(22) المواجهة

157 30 59
                                    

قد تكون مؤمنًا أن النجاة تأتي من حصاد الأعمال الخيرة، غير أن الثمار قد تخرج شائكة مؤذية؛ فيبقى الإمتحان مقصد أصحاب القلوب المؤمنة لتنقيتها، يحمل في دلهمتهِ نورًا يبشر بفيض رحمة وخيرٍ يتسرب من رحم البلاء حين تجتازه بصبر؛ فلا تبتئس وإن تأخر الفرج في البزوغ.

لم يكن الأسبوع الفائت يمضي بهدوء علي، غدوت في أوج انهياري بعدما حدث، كرهت خلاله الخروج من الكوخ وعزفت نفسي عن كل شيء، وغاية مناي نسيان كل تفصيل من الحادثة لكنها ظلت تصرع رأسي وتزيدني بؤسًا فوق ما أعانيه، نعم كنت متخبطة لا أعلم ما عليَّ فعله لأخرج من هذه الحال، حتى ذاكرتي أصابها التشوش أكثر من ذي قبل، لم أعد أفكر في ماضيّ بقدر ما أعود وأنكت كل تفصيلٍ من الحادثة

كما لو أن الزمن توقف هناك ليتكرر ولا يمل، أيسلم المرء من التهلكة وهو هالك من الداخل؟! نعم الهلاك بشقيه وأقساه ذاك الذي يدمرنا ونبقى أحياء، أنى لي طبطبة الخدوش والندوب التي أصابت روحي وقلبي؟! 

وعلى الرغم من بقاء أمجد معي لم أكن أعره أية أهمية، كان في كل مساء يحضر، حتى وإن تأخر يواظب على المجيء، أرى في وجهه ألف هم وغصة يحاول وأدها، وأنا إحدى هذه الغصص بلا شك، نعم كلما أراه يستعطفني ويحاول التخفيف عني أزداد تآكلًا في داخلي فأنا من سبب له كل هذا الألم، ما إن ينام حتى أجثو في ركن الكوخ وأجهش ببكاء صامت يحرقني.

ما زال يلح عليي بالاستمرار في الدراسة، جادلته كثيرًا، لا أريد العودة، أنا خائفة من تكرار ما حدث بصورة أخرى، لا أريد شيء، فقط الابتعاد، أريد الآن نسيان حتى نفسي، يكفني ما ذقته من ألم، لكنه لا يكل ولا يمل، يظل يلقي على مسامعي عدم رضاه عن ذلك، يحاول أن يخرجني بشتى الطرق، يظن أن علاج صدمتي ستتلاشى مع الاستمرارية ورؤية الآخرين، لكنني أفضل معالجتها بانعزالي ولكلٍ منا رأيٌ معاكس، لم يكن أمجد في السابق أكثر تفلتًا لأعصابه، الآن وبعد كل نقاش أراه كذلك، وأوقن أنه يمر بأوقات عصيبة أخرجته عن حِلمه، لكنني لم أستفسر، كنت مشغولة بمصابي.

في النهاية لم ينفعني الاعتراض فقد أجبرني على العودة إلى المدرسة، ولكي أرضى قرر هو أخذي وإعادتي، وهذا يزيد من بؤسي، أنا أعطله عن العمل، وأكره أن أكون عبئًا ثقيلًا عليه، لمَ كل هذه الأحاسيس تراودني، لمَ غدوت حساسة من أي تصرف؟! هذا الوضع كان كريهًا لدرجة السخط.

عدت للمدرسة، لم أكن أتطلع لها، ولم أراعي استقبال زميلاتي وعلى الخصوص صديقتي الذي أكلها القلق علي، قابلتهم بوجه بارد، وصمت قبيح، جلست في مقعدي متجاهلة أسئلة أليسار، معرضة عنها لكنها لم تكل ولم تمل، ما تفتأ تسألني تارة عن صحتي وأخرى عما حصل، ومع كل سؤال أتمزق ألف مرة، وصورة الرجال وشتماتهم وأمر الحجاب الذي تجرأوا على تجريدي منه يزيد من رجفتي وتزلزلي، ثم ذاك الشاب الذي نسيت اسمه من جديد، ما إن أتذكر الوشاح حتى أنهار بقهر.

الأشينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن