الفصل الثالث عشر

4.2K 342 24
                                    

في منزل فراس أل غانم

كان الجميع مجتمعون في مجلس الرجال وعلى وجوههم الوجوم والضيق..كانوا ينتظرون الخبر الهام الذي سيُطرح في مجلسهم كما قيل لهم
وقبل أن يكمل عقرب الساعة دورت.. بخطوات واثقة تقدم نُصير من مجلس الرجال الذي انعقد في منزل أميرة الغانم..كان الجميع في انتظاره بنائًا على طلبه اليوم صباحًا ليعلن عن شيء هام لا يمكن تأجيله
وبعدما ألقى التحية على الجميع وجلس جوار فراس وقال بنبرة قوية اتشحت بالهدوء والرزانة...
-(منذ أسابيع انعقدت جلسة هنا لأجل براء ولد فايز رحمه الله، جميعنا قُلنا أن الطفل من حق عائلة الغانم، ولن نتركه يعيش في كنف عائلة وضعت بصمة لا تُمحى في عائلة غانم)

قاطعته أميرة بنبرة حادة هازئة فشلت في كبحها...
-(لهذا أخذت المرأة وهربت بها يا زينة الرجال؟!
أراك تخطب فينا وكأنك كبيرنا ونحن لا ندري، كف عن هذه الأفعال وأعد الطفل لنا واهنأ بالداعرة والدته)

شدد نُصير على قبضته بقوة وقد بدأت الحدة تجتاح جسده الهادئ، هكذا هي أميرة الغانم، تستطيع إثارة الغضب في النفس بكل سهولة، تملك من الكراهية والحقد ما يجعلها بوق لإبليس وأعوانه
تنفس الصعداء يهدأ نفسه قبل أن يقول بنبرة جلمدة ووجهٍ هادئ لا يظهر فيه سوى البرودة والا مبالاة...
-(جاء الوقت لتكفي عن سب الناس يا خالة، فما تقولينه في حق الناس بيمينك، يُرد لنا في بنات العائلة بشمالك..فلا داعي للسب والقذف)

انتفخت عروقها بعصبيه وبدت في أقصى درجات الغضب والجنون حينما سمعت كلماته التي تحوى تلميح خبيث عما حدث مع فلك، فا انتفضت صارخة بجنون أسود تزجرة....
-(أجننت يا ابن فاطمة، تقارن بين الـ... وابنتي زينة البنات
ذهبت لتأتي بولد ولدي، فجئتنا بسحر الغانية وتتبجح في وجوهنا؟!)

قبل أن ينطق فراس أو أحد الرجال بجملة واحدة، وقفت نُصير هو الأخر وأخرج ورقة من جيب سترته ووضعها بقوة على الطاولة قائلًا بحدة...
-(ولدك رحمه الله ذهب لعائلتها بقدمه، وتزوجها وأخفى هويته عنهم ليزوجوه لها دون أي اعتراض، فإن كنتِ تودين إلقاء اللوم فا ألقيه على ولدك يا خالة..أما مرام التي تقرنيها بكل سُبابك..فهي والدة حفيدك، شئتِ أم أبيتي..ومنذ اللحظة هي جزء من عائلة الغانم
بصفتها والدة الحفيد..ولأنها زوجتي)

صمت ثقيل أطبق على الجميع بعدما أنهى كلماته الحادة الصادمة لهم.. كان الجميع يحدق في وجهه بلا استيعاب
زواجه من مرام بالذات كان شيء عُجاب.. خاصة وقد نال من أذى والدتها وعمتها هو أيضًا..تفككت عائلته بسببهم
ومروا بما هو أسوء
وبالأخير يتزوجها !!؟

حينها تحدث عمهم والد عنان بنبرة غاضبة ظهرت فيها مدى استنكاره ورفضه لما سمعه قبل لحظات...
-(كيف تتزوج دون العودة لنا من الأساس..وكيف تتزوج هذه المرأة خاصة، فايز رحمه الله ونعلم انه متمرد طائش تزوجها نكاية فينا..أما أنت يا عاقل ياكبير أخوتك، لما تزوجتها وأنت أعلم الناس بما حدث من عائلتها الوضيعة)

كلنت النظرات مصوبة نحوه وكأنها بنادق محملة برصاصات الاتهام والخيبة المروعة، يدري أن زواجه صدمهم، وزواجه خاصة من مرام لم يكن سوى قنبلة موقوتة ألقاها في وجوههم دون أي تردد
هو بالذات...نُصير محمود أل غانم
أكثر رجال العائلة عقلًا وذكاء، والأقرب لقلوب أعمامه
لشدة هدوئه وحكمته..ولكن الأن وبكل برود، كسر اصنامهم عنه ووضعهم في صدمة لا تنتهي
تجاوز عن صدمتهم وجلس مره أخرى ينظر في الوجوه بهدوء، قبل أن ينظر لعمه ويقول هادئًا مسترخيًا...
-(لا اظن انك تحتاج لسماع أسبابي للزواج منها، المهم انني تزوجتها، ولم يخرج الطفل من القبيلة أو العائلة، دون أن نحرمه من والدته أو نتركه لعائلتها الوضيعة كما تقول يا عمي)

اندفعت صرخات أميرة الغاضبة، وكاد الغضب يجعلها تقفز أرضًا من شدة الانفعال والجنون، وهي تنظر لفراس ولدها الواجم والصامت تمامًا دون أي كلمة وكأن ما يقال أمامه لا يستدعي سوى الصمت، فصرخت غاضبة...
-(فراس لما أنت صامت، ألا تسمع ما يقوله، بعثته ليأتي بطفل فجاء وقد تزوجها..ألا تسمع ما يقوله)

نظرة حلدة ثاقبة صوبها فراس لوالدته كي تكتم جنونها وتكف عن الصراخ بين الرجال وكأنها ممسوسة فقال بحدة...
-(سمعت ما قاله، نُصير أخبرني أنه سيتزوجها وأنا وافقت
ولي علم بكل شيء قبل حدوثه حتى)

لم تأبه بنظراته ولا تحذيرة، لم تستطع كبح صدمتها حينما سمعته يُصرح بعلمه عن زواجه..كان يعلم قبل الجميع أنه سيتزوجها وصمت؟!
حركت رأسها نافية وقد تعاظمت النيران في عيناها وما عادت قادرة على استيعاب أي شيء حولها فقالت مستنكرة مصدومة...
-(كيف وافقت على هذا الهراء، هل سحرتك هي الأخرى، هل فقدت عقلك يا فراس)

صمت فراس لحظات قبل أن ينظر لنُصير نظرة ذات مغزى، تحمل بين طياتها ثقة مُطلقة كجبالٍ لا تهتز أبدًا، وتحذير أسود يمنعه أن يفعل ما يهز ثقته به، قبل أن يقول بهدوءٍ واجم واعد...
-(وافقت بعدما أخبرني أنه سيأتي بشمس ويلقيها أسفل قدمكِ يا أمي)

-(مــاذا ؟!)

تجاهل فراس صيحتها المستنكرة وتحدث بهدوء وهو يوجه كلماته لها وللجميع بكل قوة وحسم....
-( لنكن أكثر وضوحًا.. نحن لم نهتم بالطفل حينما علمنا بوجوده، ولن يفيدنا الانتقام لو كان من شخص لم يكن طرفًا فيما حدث...انتقامك يكون من شمس وشقيقها
أما مرام وبراء خارج كل هذا)

كانت لكلمات فراس أثر واضح على أميرة التي هدأت ثورتها نوعًا ما، وبدأ عقلها يعمل بسرعة وهي تحلل ما قيل لها وتوزنه بموازينها الخاصة...ولكن نظرة واحدة لوجه نُصير المسترخي، وثقته الكبيرة بنفسه، دفعتها لتقول بصوتٍ حاد هازئ يتحداه أن يبقى على هدوئه...
-(ولكني أريد حفيدي أمام عيني هنا)

محاولة فاشلة جعلت نُصير يبتسم ليستفز الغضب فيها
ثم يقف واضعًا يديه في جيوب بنطاله قبل أن يقول بهدوءٍ تام، ونظرة مسترخية كسولة لمع العبث فيها...
-(لا بأس يا خالة، بما أن هذا المنزل هو منزل العائلة بالأساس، وكان لنا جميعًا حق فيه لولا ما حدث في الماضي، وصار ملكًا لأخي فراس)

ربت على كتف فراس بمحبة وتقدير واضحان
قبل أن ينظر لأميرة الواجمة مره أخرى، ويصوب لها أكثر نظراته تحدي وسخرية قبل أن يكمل قائلا...
(سنأتي أنا زوجتي ونعيش فيه معكِ، ويكون حفيدك أمامك أيضًا)

بصقت كلماتها بترفع غاضب وازدراء يصاحب اسم مرام فقالت برفضٍ قاطع...
-(الداعرة لن تطأ منزلي يا ابن فاطمة)

اقترب نُصير منها ومال على كتفها بنظرة ساخرة مهددة وقد اختفت نظرة الاسترخاء من عينيه وحلت أخرى سوادء تُشبه تظرة الجنون في عيناها.. لم تكن نظرتهما هي الرابط الوحيد بينها وبينه..بل ما حمله جوفه من سرٍ تعلم هي مدى قبحه وسواده
فخرج صوته ثقيل محذر وخافت وهو يقول ..
-(للصبر حدود يا خالتي، محبتي لفراس لا تشملك، ولا تجعلي كراهيتك تُنسيك أنني أعلم بما حدث في الماضي.. صمتي لا يعني نسياني..أنا لم أنسى أي شيء يااا خالتي)

شحب وجهها من تهديده الذي حمل ما يجعلها تصمت تمامًا دون أن تقول حرفٍ واحد. بدى الذهول والنكران واضح في عينيها وهي تقرأ الاتهام، نظرة رأتها في عينيه قبل سنواتٍ طويلة وكانت بداية كراهيتها له...وهو الأن يُذكرها بما يؤرق مضجعها.
جريمة هو فقط يعلم أنها اقترفتها..لا ليس هو فقط، بل هو وشمس. وبغياب شمس أصبح هو الوحيد الذي يعلم قبح ما فعلت في الماضي. وهذا ما يجعلها تكرهه أكثر وأكثر بعدما كان أقرب ابناء فاطمة لقلبها.

أما نُصير فحضرت لعقله ذكرى قديمة جدًا كانت تجمع أميرة وشمس.. حينما كانت جالسة معها في أحد الغرف، تهمس لها بكلماتٍ حادة واضحة لم يسمعها سوى شمس وهو، وورقات مالية دستها في كف شمس بعدما أخبرتها بقبح ما تريده
وما كان من الأخرى سوى تحريك رأسها بطاعة مع الوعد أن تفعل كل ما قيل لها دون أن تأتي بإسمها نهائيًا، ولا من رأى ولا من درى.

ولكنه رأهما وسمع كل شيء، حينها لم يستطيع سوى النظر لخالته بشحوب لم يستطع اخفائه خاصة حينما وضح وجهه من شق الباب وعلمت أميرة أنها سمع ما دار.. حينها أدركت أن هناك دليل إدانة يسير على الأرض قربها...

انتبه من شروده ونزع نظراته عن أميرة وقد ضاق صدره من نظراتها الكارهة والحاقدة، وابتعد عنها ينظر لفراس ولجميع من حوله يقول بنبرة ثابتة هادئة لم تتأثر بتوابع اجتماعهم...
-(لقد قُلت ما كنت اود اخباركم به، المرأة صارت زوجتي، وجزء من العائلة، وقريبًا ستأتي وتعيش معي بصفتها جزء من عائلة أل غانم..انتهى حديثي)

                               ***
دلف المجلس بخطوات بطيئة ينزر لوجه والدته العاتب ونظراتها التي حملت حزن استطاع تمييزه فورًا
اقترب من الأريكة ومدد جسده عليها ملقيًا رأسه في حجر والدته كما يفعل منذ صغره.
وكما اعتادت والدته، مدت أناملها تعبث في خصلاته تداعبها كما كان تداعب خصلاته وهو طفل ومراهق وشابًا وبالأخير رجلًا..ولكن هذه المره جاء صوتها عاتبًا يحمل حدة أم حزينة من ولدها...
-(تزوجت دون أن تخبرني يا نُصير؟!)

جعد جبينه ولم يفتح عينه وينظر لها، كان يخشى رؤية الحزن بشكلٍ أعمق..يكره حزن والدته..يتمنى لو يستطيع جعل قلبها محصن عن أي خيبات وحزن كما كانت تفعل معه وهو طفل.
ولكنها ديون لا تُرد..ومحبة لا تُقاس، فمقاييس الأبناء تختلف عن الأهل..ومقاييس والدته تختلف عن الجميع.
تبسم وحاول إزاحة حزنها بخفة ولطف كما يجيد دائمًا، فقال بنبرة مازحة كسولة....
-(الأخبار تنتشر كالنار في الهشيم)

توقفت أناملها في خصلاته وقالت بصوتٍ حمل حدة غلبا غلى عتابها فقالت...
-(وهل كنت تود أن تخفي عليّ أكثر ؟!)

فتح عيناه وجذب كفها المُجعد من شعره، ليطبع على ظاهره قُبلة معتذرة، وقد جاء صوته هادئ مواسيًا وهو يقول برفق...
-(جئت الأن لأخبركِ يا فطوم)

نظرت فاطمة لولدها مليًا وقد تلاشى عتبها عليه، لم يبقى فيها سوى الحنان والمحبة، والقليل من الحزن الذي شاب نظرتها اللينة له..كيف تعتب على نُصير ولدها البكر
ليس ولدها فقط، بل وسندها وشقيقها وعالمها
عكازها في الدنيا وأنيسها الذي لم يخيب خاطرها أبدًا.

كانت تدري أن لزواجه سبب وجيه لا تعلمه، وأن ولدها لا يفعل شيء دون تفكير مسبق فيه..فهو لا يقدم على شيء متهور ولا يراهن على تصرف خاسر
ولكن كل هذا لم يمنع إرادة الأم في نفسها.. كانت تريد مشاركته شيء هام كهذا..كانت تريده أن يتزوج زيجه طبيعية تجلب لقلبه السعادة كما يستحق.
انفلتت منها تنهيدة عميقه قبل أن تعاد تمسيد خصلاته وهي تقول بصوتٍ خافت حزين...
-(سامحك الله يا ولدي، حرمتني من الفرحة بزواجك، هُنت عليك يا نُصير أن تفسد فرحتي بزواج ولدي البكري؟!)

-(هذا عقد قران لا أكثر يا أمي)

-(وحينما خطبت الأخرى كانت خطبة لا أكثر أيضًا..لم أعد أفهمك يا نُصير، صرت كوالدك غير واضح وطُرقه مظلمة)

استوى في جلسته ونظر لوالدته مليًا قبل أن يقول بهدوء العارف...
-(لا تنكري أنكِ كنتِ تعلمين أنني سأتزوجها يا أمي، أنتِ أكثر من يعرفني في الدنيا)

كان محق، هي بالفعل كانت تدري أن مرام ستمثل شيء هام في حياة ولدها، وهذا ظهر على أفعاله نحوها وحمايته المبالغ فيها لها ولطفلها.. لم تكن حماية نابعة من شهامة عارضة، أو موقف رجولي ينتهي عند نقطة معينة.
بل كان لولدها دوافع أكبر تجعله يفعل كل هذا بنفسه ويُعقد الأمور بيده
فهو كان قادر على توفير الحماية لها عن طريق أشخاص أخرين..كان قادر على فعل أي شيء يجعله خارج الصورة نهائيًا وبعيد كل البعد عن العداء الذي شنه ضد أل غانم.. ولكنه اختار الطرق الأصعب ليقتنص ما أراده
هكذا كان نُصير كوالده، لا شيء يقف في وجهه، ولا أحد يمنع إرادته الحرة.
قطعت أفكارها وبدى وجهها جاد رغم العتب في عينيها...
-(ولهذا كانت خيبتي بزواجك كبيرة، تمنيت لو تُشركني في أمورك وتضعني في الصورة كي لا تعايرني أميرة بك وبزواجك، وتخبرني أنني جاهلة بما يحدث مع أولادي)

أغمض نُصير عينيه بضيق وهو يفكر في أفعال اميرة الحاقدة، التي لا تكف عن محاولاتها في جرح والدته بكل ما تملك وما لا تملك..امرأة خلقت من نار وصارت بلاء حتى على أقرب الناس لها.. حتى فراس وشقيقتها !!!
تنفس بضيق قبل أن يقول معتذرًا...
-(لا عليكِ منها يا فطوم..أنتِ الخير والبركة)

تغاضت فاطمة عن اعتذاره وتسائلت بعد دقائق من الصمت المطبق...
-(أين هي الأن ؟!)

-(في منزل الساحل..عند نجاة)
كان سؤالها أصعب من عتابها السابق، ولكنه لم يملك إلا تمتمته بإجابته بنبرة حذرة وهو يدري مدى حساسية والدته من اسم " نجاة " وكل ما يتعلق بها عامة

خيم صمت ثقيل عليها، تستوعب وجود من علمت انها صارت زوجة ولدها عند زوجة زوجها الراحل
قبضة قاسية أمسكت قلبها تؤلمة، لم يكن ألم جديد عليها
بل ألم اختبرته سابقًا ألف مره
ابتلعت المراره في حلقها، وتنهدت قائلة بعد صمت...
-(وكيف حال نجاة ؟!)

كان سؤال غيور لم يخفى معناه على سمعه وقلبه.. سؤال حزين وحاد، ذكره بسنوات طويلة مضت وتكرر فيها ذات السؤال عدة مرات بذات المعنى.
ولكن رغم الغيرة كان يدري أنها لا تكره نجاة
تكره الحب الذي تلقته من والده، ولكن لم تكره والده ولا نجاة..فاطمة أكثر من يؤمن بالقضاء والقدر
وكانت تدري أن نجاة قدر زوجها الراحل..تدري أن لا راد لقضاء الله وقدره..ولا حُكم على الحب وفروضه.
ورغم كل شيء كانت والدتها أقوى من أي شعورٍ حاقد
أقوى من أي شيء يلوثها أو يلوث حبها الطاهر لوالدته
نقية كنجاة، وكأن والده موعود بكل ما هو جميل ونظيف
محظوظ والده..محظوظ

خرج عن شروده أخيرًا، يُجيب على سؤالها المعلق بهدوء...
-(على حالها..لازالت نجاة التي رأيتها قبل سنوات)

-(لازالت نجاة التي أحبها والدك؟!)

سؤالها المحشرج ودموعها اللامعة في عينيها جعلته يشدد يده غلى كفها يعاتبها، أو يذكرها بالحقيقة التي تتلاشاها بعنادٍ غريب، فقال برفق عاتب...
-(لم يحب أمي أحدٍ سواكِ يا أمي)

"ولكنه أحب نجاة أيضًا"
صدحت هذه الجملة في نفسها ونفسه
كلاهما يعلمان أن محمود شعر بالحب نحو نجاة ولو بالقدر البسيط حتى لو لم يصرحا به..لن يختار أحدهم أن يموت في منزل امرأة لم يحبها..فكانت وصية محمود لأولاده في مرضه، أن يموت في منزل نجاة..كانت وصية مؤلمة، موجعة، نخرت قلب فاطمة كما نخرها زواجه من نجاة.
خرجت من شرودها مره أخرى، ومسحت الدمعة التي خانتها وتحررت من سجن عيناها الكتومة فقالت...
-(لا داعي لهذا الحديث يا بُني..رحمه الله رحمه واسعة)

-(لازلتِ تحبينه يا أم نُصير)

لازالت تحبه؟!
وهل خفق قلبها لأحد سوى لمحمود ؟!
هل تساقط دمعها حتى ذبلت عيناها على أحد غيره
لو كان السجود للبشر مُباح بعد الله، لسجدت لمحمود وابتهلت بالحب له..ولكن كان حبهما مؤلم وغريب
وانتهى بسرعة مفزعة فقالت...
-(كيف لا أحبه يا ولدي، كان والد أطفالي وولد عمي، ولكن الحمدلله على كل حال، هذه إرادة الله ومشيئته)

-(سامحيه يا أمي)

كبتت دمعة ساخنة كادت تطيح على وجنتها الحمراء رغم تجعد وجهها، كانت والدته جميلة جدًا، أجمل من أي امرأة قد رأها..رغم العمر وأثر الزمان عليها، إلا أنه يراها أجمل امراة في الدنيا..كما كان يصفها والده دائمًا
خرجت نبرتها دافئة محبة رغم الحزن والوحشة ..
-(سامحته قبل أن يطلب حتى يا نُصير، رحمه الله وأسكنه جنته)

جذب كفيها يُقبلهما برقة تشابه رقتها وجمال قلبها، يواسيها ويربت على كتفها يواسيها بصمت..يزيح عنها حزن الذكرى ويداوي ألم الماضي ويقول قبل أن يقف معلنًا رغبته في الرحيل، بعدما انتهى من أعماله في القرية ...
-(أمين..سأذهب الأن أنا أيضًا، وسأتي غدًا صباحًا)

كاد يغادر ولكنه توقف فورا ما ان صدح صوت والدته خلفه توقف خطواته وتخطف انتباهه حينما قالت...
-(نُصير)

التفت لها وهو يهندم شعره مره أخرى...
-(هممم؟!)

ابتلعت رمقها ورطبت شفتها الجافة قبل أن تقول بصوتٍ عاتب مُحذر لازال يحمل ما يكفي من ألالام الماضي، وقد رأت طيف زوجها محمود في ولدها نُصير..طيف مؤلم يكرر ما حدث سابقًا...
-(لا تجعل مرام نسخة أخرى مني أو من نجاة، يكفي ما رأته في حياتها.. لا تعلقها بك لو كانت أفعالك مجرد شهامة وتنتهي..لا تأخذ صفة كسر القلوب كما رجال الغانم يا بُني)

لم تظهر أي ملامح واضحة على وجهه أو انفعالات نتيجة لكلماتها، بل كان وجهه منغلق وصوته هادئ حينما قال وهو يتابع سيره للخارج...
-(تصبحين على خير يا فطوم)

نظرت لأثره بقلبٍ وجل خائف..لا تكف عن الخوف على أطفالها مهما بلغ عمرهم..لازالت تصاحبهم بمحبتها ودعواتها كالتي انطلقت على لسانها، تحاوط نُصير بها قائلة....
-(هداك الله يا ولدي ورزقك السعادة والرضا، وأبعد عنك كل كاره أو حاقد يارب)

أما نُصير فاتجه نحو سيارته، يصعد على مقعد السائق ويستكين للحظات، يسترجع كلمات والدته ويفكر فيها مليًا
وأنامله تسترجع نعومة مرام وتستحضرها في هذه اللحظة.. كان القرب منها عجيل ومختلف.. كمثل شهقة بعد اختناق
أو رجفة بعد نوبة صقيع
كان اقترابهما شيء يجعل الجسد متحفز لخطر محدق، رائحة اشتعال نيران، بقايا خيالات.. وضعفٍ عنيف غير مفهوم؟!

مال برأسه على عجلة القيادة للحظات وفكر هازئًا.. يقترب منها بغرض إرباكها، فتصيبه عدواها دون إرادة..
                            ***
انتهى الجزء الأول من الفصل
الجزء الثاني غدًا بإذن الله❤️

(غصونك تُزهر عشقًا) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن