النهاردة هنتكلم عن أسطورة إغريقية مُقبضة ومرعبة شوية بتُستخدم كثيرًا في المناقشات الفلسفية.. هنتكلم عن ايرسيكثون Erysichthon ونهايته المأسوية.
ايرسيكثون كان ملك ثيساليا Thessaly وكان معروف عنه الجشع لدرجة أنه في يوم قرر يقطع الأشجار في بستان الربّة ديميتر Demeter ربّة الزراعة والخصوبة علشان يبني لنفسه قاعة ليستقبل فيها الضيوف ويقيم فيها المآدب (جمعة مأدبة). كتير حذروا ايرسيكثون من قراره بقطع الأشجار في البستان المقدس، لدرجة أن ديميتر بنفسها اتنكرت في صورة بشرية وراحت بدورها تحاول تثني ايرسيكثون عن قراره بس للأسف الملك ركب دماغه ومسك الفأس بنفسه وقعد يقطع في الأشجار.
ديميتر قررت تنتقم من ايرسيكثون بأنها تلعنه بإحساس بالجوع لا يُمكن إشباعه عقابًا على جشعه واستخفافه بالآلهة. ايرسيكثون بقى يأكل ويأكل ويأكل بس مفيش أي حاجة كانت بتشعره بالشبع لدرجة أنه صرف كل ثروته وباع كل ممتلكاته علشان يشتري بيها أكل، وبرضه إحساسه بالجوع فضل مسيطر عليه. ايرسيكثون لما مابقاش معاه حاجة يبيعها علشان يشتري بيها أكل باع بنته للتجار كخادمة، لكن بنته دعت الآلهة تنقذها من جنون أبيها ومن مصيرها الأسود وبالفعل استجابوا لها وأدوها القدرة على تغيير شكلها وبالتالي الهرب من التاجر اللي اشتراها. ايرسيكثون لما أكتشف قدرة بنته الخارقة دي بقى يبيعها أكتر من مرة (يبيعها كإنسانة ترجع له سمكة، يبيعها كسمكة ترجع له إنسانة).. أب رمّة ما شاء الله.
ايرسيكثون فقد فلوسه وممتلكاته وأهله وبقى فقير ماشي يشحت الأكل من الناس، وبرضه ماكانش بيشبع! في النهاية، لما الجوع تملك منه، ايرسيكثون بدأ يقطع من لحم جسمه ويأكل.. قطعة ورا قطعة لحد ما مات.
¡Ay! Esta imagen no sigue nuestras pautas de contenido. Para continuar la publicación, intente quitarla o subir otra.
القراءة السطحية للأسطورة بتشير لدرس مستفاد واضح جدًا وهو أن الجشع والطمع نهايتهم وحشة وكِخ يا ولاد ماتعملوش كده، بس عقاب ايرسيكثون مختلف عن أي عقاب أسطوري تاني في بشاعته ورمزيته. مؤخرًا، مثلاً، الأسطورة ابتدت تُقرأ من منظور بيئي وأن جور الإنسان على الأرض ومواردها (غابة ديميتر المقدسة) نهايته كارثية على الإنسان نفسه اللي نقص الموارد هيؤدي بيه لنوع من الإبادة الجماعية لجنسه البشري.
بس بعيدًا عن التفسير الأخلاقي والبيئي، فيه تفسير فلسفي تالت بيعبر أكتر عن طبيعة النفس البشرية ونزوعها للتدمير (اللي ممكن يتشاف كنوع من التعمير برضه) لضمان الإستمرارية. وبالتدمير هنا مش قصدي إنه ماسك رشاش وماشي يقتل اللي حواليه، لكن لو فكرنا كده هنلاقي أن فكرة الوجود نفسها في أكثر صورها المجردة هي فكرة استهلاكية من الناحية المادية والإجتماعية والنفسية والمعرفية. من ساعة ما الإنسان أتوجد على الأرض وهو بيستهلك في أفكار وبيستهلك من حوله في علاقات وبيستهلك خلايا جسمه ذات نفسه وبيستهلك طاقته النفسية.. إلخ. قد تكون أسطورة ايرسيكثون إشارة\نبوءة بأن الإنسان هيجي عليه وقت نزعته الإستهلاكية المزمنة دي هتسيطر عليه لدرجة أنه هيسعى لإبادة الذات سواء بشكل واعي أو غير واعي.
عالم الإجتماع الألماني الشهير ماكس فيبر Max Weber كلمنا عن تأثير "القفص الحديدي" على الإنسان، فيبر ساعتها كان يقصد تأثير البيروقراطية والعقلانية على الإنسان واللي بسببهم الإنسان بيفقد تفرده وقدرته على الخيال وإنه في النهاية هيبقى آلة تستهلك نفسها تدريجيًا. ممكن جدًا ناخد كلام فيبر ده ونشيل "البيروقراطية" ونحط "التكنولوجيا" أو الحياة الحديثة في المجمل اللي في ظاهرها بتنادي بالتفرد ولكن في واقعها بتحبسنا في قفص حديدي وبتحولنا لآلات تستهلك نفسها ماديًا ونفسيًا وعاطفيًا أكتر من أي شيء آخر. في كتابه "فن الموت" The Art of Dying، روبرت نييل Robert Neale بيقول إن الإنسان دلوقتي بقى عايش في حالة مستمرة من القلق المزمن بيعاني منه بسبب توقعه الدائم للدمار\الانهيار، وده بيخليه يلجأ لتدمير الذات علشان يتخلص من حالة الخوف المستمرة دي. واستخدم مقولة ألمانية شهيرة بتقول "نهاية مفزعة أفضل من فزع بلا نهاية".. قد يكون ايرسيكثون فضّل النهاية المروعة دي علشان يضع حد لجشعه المزمن اللي أدى بيه لخسارة كل ما يملك وكل من يحب.. حالة لا تنتهي من الخسارة والدمار والفزع.
دايمًا بتصور أن نهاية الجنس البشري مش هتكون بسبب عوامل خارجية كارثية زي ما الأفلام بتصور لنا (نيزك، بركان، كائنات فضائية.. إلخ) وإنما هتكون بطيئة ومؤلمة وذاتية، الجنس البشري هيستهلك نفسه جسديًا ونفسيًا ومعرفيًا وهنفضى ونقع زي البلالين بعد ما أفرغت ما فيها من هواء.
فيه قراءة تانية بقى للأسطورة – مبهجة شوية عن اللي فاتت – بتقول إن التهام ايرسيكثون لنفسه هو إشارة للتجدد والاستمرارية اللي بيعتبروا من الصفات المميزة للجنس البشري والحياة ككل. فاكرين لما أتكلمنا عن في الحضارات القديمة؟ وقولنا إن صورة الثعبان اللي بيأكل ديله استخدمت للإشارة لفكرة الأبدية وأن التعمير محتاج للدمار والحياة بتحتاج للموت والكلام ده؟ قد يكون أكل ايرسيكثون لنفسه صورة أكثر بشاعة لفكرة ثعبان الأوروبورس.
¡Ay! Esta imagen no sigue nuestras pautas de contenido. Para continuar la publicación, intente quitarla o subir otra.
ايرسيكثون آه مات في الأخر بس جوعه المستمر هو اللي دفع الناس اللي حواليه يتفكروا في تصرفاته وهو اللي أدى ببنته أنها تكتسب قدرات خارقة وهو اللي ساعد شعبه يفهموا قدرة الآلهة وعلاقتهم بيهم كبشر. قد يكون نهمنا للمعرفة الذي لا يُشبع هو سبب دمارنا بس هو برضه بالتأكيد سبب في استمرارنا وتطور وعينا وتطور علاقتنا بالعالم من حوالينا.
بروميثيوس تحدى الآلهة وسرق النار ليساعدنا، ولكن من قال إن النار تكفينا؟