(24) لعبة داخل لعبة(١)

253 33 104
                                    

وإني اتخذت من الحائط ملجأً يقيني من المصائب فانهار  بأكمله علي

يسحب قدميه بشق الأنفس، عيناه قد ازداد احتراقهما ورأسه المتصدع يكاد ينفجر، يناشد عقله بالتوقف، فما عاد يقوى على التحمل، لقاؤه بالسيدة ناريمان فتح بوابة الماضي الظليم، رياح الفقد عادت لتشعل ما احترق وأبى الانطفاء، كل شيء دفعة واحدة، بجرعة أقسى وأمر، أخرج المفتاح بأنامل مرتعشة وحشره في مكانه الذي هجره لسنتين، أصدر الباب أزيزًا وهو يشق طريقه للداخل، ركضت الشمس بحرية ملقية بدفئها ونورها قاضية على رداءة المكان إثر هجره.

ما إن حط قدمه داخل المنزل حتى افترسته الذكريات لكأنها أسهم قاتلة، أغلقه طاردًا لمساتها الدافئة ويكأنه يخشى أن تستبدل ما تركه مذ رحل قاطنوه، فهذا المكان بعدهم لا يستحق الحياة، كل شيء في الداخل يزيد من حقده، وكرهه وألمه، حتى ضربات قلبه تكاد تنفجر، وصوت عقله يجلده.

عادت ذاكرته لتقف عند أسئلة السيدة

-لا تعلم مقدار فرحتي بنجاة لجين من ذاك الحادث الأليم، لكن لماذا غطى الإعلان عن ذلك، ما الذي حدث؟ أخبرني يا بني، أذكر آخر اتصال بيني وبين جمانة كان صوتها مرهق وقد طلبت مني لقاءها لكنها لم تأتِ إلى المكان الذي اتفقنا عليه، وحاولت الاتصال بها فلم تجب، ثم بعد أيام فجعت بما أصابهم

عبراتها التي انهمرت غرست أنصالها في قلبه، ليحاول بلع غصة عنيدة فتكت به وأبت التلاشي ليجيب بصوت جاهد استقامته

- احترامًا لصلتك بوالدتي الراحلة سأخبرك أنني من أخفى أمر نجاتها أما عن السبب فأرجو أن لا تتقصي حوله وتصرفي وفقًا ذلك، لا أريد لأحد أن يعلم

ثم نهض معربًا ختام جلستهما لتقف قائلة وهي تكفكف دمعها

-دعني أعتني بها، حالتها الصحية سيئة، هذا أقل ما يمكنني فعله لأجل ابنة جمانة، أؤكد لك لم تكن لتمانع والدتك ذلك لو كانت على قيد الحياة، هي بحاجة لمن يدفء صقيع فقدها لتتعافى، فائذن لي لأقوم بذلك

نظر إليها بضعف، وقد صب رجاؤه في مصلحته، لن يقوى على الاعتناء بها الآن وهو أسير الذكريات المرة التي باغتته بصحوتها، فما كان منه إلا أن يقبل مشددًا على تكتمها عن أي شيء يخص عائلته أمامها بعد تصريحه حول فقدانها لذاكرتها إثر الحادث المزعوم.

شعر بأيد تكبل أنفاسه فأخذ يسحب الهواء بصعوبة عله يمد رئتيه به، ونهض طاردًا ذكرى ما حدث بأخرى أشد قتامة، سار بترنح وهوى عند صالة المعيشة وصدى صوته الداخلي يفتح بوابة الماضي ليقع أسيره كما لو أنه يحياه من جديد.

وصل عتبة المنزل برفقة جود، بعد إجراءات سفره التي طالت وأخذت الأسبوع برمته، الانقباض الشديد لم يرحمه، بالكاد يتناساه وهو يمني نفسه بلقاء حبيبة الفؤاد ـ أمه -
فغيابه الطويل عنهم جرعنه الأسى بكل ألوانه خصوصًا الأحداث المنصرمة التي خرج منها مذبوح الجِنان، تلك الحادثة التي أجبرته على تبديل قرار البقاء في مقاطعة الضياء، قُطِعَت مياه عيشه فيها للأبد، فالبيئة التي تذيقك الويلات وتكسرك لن تتعافى ما لم تهجرها.

الأشينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن