الفصل الرابع
رسالة من سراب ...
افتقدتك بالأمس عندما لم تأت ... أعرف بأنني في الوقت الذي سأناولك فيه رسالتي هذه .. سأكون قد رأيتك بالفعل .. وكبحت عنك افتقادي .. مقابلة إياك بابتسامة خالية البال ..
إلا أنني أردتك أن تعرف .. وإن متأخرا .. بأنني لم أتوقف عن التفكير بك لحظة بينما أنا أجلس في مقهانا المعتاد .. أحتسي كوب الشوكولا الساخنة .. أتمنى لو أنك معي كي تغيظني بطفوليتي .. وتتهمني بأنني مدمنة سكر ..
لقد اتضح أنني لست مدمنة سكر ......... فحسب .أوقف همام سيارته أمام منزل عائلته ... سامحا لقطرات المطر الثقيلة أن تركز ضرباتها في الزجاج الأمامي لسيارته وهو يقول :- أتعلمين ؟؟ لو أنني مكان قائد .. لضربتك يوميا كي أرغمك على الطاعة .. الرجل خائف عليك وعلى جنينك .. وإن كان يرى أن قيادتك لسيارتك قد تسبب أي أذى لكما فأنا لا أجد أي سبب يدفعك لعصيانه ..
أطلقت أسرار صوتا متهكما وهي تقول :- انظروا من يقدم النصائح ... الرجل الذي يعيش منذ أشهر ضيفا في شقة زوجته دون أن يتمكن من إرغامها على معاملته كزوج ...
انسحب شيء من اللون من وجهه مما جعلها تندم على تعجلها في الكلام .. التفت إليها قائلا بتوتر :- هل تحدثت ليلى إليك عن علاقتنا ؟؟؟؟
تنهدت وهي تشعر بمزيد من الندم :- لا يا همام ... لقد كنت أمزح في الواقع .. وردة فعلك هذه تخبرني بأن مزاحي مس وترا حساسا .. هل تريد مني التحدث إلى ليلى لأجك ؟؟
ألقت سؤالها الأخير مداعبة ... فقال بفظاظة :- احتفظي بكرم أخلاقك بعيدا .. عني وعن ليلى ... واحصري تركيزك في عائلتك الجديدة .. أنا لا أعرف حتى ما دفعني للاستماع إليك وإحضارك معي إلى هنا ..
قالت بابتسامة ماكرة :- لأنك تأمل أن أشغل والدتي عنك فلا تطرح عليك المزيد من تلك الأسئلة التي تسبب لك الحرج .. على كل حال .. ما من حاجة لكل هذا التوتر .. أمي ليست هنا هذا المساء .. لقد جرتها عمتي وحماتي الموقرة إلى إحدى الأمسيات الدينية التي ترتادها ... أملا في أن تجد والدتنا شيئا يشغلها عقليا وروحيا عن همومها الكثيرة ..
لم يستطع إخفاء تنهديدة الارتياح التي أفلتت منه .. لقد باتت والدته تبالغ في إصرارها على معرفة النهاية المتوقعة للعلاقة العقيمة ( كما تراها ) والتي تربطه بليلى ... كأي حماة تحترم نفسها ... تتهم كنتها مباشرة عندما تستشعر أي لمحة من التعاسة لدى ابنها ... إلا أن ما كانت تراه منه لم يكن تعاسة على الإطلاق .. لقد كان إحباطا ... نفاذ صبر .. شوق ......... ونعم ... شيء من التعاسة .. لأن لا شيء يفعله يأخذه إلى أي مكان حقيقي في علاقته مع ليلى ...
هو لا يتذمر .... هو ممتن للغاية للفرصة الثانية التي منحته إياها بموافقتها على إبقائه في حياتها ... بل هو ممتن لأنها حية ... تتنفس وتعيش إلى جواره بعد تلك الأسابيع المرعبة التي قضتها في غيوبتها تلك مقتنصة سنوات من عمره رعبا ...
هو لا يتذمر ... راضي بالتطور التدريجي لعلاقتهما معا ... ربما هي لا تحبه الآن ... إلا أنها تتقبله .. تتعايش معه .. تسمح له بالإقامة معها تحت سقف واحد ... تسمح له بأن يكون جزءا من حياتها ... كصديق على الأقل ... صديق حتى يتمكن من ترفعة نفسه إلى شيء آخر
:- هااااي ... من الأرض إلى كوكب المريخ ... نحن هنا كي نطمئن على هزار قبل أن توصلني إلى بيتي كأي شقيق أكبر متفاني .. لا كي نسرح في غرامك اليائس بليلاك ..
برطم من بين أنفاسه وهو يترجل من السيارة وضحكاتها تلاحقه بينما تترجل هي الأخرى لاحقة به .. هرولا تحت المطر عبر البوابة ... حيث ألقى همام تحية عابرة نحو موظف الأمن الذي استأجر خدماته منذ أشهر كي يوفر الأمان والحماية لكل من والدته وشقيقته الصغرى في غيابه .. جالسا تحت مظلة بلاستيكية كان الهدف من نصبها قبل أسابيع الحماية من حرارة الشمس في أيام الصيف اللاهبة ... ربما يكون ما أصاب هزار وليلى عندما اختطفتا على يد شاب معتوه وكاد يخسرهما على يديه محض قدر وصدفة ... إلا أنه لن يسمح لصدفة كهذه أن تتكرر مجددا دون أن يكون قد اتخذ الإجراءات اللازمة لمنعها ...
في ذلك الوقت من المساء ... يكون موظفوا المنزل قد انصرفوا .. مما جعل استقبال الصمت والهدوء الثقيل لهما في الداخل متوقعا لهما ... تمتمت أسرار :- لم لا تبحث أنت عن هزار في حين أعد شيئا يؤكل ؟؟ على الأرجح .. شقيقتنا الحمقاء لم تدخل لقمة إلى فمها منذ الصباح ..
هز رأسه موافقا وهو ينفصل عنها معتليا الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي حيث غرفتها الصغيرة .. مستبعدا تماما أن يجدها نائمة ... شقيقته الصغرى .. تلك التي ما عادت عرفت معنى النوم منذ فترة طويلة ...
طرق الباب بهدوء وهو يقول :- هزار ... هل أنت هنا ؟؟
عندما لم يلاقي أي رد ... أدار المقبض ودفع الباب متوقعا أن يجدها ساهمة إلى حد عدم استماعها إلى طرقاته .. إلا أنه كانت مخطئا ..
الغرفة كانت خالية !!
هذا لم يمنعه من أن يخطو إلى الداخل هاتفا باسمها مجددا بشيء من القلق :- هزار ..
الغرفة كانت مرتبة .. كما لو أن إنسانا لا يعيش فيها ... مفارش السرير الملساء تبدو وكأنها لم تمس منذ الصباح .. الأسطح فارغة .. خالية من أي لمسات شخصية مما جعل قلبه يتلوى جزعا وهو يتذكر عصفورته الفوضوية .. التي كانت تحشر أغراضها الشخصية فوق المنضدة المجاورة للسرير .. ما بين هاتف وكتاب .. كوب عصير فارغ وكيس مقرمشات مأكول .. ما بين ملابس متناثرة هنا وهناك .. وزجاجات من العطور الوردية اللون والتي كانت تثير ضحكه بمظهرها الأنثوي ورائحتها البريئة جدا فتذكره بصغر سن شقيقته .. والحياة الطويلة التي تنتظرها قبل أن تنضج تماما ...
إلا أنه كان مخطئا ... فشقيقته الصغرى لم تحتج إلا لتجربة واحدة كي تنتزعها من مرحلة الصبا .. إلى الهرم .. كما سبق وانتزعها حوار صغير استمعت إليه قبل سنوات صغيرة بينه وبين والده كي تنتزعها من عالم الخيال إلى عالم الواقع ...
القلق داخله بدأ يتصاعد وهو يتجه نحو النافذة المفتوحة متسائلا عن مكانها .. أتراها مختبئة في زاوية قصية أخرى في المنزل ... تحاول بعيدا عن الأعين أن تجد تلك البقعة من السلام التي سبق وأخبرته بأنها ما عادت تجدها منذ انهيارها الأخير ؟؟؟
تذكر ذلك اليوم بوضوح ... بعد عيد ميلاد نوار مباشرة .. ذاك الذي قضاه برفقة شقيقاته في شقتها الصغيرة قبل أن يتركهن لاحقا بموعده المصيري مع ليلى ...
كان من المفترض بزين وأسرار أن تنصرفا معا في حين تقضي هزار الليلة برفقة نوار
نسخة نوار في وصفها عما حدث كان ملاحظتها لغرابة تصرفات هزار ذلك المساء ... ربما هي تغيرت بالفعل بعد حادثة اختطافها .. إلا أنها كانت تبلي جيدا فتبدو للجميع وكأنها تعود تدريجيا إلى طبيعتها القديمة ..
وكم كان غباءً منهم أن يظنوا هذا ....
الطبيعية في تصرفات هزار ما كانت إلا إنكارا منها للعطب إلذي أصابها .. تجربة كتلك التي مرت بها .. لا يمكن أبدا أن تمر بسهولة .. انقبضت أصابعه غضبا وضاق صدره كما في كل مرة يتذكر ما كاد يصيب شقيقته الصغرى ... أولا تعرضت للاختطاف ... شهدت امام عينها موت صديقتها المقربة وإصابة ليلى البليغة .. ثم كادت تتعرض للاغتصاب على يد زميلها المجنون الذي ربما كان ليقتلها كما قتل صديقتها بعد أن ينتهي منها .. لو لم تقتله هي أولا ...
رباه ... كيف ظن أحدهم أنها قد تنسى ما حدث بسهولة ؟؟؟ عندما يتذكر ذلك المساء .. يدرك أن نوار كانت محقة .. فهزار فعلا كانت مختلفة .. كانت صامتة .. شاحبة .. بالكاد كانت تتواصل مع شقيقاتها أثناء احتفالهن العفوي والبسيط .. كانت شاردة ... لا ... لم تكن شاردة .. لقد كانت منفصلة عما حولها ... وكأنها تحاول إطفاء عقلها كي تتوقف عن التفكير ..
يا إلهي .. كيف كان أعمى آنذاك .. منشغلا بهمومه هو ... ومشاكله هو .. بحيث لم يتمكن من أن يرى .. تلك الليلة .. حدث شيء حرك كل ما كانت تحاول هزار إنكاره .. فجاء انهيارها قويا ..
قويا ... إنما ليس مدمرا لحسن الحظ .. إلا أن الطبيب كان واضحا .. إن لم تتعاون هزار في تقبل العلاج فإن انهيارها القادم سيكون أقسى ... وطبعا كما هو متوقع ... هزار رفضت رفضا قاطعا المواظبة على زيارة طبيب نفسي .. المقابل كان أخذ نوار لها لرؤية ذلك الرجل الذي تعمل لديه بعد انتهاء دوامها كل يوم .. والذي تصر على اعتياده على التعامل مع حالات شبيهة بحالة هزار ..
يكره همام الاعتراف بالأمر .. إلا أن رؤية هزار له قد أتت بنتائج إيجابية ... على الأقل هي تمارس حياتها بشكل أقرب إلى الطبيعي ... قدمت امتحانها وتخرجت .... تعمل الآن إلى جانب ليلى في شركات الحولي .. تزور عائلة صديقتها المتوفاة وكأنها تجد العزاء في التقرب منهم ...
إلا أنه ما يزال هناك .... يتربص بالزاوية .. مهددا بأخذها في اي لحظة ... انهيارها التام إن تعرضت بالفعل لأي تجربة كفيلة بإشعال فتيل الذكرى .. أو حرضتها على إطفاء ما تبقى من روحها تماما ..
أنت تقرأ
رسائل من سراب(الجزء السادس من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء السادس من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للكاتبة blue me