يضعف حتى لو هيعيش للأبد. إيوس طبعًا مابقتش عارفة تعمل إيه وهي شايفة حبيبها وهو بيتحول لشوية جلد على عضم ومش قادر يشيل نفسه حتى في حين إنها هتفضل صغيرة وجميلة للأبد وبتبهر الناس بنورها كل يوم الفجر.. قمة البؤس وكسرة القلب.
الأسطورة التانية بقى عن سيلين إلهة القمر – وأخت إيوس – اللي برضه وقعت في حب شاب بشري اسمه إندميون. بعض الروايات بتقول إن إندميون ده كان راعي غنم وروايات تانية بتقول إنه كان أمير وحاكم مدينة. المهم إن إندميون كان وسيم جدًا وكان بيحب ينام في العراء كده على ضوء القمر كل ليلة، فمين بقى اللي كانت بتشوفه كل ليلة وبتنبهر بجماله؟ بالظبط، سيلين. سيلين اتعلمت من اللي حصل لأختها فراحت لزيوس وطلبت منه طلب غريب جدًا.. طلبت منه إنه يدخّل إندميون في نوم أبدي وكأن الزمن توقف بالنسبة له فمش هيكبر أبدًا (حاجة زي أهل الكهف كده). زيوس حقق لها رغبتها وفعلاً سيلين بقت تنزل كل يوم الأرض تتأمل – نمشيها تتأمل – وسامة إندميون وهو نايم ويُقال إنها خلفت منه أولاد كتير وحاجة أخر نيكروفيليا خالص، لحد ما زهقت منه وراحت حبت حد تاني.
طيب إيه علاقة الأسطورتين دول ببعض؟ الأسطورتين بيتناولوا فكرة الخلود مقابل الفناء ورغبتنا في امتلاك الأشخاص أو الأشياء اللي بنحبها للأبد، بس طبعًا طبيعة الإنسان – والكون ككل – الفانية بتحول دون تحقيق الرغبة دي. إيوس حاولت تعمل ده وتهب الخلود للشخص اللي بتحبه ولكنه ابتدأ يذوى منها ويفقد جماله وشخصيته وعقله كأنه تحول لكائن مختلف تمامًا. أما سيلين فحاولت تحتفظ بالشخص اللي بتحبه، أو بمعنى أدق جسد\صورة الشخص اللي بتحبه، في مقابل التضحية بحياته نفسها.
الإنسان بيستميت على الاحتفاظ بالأشياء اللي بيحبها للأبد غير مدرك إن ناموس الكون التحول وطبيعة الأشياء التبدل والفناء وإنه لا يملك غير خيارين: الاستمتاع اللحظي بالشيء\بالشخص مع تقبل فكرة الفقد عند زواله أو تحوله (إيوس وتيثونس)، أو الاحتفاظ بصورة الشيء\الشخص مع تقبل فكرة التضحية بجوهره (سيلين وإندميون).
تخيلوا كده إنكم بتحبوا حد جدًا وخيروكم بين حاجتين: تفضلوا عايشين مع الشخص ده سنة ولا اتنين مثلاً وبعد كده هيموت أو شخصيته هتتحول بشكل جذري، ولا تحتفظوا بهولوجرام – مجسم ضوئي – للشخص ده بصورته وشخصيته اللي حبتوه عليها والمجسم هيفضل محتفظ بالصورة دي للأبد؟ هتختاروا الحياة اللحظية الفانية ولا الجمال الأبدي المفتقر للحياة؟
وأنا بكتب موضوع النهاردة افتكرت قصيدة غنائية لجون كيتس John Keats كنت درستها في سحيق الزمان كده اسمها "جرة إغريقية" أو . في القصيدة دي، كيتس، شاعر الحقبة الرومانسية الشهير، قاعد في متحف قدام جرة – زلعة – قديمة عليها زخارف ورسومات إغريقية وبيتأملها. القصيدة قصيرة ولكن عبقريتها تكمن في إنها قدرت تصور المعضلة اللي أتكلمنا عليها فوق دي من خلال علاقة الفن بالواقع. كيتس قاعد يوصف لنا النباتات والأشخاص المرسومين على الجرة وإزاي إنهم هيفضلوا محتفظين بجمالهم وشبابهم للأبد لأن الجرة خلدتهم.. فالشاب اللي مرسوم وهو قاعد يعزف الموسيقى لحبيبته هيفضل في اللحظة الجميلة دي للأبد وهي هتفضل تحبه والشجرة هتفضل مضللة عليهم، مفيش حاجة هتتغير.. سعادة أبدية، في حين إن الشاب ده في الحقيقة مات من زمان وحبيبته اتحرقت أو خانته مع البواب.. سعادة فانية انتهت بانتهاء اللحظة. من خلال القصيدة، كيتس بيقول لنا إن على الرغم من قدرة الفن على الاحتفاظ بالحب\الجمال\الكمال للأبد على عكس الواقع اللي دايمًا بيبدل ويغير يسرق، إلا إن العمل الفني مهما بلغ من الجمال هيفضل مفتقر لجوهر الحياة نفسها اللي بيقدمها لنا الواقع.
الموضوع بالنسبة لي مش مقتصر بس على الطبيعة الإنسانية الفانية وعلاقة الفن بالواقع وإنما على علاقة الخيال بالواقع. بما إني من الأشخاص اللي بيفضّلوا يعيشوا في خيالهم على مواجهة الواقع بتحولاته وإحباطاته المتكررة، فبخلق صورة جميلة في خيالي للأشخاص والأشياء اللي بحبها وبتفضل معايا زي ما هي طول ما أنا عايزاها. المشكلة إن مع العودة للواقع كل مرة بدرك إني كنت مع جسم إندميون الهامد مش إندميون نفسه، وإني لو عايزة أبقى مع إندميون فعلاً لازم أتقبل إنه ممكن يتغير أو يذوى أو يكون مصدر للإحباط زي تيثونس.
كيتس في نهاية القصيدة بيقول لنا عبارة شهيرة جدًا على لسان الزلعة.. "Beauty is truth, truth beauty" أو "الجمال هو الحقيقة، والحقيقة هي الجمال" وأعتقد إن كيتس هنا يقصد إن المعضلة دي حلها في تقبل الإنسان لفكرة إن الخيال\الفن والحقيقة\الواقع وجهين لعملة واحدة وإننا ماينفعش نعيش بواحد من غير التاني. الفن أو الخيال بيدينا القدرة على تحمل الطبيعة الزائلة والمحبطة للواقع، والواقع اللحظي الزائل بيمد الخيال أو الفن بالصورة الجميلة اللي بيحتفظ بيها رغم مرور الزمن.
مشكلة إيوس إنها كانت عايزة تعيش في سعادة الواقع اللحظية المفعمة بالحياة للأبد، ومشكلة سيلين إنها كانت عايزة تعيش في عالم الخيال الجميل الجامد للأبد.. والنتيجة إن الأولى فقدت الجمال والتانية فقدت الحياة.
شئنا أم أبينا لازم نفهم إن جوهر سعادتنا كجنس بشري يكمن في التبدل والفناء.
دمتم في حياة وجمال..
BẠN ĐANG ĐỌC
حواديت قبل النوم
Tiểu thuyết Lịch sửتأملات بالعامية المصرية في الأساطير والفن والفلسفة وعلم النفس... من الحلة إليك