الفصل الواحد والأربعون
لحظة واحدة فقط ... كانت كل ما منحها إياه فراس قبل أن يعود ليقبلها من جديد ... لحظة واحدة .. إنما كانت كافية لأي قرار بالرفض كانت تستطيع رميه في وجهه ... لحظة واحدة ... إلا أنها لم تحسن استغلالها .. إذ أن عقلها الذي كان ضبابيا بكل المشاعر التي بثتها قبلته داخلها .. كان قد توقف تماما عن العمل .. مخضعا إياها للارتباك .. للذهول .. للشوق .. وللحاجة الضارية لأن تشعر به .. بلمساته .. بقوة جسده .. بحرارة قبلاته .. برائتها وانعدام خبرتها التام ... منعاها من ترجمة ما كانت تشعر به في تلك اللحظة المصيرية .. وهو يمنحها خيارا لم تدركه ... لقد كانت معمية بصدمتها عندما لم تستطع العثور على سبب حقيقي لعدم رحيلها ... لقد كانت غائبة في ماضي مؤلم ... في لحظة فراق لم تعتقها منذ خمس سنوات حتى الآن .. في حب ظنت لوهلة أنها قد انتزعته من قلبها .. لتدرك فجأة وهي تراه يتألم ... بأن كل الألم الذي كانت تشعر به وهي تنظر إليه .. ما كان إلا انعكاسا لألمه ذاك ..
رفع رأسه وهو يقول بحرقة :- أريدك .. أريدك يا أمان .. لو تعلمين كم أحبك .. وكم أريدك ..
انتفض جسدها وكلماته تقلب معدتها رأسها على عقب .. تدمر دفاعاتها واحدا واحدا .. تعميها تماما عن أي منطق .. أطلقت شهقة عنيفة عندما قبضت أصابعه على شعرها تجذبه كي مرغمة إياها على رفع رأسها إليه كي تنظر إلى عينيه القاتمتين بالرغبة ... بالغضب ... بالوحشية وهو يقول مزمجرا :- ما كنت لأسامحك قط لو أنك خنت ثقتي ورحلت يا أمان .. ليس مجددا .. لو أنك كنت خطوت عبر ذلك الباب .. كانت لتكون النهاية .. وما كنت أبدا لأسامحك على هذا ..
تلاحقت أنفاسها .. وعنفه .. قسوته .. حرارة عواطفه .. تشعرها لأول مرة في حياتها بأنها مرغوبة .. بأنها محبوبة .. بأنه يريدها .. يريد فعل ما لم يستطع أي شخص آخر أن يفعله .. أن يترك بصمته عليها .. أن يوشم جسدها وروحها بحبه فلا تستطيع منه فكاكا .. ولذهولها .. هي أرادت أن توشمه أيضا بها .. أن يعرفها .. يتذوقها .. فلا يجد لغيرها من النساء طعما من بعدها ..
لم تفكر ويدها تتحرك فوق صدره .. نحو قلبه بالضبط .. لتستقر هناك .. فتحرق جلده .. وعضلاته القاسية من تحتها .. ثم قلبه .. فتضخ الرغبة العمياء سائلة .. حارة .. عبره بدلا من الدماء .. فتنتزع عنه كل حكمته .. كل تحكمه .. كل ثباته .. وكل سيطرته .. محولة إياه إلى ذلك الذئب القرمي الذي كان فيردي يصفه به ضاحكا .. مؤكدا لها بألا يخدعها لباس المدنية الذي كان يحجبه عن أعين الآخرين ... إلا أنها كانت تراه .. للمرة الأولى كانت تراه وهو يتنزع عنها خياراتها مجددا عندما عاد يقبلها .. عابرا معها بدون تردد ذلك الطريق حيث لا رجعة منه ... وحيث لا سبيل من خلاله إلا نحو الندم وحده ...رغم أن جيرين لم تكن استانبولية المولد .. إلا أنها حتى في القرية الصغيرة التي ولدت فيها وعاشت السنوات الأولى من حياتها قبل أن يقرر والدها أن يجرب ما تقدمه المدينة فينتقل بالعائلة بعيدا ... لم يسبق أن رأت حارات بهذا الفقر والاتساخ .. بحق الله .. إنها واحدة من أكبر المدن في أوروبا .. ومع هذا ما تزال تستطيع أن ترى أماكن كهذه فيها ..
كانت قد اضطرت لأن توقف سيارتها في مكان ما خارج الحارة ... كي تحميها من عبث الأولاد المشعثين المظهر الذين كانوا يلهون بكرة القدم في الشوارع الضيقة والمكسوة بالحجر القديم .. كان الوقت مبكرا .. مما جعل وجود الأطفال خارج مدارسهم غريبا .. الناس جميعا من حولها كانوا ينظرون إليها باستغراب .. النساء اللاتي كن يتبادلن الأحاديث أمام الأبواب المشرعة .. الرجال المسنين الذين كانوا يحتسون الشاي وهو يجلسون على الأرصفة بدون أي هم .. حتى الرجال .. كانوا يرمقونها في مزيج من الاستغراب والجشع .. وهو يلاحظون اختلافها عن الزوار المعتادين للمنطقة .. أي فتاة أخرى كانت لتخاف .. أو لتعود أدراجها وهي ترى خطورة وجودها في مكان كهذا ... إلا جيرين لم تكن مجرد فتاة ضعيفة وخانعة .. هي تعرف بعد سنوات من الإقامة وحدها كيف تدافع عن نفسها .. كما أنها أيضا تعرف أهمية المخاطرة في بعض الأحيان في سبيل تحقيق هدف أسمى ...
هدف أسمى !!! ... نعم ... بعد قضائها ليلة الأمس كلها بدون نوم .. تنتظر وتنتظر الخبر المنشود ... لم تفكر حتى قبل أن تنهض صباحا متسللة من الشقة متجهة نحو الحارة التي حصلت من مصدر موثوق على عنوانها ... لقد ظنت حقا بأن الكلمات التي بثتها في عقل أمان غالي كافية لتحقيق ما تريد ... وهو كسر الثقة بينها وبين فراس الحولي إلا أنها كانت مخطئة ...
ربما أمان غالي تحب فراس أكثر مما ظنت ... أكثر مما يظن خلدون الواثق بأنها غير سعيدة هناك .. وأكثر من مصادرها في المزرعة التي تؤكد على أن لقاءا بينهما لم ينتهي أبدا بدون شجار ...
ربما هي تحبه حقا ... إلا أن هذه لم تكن المشكلة الحقيقية ... المشكلة الأكبر كانت تتمثل في فراس الحولي .. الذي يبدو متمسكا بها تماما ..
كلمات خلدون ليلة الأمس عن الفتاة كانت كافية لصب الزيت على النار داخل جوفها المحترق أصلا بالغيرة ... منذ رأت فراس وهو يتباهى بها أمام الجميع في الحفلة .... مجرد رؤيتها للهيام التام في وجه خلدون وهو يتحدث عنها .. بعد كل ما حدث بينهما .. كان يقتلها ...
أن تعرف بأنها ما كانت بالنسبة إليه سوى جسد أخطأ وانجرف في استخدامه بعد أن أفقدته هي السيطرة .. بينما يظل ولاؤه .. وحبه .. وإعجابه موجها نحو تلك الفتاة النحيلة والعادية ... كان يقتلها ..
لقد كان الأمر وكأن الزمن يعيد نفسه من جديد ... وكأنها تنبذ مجددا لأجل الفتاة الأثرى ... إنما هذه المرة لم يكن الثراء هو ما يميز أمان غالي عنها ... لأن فراس أبدا لن يهتم بمدى ثراء والدها وقد امتلك هو نفسه الدنيا وما فيها ....
كلمات خلدون جعلتها تفكر بذعر بأن فراس الحولي ربما يحب أمان غالي بنفس الطريقة ... بأنها كانت طوال تلك السنوات تنفخ في قربة مقطوعة ... تتقرب منه ... تكسب ثقته واحترامه .. تكون له اليد اليمنى كلما احتاجها .. سنتان ... سنتان كاملتان وهي تخطط ... تتبع الطرق التقليدية في كسب حب وإعجاب رجل غير عادي مثله .. أن تكون جميلة .. أن تكون ذكية .. أن تكون كفؤة ... لتدرك بأنها رغم كل شيء كانت تفتقر إلى كل ما يستطيع جذبه ... الأشياء الفطرية التي تمتلكها أمان غالي ..
( أمان ذكية .. شجاعة .. متمردة ... عنيدة ... شقية ... حكيمة .. وفي الآن ذاته .. أكثر النساء طفولة على وجه الأرض )
كيف لها أن تنافس كل هذا ؟؟؟ كيف ؟؟
لم تشعر جيرين منذ تخلى عنها حبيبها الأول لأجل امرأة أخرى ... عندما اتخذت قرارا حارقا بألا تفقد السيطرة مجددا ... بألا تسمح لعاوطفها أن تحكمها أو تثنيها عن الوصول إلى أهدافها .. ألا تسمح لامرأة أخرى أن تسلب منها ما تريد ... لم تشعر جيرين قط بكل هذا الخوف وفقدان السيطرة ..
الأمر تجاوز بكثير بالنسبة إليها حاجتها للحصول على فراس الحولي ... لقد أرادت أن تهزم تلك الفتاة .. فإن لم تستطع بالوسائل التقليدية ... هي لن تتردد في استخدام الوسائل الغير تقليدية ... أو القانونية ...
لفت انتباهها مجموعة الرجال كانوا يقفون في إحدى الزوايا ... يدخنون ويتبادلون النكات الفظة في الآن ذاته .. والمغازلة الوقحة لكل أنثى كانت تمر من أمام أعينهم .. نظرت حولها للحظات .. قبل أن تتخذ قرارها فتسير نحوهم .. لافتة انتباههم فجأة إليها .. ودافعة إياهم للاعتدال في انتظارها وأحدهم يصدر صفيرا مستفزا .. بينما الآخر يقول :- انظرو من جاء ليطالبني بزيارة زوجية ..
:- اسكت يا سردار ... ألم تتعرف إلى خطيبتي ... بالأمس كنا معا وكنت ...
قاطعت مزاحهم الوقح وهي تقول بصرامة :- هلا انتهينا من لعب المراهقين كي أتمكن من العثور على من يساعدني ؟؟؟
احتقن وجه أولهم .. وهو يقترب منها قائلا بعبوس :- ماذا تريدين يا امرأة ؟؟
رفعت رأسها وهي تقول بحزم :- أنا هنا لرؤية شخص اسمه حسن ...
ساد الصمت للحظات بين الرجال .. حتى قال سردار واجما :- أي حسن تعنين ..
:- حسن فقط ... الرجل الذي صمتم خوفا منه حتى في انعدام وجوده .. هذا الحسن الذي أريده .. إن كنتم لا تعرفون مكانه .. فأنا سأبحث عنه في مكان آخر .. وإن كنتم تعرفون وترفضون إخباري .. أنا متأكدة بأنه لن يكون مسرورة لفعلتكم هذه .. خاصة أنني أمتلك شيئا أظنه يريده بشدة ...
ارتفع صوت خشن جعلها تجفل وهو يقول من ورائها :- من الأفضل أن تكوني محقة .. وأن يكون ما لديك يستحق العناء ..
التفتت نحو الرجل الضخم والخشن الجسد والملامح ... لحيته الغير مشذبة لم تستطع إخفاء آثار الندوب التي شوهت وجهه .. ضربات سكين على الأرجح .. إلا أنها لم تزد مظهره إلا خشونة وإخافة وهو يكمل ناظرا إليها بعينيه القاسيتين :- لأنك تقفين الآن بالذات في حضرة الحسن الذي تبتغين ..
أنت تقرأ
رسائل من سراب(الجزء السادس من سلسلة للعشق فصول)مكتملة
Romanceرواية بقلم المبدعة blue me الجزء السادس من سلسلة للعشق فصول حقوق الملكية محفوظة للكاتبة blue me