النهاردة هنتكلم عن شخصية نادرًا ما بيتم ذكرها في الأساطير الإغريقية لكنها من الشخصيات اللي بحب أتوقف عندها كل ما بتيجي سيرتها: ميتيس Metis ربة الحكمة والفكر والزوجة الأولى للمخفي على عينه زيوس.
ميتيس ما كانتش إلهة زي بقية آلهة الأوليمب لأنها كانت من العمالقة Titans. ولو تفتكروا في أتكلمنا عن الإله الأول أورانوس وإنه حبس أولاده، اللي كان منهم العمالقة، في باطن الأرض وبعد كده ابنه كرونوس ثار عليه وأخصاه وحرر أخواته، وإن كرونوس هو كمان ابتدى يأكل أولاده لأنه خاف إنهم يعملوا فيه زي ما هو عمل في باباه أورانوس.
طيب إحنا مالنا ومال العيلة الزبالة دي؟
كرونوس هو أبو زيوس، وزيوس هو الوحيد اللي كرونوس ما أكلهوش علشان مراته خدعته وسربت الولد منه.. المهم زيوس كبر وفعلاً أنتقم من كرونوس وبقى هو كبير الآلهة وأجبره كمان أنه يرجّع أخواته اللي بلعهم قبل كده، وعمل ده بمساعدة ميتيس – تبقى خالة وعمة زيوس في نفس ذات الوقت – اللي أدته حاجة يشرّبها لكرونوس علشان يخرّج أخواته من بطنه.
طبعًا زيوس وقع في حب ميتيس وبقت هي زوجته الأولى، بس المشكلة إنه بعد كده سمع نبوءة بتقول إن ميتيس هتخلف منه بنت وبعد كده ولد، الولد ده هيثور عليه زي ما هو ثار على كرونوس وزي ما كرونوس ثار على أورانوس. فيعمل إيه بقى؟ بالظبط. بلعها! ويُقال إنها كانت بتحاول تهرب منه فاتحولت لدبانة (كان عندها القدرة على تغيير شكلها) فراح هو بلع الدبانة. اللي مايعرفهوش زيوس بقى إنه لما بلع ميتيس هي كانت فعلاً حامل، ولما وجدت نفسها حبيسة داخل بطن زيوس قالت مابدهاش بقى وقعدت تسلي نفسها بأنها تعمل خوذة للبنت اللي في بطنها (قاعدة في منتجع مش في بطن واحد!). المشكلة أن الدقدقة اللي كانت بتدقدقها سببت لزيوس صداع وآلام مبرحة لفترة طويلة. زيوس، كأي مريض بالصداع عادي خالص، راح جاب هيفيستوس Hephaestus إله النار والحدادة وقاله شقلي رأسي نصين يابني بفاس يمكن الصداع يروح.. وفعلاً لما هيفيستوس شق رأس زيوس نصين خرجت منها فتاة غاية في الجمال لابسة درع الحرب: الفتاة دي هي أثينا Athena ابنة زيوس وميتيس وإلهة الحكمة والحرب.
شخصية ميتيس على الرغم من صغر دورها في الأسطورة إلا أن الدور اللي بتلعبه كبير جدًا. كلمة "ميتيس" باليونانية تعني الحكمة والخبرة والدهاء، ومن الحاجات اللي شدت زيوس ليها حكمتها ومهارتها. المثير في الموضوع بقى أن لما زيوس شعر بالتهديد من ناحيتها بسبب النبوءة تخلص منها عن طريق بلعها في حين أنه كان ممكن ينفيها لباطن الأرض ولا يحولها لخنفسة ولا يولع فيها حتى، لكنه أختار إنه يبلعها.
تيمة البلع مهمة جدًا في الأساطير الإغريقية.. إحنا قولنا قبل كده إن كرونوس كان بيبلع أطفاله الرضع علشان مايكبروش ويثوروا عليه. وعلى الرغم من بشاعة الموضوع إلا أن البلع هنا ممكن يكون الدافع بتاعه هو الحب، كرونوس حس بالتهديد من ناحية أولاده فبدل ما يموتهم بلعهم كرمز للاحتواء والتملك الأبدي. وده تقريبًا اللي حصل مع زيوس وميتيس.. زيوس حس بالتهديد من ناحية حاجة بيحبها جدًا فقرر إنه يتملكها للأبد، وبالتالي ينهي وجودها مع الاحتفاظ بكيانها وحكمتها داخله. الأسطورة بتقول إن زيوس بعد ما بلع ميتيس كان بيقول لكل اللي حواليه إنها لسه عايشة جوه بطنه وإنه كمان بيستشيرها في القرارات اللي بياخدها!
الموضوع قد يبدو مضحك بس بعد ما قريت الأسطورة ابتديت أربط بينها وبين التعبير الشهير gut feeling اللي بيشير للشعور اللي بنحس بيه تجاه الأشخاص والمواقف والقرارات وبنقول إن مصدره البطن\المعدة واللي غالبًا بيكون صح. مش يمكن الgut feeling ده هو صوت ميتيس، ربة الحكمة، جوه كل واحد فينا؟
الكلام ده ممكن نلاقي له أصول في علم النفس. حبيب قلبي يونج Jung كان شايف إن اللاوعي هو مجموع الخبرات والمواقف والمشاعر اللي بيفشل الوعي في استيعابها ولكن وجودها ضروري من أجل تحقيق توازن الإيجو Ego والوصول لل Self Archetype اللي اتكلمنا عليه . ميتيس هي اللاوعي اللي مدفون داخل طبقات من الوعي – زيوس – واللي وجودها ضروري لأنها، على الرغم من التهديد اللي بتمثله لزيوس، بتمده بالحكمة والفكر (أعتقد إنها كانت الربع اليتيم العاقل في دماغ زيوس). والقراءة دي بتغير نظرتنا للاوعي على إنه حاجة ضرورية لتحقيق توازنا النفسي بدل ما نفكر فيه على إنه مكان مرعب بندفس فيه كل الذكريات والمشاعر اللي بنكرهها. وعلشان كده غالبًا ال gut feeling ده بيبقى خبرة مسبقة أتعرضنا لها ودفسنها دفسًا جوانا ولكنها بترجع بالصورة دي علشان تقدم لنا ما يشبه التبصر بخصوص الحاجة اللي بنتعرض لها في الوقت الحالي في شكل شعور مجهول المصدر.
قصة زيوس وميتيس أحيانًا بتوجعلي قلبي لأسباب شخصية لأني بشوف فيها التجسيد لأي شغف اعتراني (حلوة اعتراني دي؟) وقررت أنهيه بأيدي. دايمًا بشوف ميتيس على إنها الشغف، شغفنا بالأشخاص والأشياء، اللي بيتملكنا لدرجة الشعور بالتهديد من ناحيته.. بنبقى موقنين إننا لو مشينا مع الشغف ده للأخر هتكون نهايتنا.. وده بالظبط اللي خوّف زيوس من ميتيس. خلينا فاكرين أن من معاني اسم ميتيس الدهاء وإنها كانت بتغير شكلها، ودي من الصفات اللي بيتميز بيها الشغف.. كونه دحلاب دحلاب كده وبيدخل لنا من مناطق الضعف وبأكتر من صورة.
فبنتخلص من الشغف ده إزاي؟ بنبلعه جوانا متخيلين إننا ناهيناه.. بنخفيه ونخفي وجوده عن نفسنا وعن اللي حوالينا بس ده مش بيمنع إنه بيفضل عايش جوانا وبيسبب لنا آلام شديدة زي الآلام اللي كان بيعاني منها زيوس، الفرق الوحيد إن بلع ميتيس كان مسبب لزيوس آلام في دماغه في حين أن وأد الشغف بيسبب لنا آلام مبرحة في قلوبنا.
فيه منا بيقدر يحول الألم ده لطاقة إبداعية زي الفنانين، وده اللي بيمثله خروج أثينا من رأس زيوس، بس ده مايمنعش إن ميتيس هتفضل عايشة جواهم وصوتها أعلى من صوت أي حاجة حواليهم. وغالبًا الواحد مننا مابيقابلش ميتيس غير مرة واحدة بس في حياته.. شغف بشخص أو بشيء بيعصف بحياته وبيقلبها رأسًا على عقب وبيبقى قدامه حل من اتنين: يسلم نفسه للشغف ده تمامًا أو يقرر إنه يدفنه جواه ويتحمل وجوده العملاق المكتوم، الحل الأول موت سريع والثاني موت بطيء.
ممكن يكون زيوس قدر يتصالح مع وجود ميتيس جواه ويحوله لطاقة إيجابية بس مش كلنا بننجح للأسف.. ده غير إن زيوس مش مثال سوي يُحتذى بيه خالص!
أيا كانت قراءتكم للأسطورة أتمنى تتصالحوا مع ميتيس اللي جواكم.
BINABASA MO ANG
حواديت قبل النوم
Historical Fictionتأملات بالعامية المصرية في الأساطير والفن والفلسفة وعلم النفس... من الحلة إليك