النهاردة هنتكلم عن الشخصية الأشهر والأبشع – هنكتشف إنها مش بشعة ولا حاجة – في الأساطير الإغريقية ألا وهي الأخت ميدوسا Medusa..
الأسطورة بتقول إن ميدوسا كانت واحدة من الجورجنات Gorgons الثلاثة ودول ثلاثة وحوش أخوات من العالم القديم معروف عنهم بشاعة المنظر وقدرتهم على تحويل أي حد ينظر ليهم لحجر. وكان يُقال إن ميدوسا هي الوحيدة في أخواتها القابلة للفناء (يعني ممكن تموت عادي)، بس كل الكلام ده من الروايات القديمة للأسطورة. وبما إن ميدوسا من أكتر الأساطير المكلكعة اللي رواياتها متداخلة هنركز النهاردة تحديدًا على رواية الشاعر الروماني أوفيد Ovid لحكاية ميدوسا..
أوفيد بيقولنا إن ميدوسا كانت فتاة بشرية بارعة الحسن ومكانش حد بيشوفها إلا لما يقع في غرامها. المهم في يوم من الأيام بوسيدون Poseidon إله البحر شافها وأتوهم بجمالها، وطبعًا بما إن آلهة الإغريق ما بيعملوش حاجة غير إنهم يجروا ورا أعضائهم التناسلية فقرر إنه يغتصبها. المشكلة بقى إنه أغتصبها في معبد أثينا Athena (يُقال في بعض الروايات إن ميدوسا كانت راهبة من راهبات أثينا) اللي أستشاطت غضبًا من عَملة بوسيدون السودا. طبعًا كلنا هنقول ليها حق تغلي! شافت واحدة بيتم اغتصابها على يد واحد من الآلهة اللي هي منهم، بس للأسف مكانش ده السبب..
أثينا غضبت علشان الاغتصاب تم في معبدها (احيه والله!) وكنتيجة طبيعية أنزلت عقابها على الشخص اللي تقدر عليه في الموضوع (واللي هي المفروض الضحية) وحرمت ميدوسا من جمالها وحولتها لوحش بشع المنظر وحولت شعرها لتعابين حية، ولعنتها بأن أي شخص يبص في عينيها يتحول لحجر.
عقاب ميدوسا بيفكرنا بعقاب هيرا لإيكو وبقسوة الآلهة غير المبررة. المهم ميدوسا فضلت عايشة مختفية في كهف بعيد عن الأنظار بسبب ذنب لم تقترفه وبشعور بالعار بسبب عقاب لا تستحقه، وطبعًا كان بيعدي عليها ناس كانوا بيحاولوا يموتوها بس كانت بتحولهم لحجر غصب عنها.
ميدوسا فضلت في العذاب ده لحد ما البطل بيرسيوس Perseus (مُنقذ أندروميدا في أسطورة تانية) قدر يخلصها من عذابها ويموتها بمساعدة أثينا اللي أديتله درع فيه مراية عكست صورة ميدوسا فشافت نفسها وأتحولت لحجر وساعتها قدر بيرسيوس يقطع رأسها.
الأسطورة ليها تفسيرات نسوية كتيرة (وطبعًا واضح ليه) بس أنا اللي يهمني فيها أكتر البُعد النفسي والفلسفي..
الحاج فرويد استخدم الأسطورة لشرح عقدة الإخصاء أو ال castration anxiety وهو خوف الإنسان – خاصًة الرجل – من فقدانه لأعضائه التناسلية لما يشوف أعضاء الجنس الآخر. العقدة أو الخوف ده بيتشكل في مرحلة الطفولة لما الطفل بيشوف أعضاء المرأة التناسلية لأول مرة وفرويد شبّه الموضوع برؤية ميدوسا (عضو المرأة التناسلي المحاط بالشعر زي رأس ميدوسا المحاطة بالتعابين)، وتحول الطفل لحجر بيتمثل في حالة الصدمة اللي بتؤدي لخوف من فقدانه عضوه الذكري.
الموضوع قد يبدو مضحك بس هو ليه أبعاد كتيرة في الأساطير وعلم النفس. يعني فيه مثلاً أساطير كتيرة أتكلمت عن ال vagina dentata أو المهبل المفترس (هنتكلم عنه في بوست تاني) واللي بيعكس خوف الرجل من فقدان عضوه الذكري داخل مهبل المرأة، ما علينا.. الموضوع مش جنسي بحت زي ما فرويد وصفه لأن خوف الرجل من الإخصاء برضه بيمثل الخوف من فقدان السلطة والسيطرة، وده معناه إن "بشاعة" ميدوسا متمثلة في قدرتها على تجريد الآخرين من سلطتهم.
أنا عارفة إني كده حدفت على التفسيرات النسوية بس خلونا نرجع تاني..
بعيدًا عن الحاج فرويد اللي ركز على وجهة النظر الذكورية للأسطورة، فيه تفسيرات نفسية تانية بتقول إن أثينا وميدوسا وجهين لنفس المرأة: أثينا بتمثل العذرية الصارمة والتمسك بالتقاليد وميدوسا (قبل الاغتصاب) بتمثل الرغبات الحسية والجنسية. الجانبين دول بيدخلوا في صدام بعد حدوث صدمة التجربة الجنسية الأولى (علشان كده اتمثلت في الأسطورة في شكل اغتصاب) فالجانب العذري بيلوم الجانب الحسي وبيشعره بالذنب اللي قد يستمر في بعض الأحيان مدى الحياة.
ومع احترامي للتفسيرين أنا ليا وجهة نظر تالتة بقى...
ميدوسا قد تكون رمز لأي إنسان بيتعرض لصدمة نفسية أو جسدية كبيرة بيفشل في استيعابها فبتتحول لشعور جارف بالذنب المصاحب بالغضب. المشكلة ساعتها إن الإنسان ده بيحول الغضب أو المشاعر السيئة اللي جواه للآخرين غالبًا بدون قصد، بالظبط زي ما كانت ميدوسا بتحول أي حد يبص في عينها لحجر. في وجهة نظر الآخرين الإنسان ده بيبقى بشع ومؤذي مع إن الحقيقة هو إنه في ألم وعذاب مستمرين ونفسه في بيرسيوس يجي يخلصه من عذابه.
فاكرين بيرسيوس قتل ميدوسا إزاي؟ بمراية... طيب فاكرين نارسيس انتهى إزاي؟ بأنه شاف انعكاسه في المياه..
تيمة رؤية الذات في الأساطير منتشرة ودايمًا بتفكرنا بنبوءة تايريسيس (فاكرينها؟). ميدوسا ما ماتتش إلا لما واجهت نفسها. بس زي ما موت نارسيس نتج عنه زهرة النرجس اللي قد تمثل موت الجانب السيء من الشخصية وظهور جانب آخر على قدر كبير من تفهم وإدراك الذات، ميدوسا حصل معاها حاجة مشابهة..
بيرسيوس لما قتل ميدوسا كانت ساعتها لسه حامل في ابن بوسيدون (حمل جَمَلي تقريبًا!) فلما قطع رأسها طلع من جواها حصان أبيض مجنح آية في الجمال والنقاء، الحصان ده طبعًا هو بيجاسوس Pegasus رمز الحكمة والشعر..
وده معناه إن ميدوسا ماقدرتش تتخطى ألمها وغضبها إلا لما واجهت نفسها وتمعنت النظر فيها. طبعًا المرحلة دي من الإدراك قد تكون مؤلمة وأحيانًا مدمرة للشخص لكنها بتحرره من قيود نفسه اللي بيفرضها على ذاته والآخرين، وساعتها فعلاً بيولد من جديد زي ما بيجاسوس بيخرج من جسد ميدوسا.
ESTÁS LEYENDO
حواديت قبل النوم
Ficción históricaتأملات بالعامية المصرية في الأساطير والفن والفلسفة وعلم النفس... من الحلة إليك