الفصل الثامن والثلاثون

4.2K 122 5
                                    

الفصل الثامن والثلاثون






بإرادة من حديد ... تمكن فيردي من كبح مشاعره .. من إخفاء ألمه .. وخوفه .. أثناء رؤيته والدته تتلاشى أمام عينيه .. محاولا أن يكون صلبا لأجل شقيقته .. التي كانت تقضي معظم ساعات اليوم منذ وصولها البارحة في غرفة والدتهما .. الغائبة تماما عما حولها .. لقد كانت تجلس بكرسيها المتحرك إلى جانب السرير .. تبكي بدون توقف .. وهي تتحدث إلى والدتها وكأنها تتوقع منها أن ترد عليها في أي لحظة ... لقد كانت تحكي لها تفاصيل العام الذي قضته بعيدا عنها بسبب إصابتها .. تحكي لها عن ملاك .. وتحاول أن تقدم أعذارا لعجز ابنتها عن الحضور لرؤيتها للمرة الأخيرة ... تحكي لها عما فعله زوجها السافل لها ... عن هروبه برامي .. ثم تحكي لها عن فراس .. وعن الصدمة التي سببها لها عندما أعلن أمامها عن زواجه ومنذ خمس سنوات ... هكذا ... بعد سنوات من توسلها إياه أن يتزوج .. أن يعيش حياته .. أن ينجب أطفالا وورثة للعائلة ... وإذ به متزوج منذ سنوات ..
تنهد فيردي وهو يخطو إلى داخل الغرفة .. محتفظا بدوره الذي اتقنه على مر السنين ... دور الشقيق الخالي البال .. الذي يعيش للمتعة فقط .. ذلك الدور الذي اعتنقه انتقاما من أبيه ... وإذ به يصبح جزءا من هويته .. حتى بعد وفاة أبيه بسنوات ...
الآن .. وخلال هذه الفترة بالذات ... شقيقته الكبرى كانت في حاجة إلى لا مبالاته تلك .. إلى تباعده وجفاف مشاعره .. لقد كانت تحتاج إلى قوته ... لا إلى انهياره إلى جانبها كالطفل حين يركل خوفا من تخلي والدته عنه ...
قال من ورائها :- هي لم تلمك قط يا نازلي ..
قالت بصوت مختنق :- وما أدراك .. أنا عن نفسي لن أسامح نفسي لأنني لم أكن موجودة خلال أيامها الأخيرة .. لأنني لم أستغل الوقت المتبقي لها فأقضيه معها ... الآن .. هي ستموت ظانة بأنني لم أهتم بها كفاية .. بأنني لم أحببها كفاية ..
تهدج صوتها مختنقا بالدموع ... فما كان منه إلا أن وصل إليها .. وربت على كتفها وهو يقول بصوت أجش :- لقد كانت تعرف يا نازلي .. أنا اخبرتها .. أخبرتها عن وضعك ..
حدقت به غير مصدقة .. فأكد لها :- في الآونة الأخيرة ... كنت أزورها كثيرا .. وأقضي معها الكثير من الوقت .. في إحدى الأمسيات .. سألتني عنك .. وطالبتني بأن أخبرها بالحقيقة ... بما يمنعك حقا عن زيارتها .. لأنها أبدا لن تصدق بأنك ستمتنعين عن زيارتها ورؤيتها إلا لسبب قوي وقاهر .. فأخبرتها بالحقيقة ..
جلس إلى جانبها فوق المقعد الذي اعتاد أن يجلس عليه كلما جاء لزيارة والدته .. حيث اعتادا أن يتحدثا .. كما لم يفعلا قط ... يخجله أن يعترف بأنه في البداية كان يأتي إلى المزرعة مستخدما إياها كحجة فقط كي يأتي .. ثم مع الوقت .. كانت علاقته مع والدته تتوطد شيئا فشيئا ... حتى غابت عن وعيها في الأيام الأخيرة .. لقد فعلت وهي تمسك بيده .. وتطلب منه بأن يسامحها لأنها لم تنصفه قط كما يستحق .. وتؤكد له بأنها لم تتوقف لحظة عن حبه ...
:- وقد تفهمت ... أمنا كانت امرأة قوية جدا .. حتى في لحظاتها الأخيرة ... حتى وهي تعرف بأن ابنتها المفضلة قد تعرضت لحادث منعها من القدرة على السير .. أو الحضور إليها لرؤيتها ..
اغرورقت عيناها بالدموه وهي تهمس له :- شكرا لك ... شكرا لك ..
بعد لحظات من الصمت قال لها :- لا تقسي على فراس كثيرا يا نازلي ..
أحس بها تحت يده التي كانت ما تزال متشبثة بكتفها تنتفض وهي تقول بصوت مكتوم :- لسنوات توسلته أن يتزوج ... حتى عندما خطبت له نوار قبل سنوات ... لم يتعب نفسه أبدا بأن يخبرني بأنه كان متزوجا بالفعل .. وممن .. من فتاة تمنيتها مرة كزوجة له .. أنا لا أفهم ... لا أفهم لماذا يفعل هذا بي .. كل ما أردت هو أن أراه سعيدا .. أن أرى أطفاله .. أن أدرك بأنني قد فعلت كل ما أستطيعه لأجله ...
قال فيردي بهدوء :- لا يا نازلي ... كل ما أردته هو أن تريحي ضميرك ... أن تطمئني إلى أنك قد فعلت معه ما لم تستطيعي فعله لسنان ... لقد أردت منه أن يفعل ما عجز شقيقه المتوفي عن فعله .. أنت ضغطت عليه ..وحملته فوق طاقته .. كما فعل والدنا بالضبط .. كما يفعل الجميع من حوله .. ناسية بأن زواجه .. واختياره المرأة التي يريد أن يعيش معها حياته .. هو راجع له .. له وحده .. وأنه حين يفعل ويتزوج .. فهو لن يفعلها لأجل إرضائك .. ولأجل فعل ما يتوجب عليه من إنجاب ورثة لآل حولي ومورتومولوش .. بل لأجل سعادته هو ..
صمت ... سامحا لها أن تستوعب كلماته .. ثم قال :- لهذا السبب فشل زواجه بنوار يا نازلي ... لأنه أرغم نفسه على أن يتزوج من المرأة المناسبة له .. المرأة المثالية لفراس الحولي ... المرأة القادرة على تعبئة مكانها كسيدة العائلة القادمة .. وإنجاب الورثة تلو الورثة .. عندما لم يكن مستعدا ... عندما كان ما يزال واقعا بالفعل في حب امرأة أخرى .. إلا أنه فعلها .. ولأجلك أنت ... ولأجل العائلة .. ولأجل كل الواجبات التي فرضت عليه .. إنما هو لم يفعلها لأجل السبب الوحيد المهم حقا ... وهو فراس نفسه ..
ارتجفت شفتها السفلى وهي تقول :- أتقول بأن فراس كان تعيسا لسنوات بسببي أنا ؟؟
تنهد قائلا :- لا يا نازلي .. أنا أطلب منك فقط أن تمنحيه الفرصة لأن يعيش حياته كما يريد .. لأن يسعى إلى سعادته بطريقته هو .. وماذا إن كان متزوجا من أمان لخمس سنوات ؟؟ لقد قلت بنفسك بأنك اخترتها له مرة .. صحيح ؟؟ لأكثر من عشر سنوات كان على فراس أن يتخذ آلاف القرارات المصيرية المتعلقة بمصالح العائلة .. والعمل .. وملايين الموظفين العاملين في شركاته ... أتبخلين عليه بقرار واحد يتعلق به هو ؟؟
رفعت عينيها الخضراوين والدامعتين نحوه وهي تقول :- أتظنه سعيدا معها ... مع أمان ؟؟
:- ربما .. وربما لا ... إنها حياته هو .. وعليه هو يقع عبء تشكيلها .. صحيح ؟؟ نازلي ... كل ما أريده منك هو ألا تقسي على الفتاة ... إنها فتاة مميزة ... ولا تستحق أن تتحمل أخطاء فراس ...
عندما لم ترد قال لها برفق :- أنا جائع ... لم لا ترافقينني لتناول الإفطار برفقتي بما أن قاسم قد رافق فراس إلى المكتب هذا الصباح ..
هزت رأسها قائلة بحزن :- لا أشعر برغبة في الأكل .. سأظل هنا معها لبعض الوقت ..
تنهد من جديد وهو ينهض تاركا إياها تحظى بساعاتها الأخيرة مع والدتهما ... وتحرك نحو الباب المفتوح ليصطدم بالشخص الذي كان يوشك على دخول الغرفة لتوه ...
أمسك بها فور أن أحس بصدرها ينسحق فوق صدره .. وصوت شهقة الإجفال تخرج منها مصحوبة بتلك الرائحة المألوفة التي تصدر دائما منها .. رائحة تشبه رائحة الورود التي كانت أمه تحب زراعتها ...
ضغطت أصابعه الممسكة بكتفيها بقوة كان واثقا بأنها ستترك كدمات فوق بشرتها لا محالة ... وهو يشعر بالسيطرة التي كان يحاول الحفاظ عليها تنساب من بين يديه فجأة .. ثم كان عليه أن يدفعها بشيء من الفظاظة وهو يتحاشى النظر إلى الصدمة في عينيها البنيتين وهي تتراجع عن طريقه سامحة له بتجاوزها ومتابعة السير ... مدركا بأنه كشقيقته .... فقد شهيته هو الآخر ... وازداد رغبة في العزلة بعيدا عن كل شيء ... وعنها هي بالذات ...





رسائل من سراب(الجزء السادس من سلسلة للعشق فصول)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن