الفصل الرابع عشر
لقد وقعنا في فخٍ يُسمى الحزن..
جالسة على الأريكة تُمسك كوب مشروبها وتنظر لطلفها الذي يلعب أرضًا بكل سلام وهدوء.. كانت هي الأخرى ساكنة, هادئة.. لا تجد في نفسها أي حاجه للحديث .. لا تجد دموع ولا قلق ولا عتاب ولا غضب, كانت كتمثال حجري لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم, رغم أن حالتها النفسية تستوجب ردة فعل متأثرة بسبب ما يحدث معها
ولكنها لم تجد ي نفسها سوى الصمت.. ما عادت قادرة على الحزن أو الحديث, لقد ضاقت بها الدنيا وهي تبكي, ضاقت بها نفسها من البوح بما لا يفيد
زفرت زفرة حارة أخرجت بعض الحرارة التي تكتنف جوفها, منذ أن حادثت شقيقتها فاتن وحالها زاد للأسوء, فقد سمعها والدها وهي تقول بكل وضوح أنها تزوجت.. أغمضت عينيها وعضت على لسانها وهي تتذكر ذلة لسانها التي وضعتها في موقف لا تحسد عليه أبدًا مع والدها
عودة لوقتٍ مضى..
مسحت مرام على جبينها وشعرها للحظات, ثم ضحكت دون مرح.. ضحكة تعبر عن وضعها في الوقت الحالي.. ضحكة تائهة خاوية من أي منطق أو عقل, ثم قالت..
-(لقد تزوجت يوم أمس)
خرجت صيحة عالية من فاتن ولكنها امتزجت مع صيحة رجولية أخرى, نبرتها تعود لوالدها المصدوم..
-(مــاذا ؟؟)
-(أبي)
لفظتها مـرام وهي تشعر بالشوك ينبت في حلقها شهقت بفزع وهي تتمسك بالهاتف محاولة ألا تُسقطه أو تسقط هي أرضًا حينما سمعت صوت والدها وهو يصرخ عبر الهاتف بنبرة غير مصدقة تحمل جنون وعدم استيعاب..
-(ما الذي تقولينه يا مـرام.. هل جننتِ؟؟)
كاد بكائها المذنب يخرج من حلقها عالًا وتستنجد بوالدها مما حدث لها, تسأله أن ينقذها من عائلة غانم ومن نفسها ومن كل شيء.. ولكنها تذكرت ما يؤلمها.. تذكرت أن والدها شريك فيما حدث لها, والدها جزء من ماضي تدفع ثمنه غاليًا هي وولدها براء.. والدها الذي هرب في الماضي من عائلة أل غانم, فكيف تستنجد به؟؟
تنفست الصعداء وحاولت أن تتحكم في نفسها قبل أن تعاود الحديث مره أخرى بهدوء رغم الارتباك والفزع المرسوم على وجهها..
-(لا يا أبي, لقد تزوجت حقًا يوم أمس.. تزوجت نًصير الـ...)
صمت قد أطبق على الضفتين, هي تنتظر رده بوجهٍ شاحب وتتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها بعدما حدث, عقلها يؤنبها وروحها تتعذب بعد كل ثانية تمر على صمت والدها.. أما أحمد فكان على الجهة الأخرى لا يجد ردًا لمَ سمعه الأن.. شحوبها يوازي شحوب فاتن الجالسة جواره بصمتٍ مصدوم ولسان معقود بلا استيعاب
بدى الشيب واضحًا على رأسه, وعيونه الغائرة تغوص في وجهه المجعد من العمر والهموم.. كان العذاب مرسوم بدقة في عينيه التي حملت دموع القهر والصدمة.. فلم يجد في نفسه لقدرة على الحديث إلا بسؤالٍ جاف يتيم خرج من حلقه المجروح..
-(أين كنتِ طول الأسابيع السابقة)
تدري نبرة الجمود والغضب المكبوت في صوت والدها
هو الان في أقصى درجاته غضبًا وقهر.. على شفا عصبية ستحرق الأخضر واليابس
على قدر هدوئه وسماحته, إلا أن غضبه وعصبيته لا يستهان بهما
تمالكت نفسها وحاولت تنظيم دقات قلبها المتلاحقة من فرط الخوف العصبية, قبل أن ترطب ثغرها الجاف وتغمغم بخفوتٍ متردد..
-(أنا في منزل الرجل الذي تزوجته يا أبي, ولكني لست وحدي بل معي أ...)
"أنا في منزل الرجل الذي تزوجته
أنا في منزل الرجل الذي تزوجته
أنا في منزل الرجل الذي تزوجته"
بدت الجملة تقرع كالأجراس في رأسه وأغشت عينيه عن حقيقة ابنته، لم يعد يسمع صوت مرام، بل ظهر لعقله الماضي المتشخص في شمس، شقيقته التي وضعت رأسه أرضًا بما فعلته، جلبت له العار حتى ما عاد قادر على النظر في عين أحد.. شقيقته التي ذبحته بسيف الغدر، شقت روحه ورجولته وكرامته
ما عاد يرى مـرام ابنته، بل نسخة أخرى من شمس
نسخة أخرى ملطخة بالعار والخطيئة المُره
حاول استعادة أنفاسه المحشرجة وهو يتشبث بالهاتف ولسانه الثقيل انطلق يغمغم بنبرة جافة مُسننة كخناجر سامة قَصدت قتلها ألف مره...
-(أخرسي ولا تقولي شيء أخر.. لي أسابيع أبحث عنكِ كما المجنون, أسال عنكِ في منازل كل من نعرفهم, ذهبت أتذلل لعائلة الغانم تخبرني عن مكانك, تحملت لعناتهم ومعاملاتهم لي على أنني جرذ حقير.. كل هذا لأجل بنت معدومة الحياء والشرف مثلك)
شهقة عالية خرجت منها وجرحت حلقها، ولكن ليس كالجرح الذي شق قلبها نصفين من كلمات والدها، كان الشحوب يحتل وجهها والدموع تغرق النظرات في عينيها
أناملها ترتجف وقد برد جسدها كاملا من قُبح ما نُعتت به
لا تصدق أن والدها يقول لها هذه الكلمات القاسية، لا تصدق ما وصفها به بكل بساطة؟؟
تحدثت بأنفاسٍ لاهثة ونبضات مضطربة ألمتها أكثر...
-(أبي ارجوك لا تقول هذا أنا..)
قاطعها بعنفوانٍ وقسوة مكسورة خدشتها ألف مره...
-(أنت لستِ ابنتي, وأنا بريء منكِ إلى يوم الدين)
انهارت أرضًا وانفجر البكاء الصامت منها، لم تستطع سوى الهمس متوجعة، تُثنيه عن المتابعة....
-(أبي ارجوك)
-(لا تحاولي الحديث مع فاتن مره أخرى, لا تلوثيها بفجرك, ولا تعودي, لأنكِ لو عدتِ سأفعل فيكِ ما عجزت عن فعله في شمس في الماضي)
أنهى كلماته الحادة وتبعتها صفارة إغلاق الخط نهائيًا، انتهى سيل كلماته القاسية واختفى صوته عنها
ضغطت الهاتف على أذنها ولازال لسانها يردد في بكاءٍ متألم وروح مجروحة سئمت الألم...
-(ابي لا تغلق ارجوك..أبي أرجوك اسمعني يا أبي)
حينها تلقفتها نجاة بين ذراعيها تواسيها وتمسح على رأسها بحنانٍ تغمغم مُردده أيات من الذِكر الحكيم
تقرأ عليها لتهدأ أحزانها وتنضب دموعها
فتشبثت بها مرام وبكت على صدرها بحرقة، اندفعت شهقاتها المُعذبة وكأنها حيوانٌ جريح ينازع للحياة بتعبٍ كسير... وكلما انضبت دموعها، كلما تدافعت لعينيها من جديد وهي تسترجع ما قيل لها من أقرب الناس لها
فلا الدموع تكفي ولا الأهات تختفي
عادت من شرودها على بكاء صغيرها الذي مل الألعاب وتركهم ينظر إليها ببكاءٍ حار يطالبها أن تحمله وتقربه لها
فتبسمت له ابتسامة مُزجت بالحنان وحزنها
قبل أن تترك مشروبها البارد جانبًا وتقف تتلقفه بيدينا المُحبتين، وتقربه لحضنها هامسة بخفوتٍ رقيق...
-(ما رأيك لو نسير على الشاطئ سويًا، أنا وأنت فقط !؟)
قابلها بعينان واسعتان جميلتان، تأسران براءة العالم وسحره، ودموعٍ رقيقة تشابه الدمع في عين والدته
رفع اصبعه لفمه وأخذ أنفاسٍ متتابعة من البكاء الذي خفت ما أن حملته مرام
اهتزت ابتسامتها قبل أن تمسح على رأسه هامسة بشجن...
-(أظننا يا براء صرنا وحدنا في العالم، لا أحد لي سواك، ولا أحد لك غير الله وأنا.. لا بأس يا براء، فإن كان معنا الله فمن علينا ؟!)
جذب وشاحها الصوفي ووضعته حول كتفيها بيدٍ واحدة، وبيدها الأخرى ضمت براء لصدرها كي يأخذ من دفئها
ثم تحركت خارج المنزل، حافية القدمين..
تضع قدمها في الرمال الثقيلة وتسير رغم ثقلها
تتأرجح في خطواتها ولكنها لا تؤثر على براء المحمول بين يديها
لفحتهما نسماتٍ باردة بعثت الرجفة لجسد مرام، ولم تدفئها الخطوط الضعيفة لشمس السماء
أمامهما بحر واسع يأسر العين بزرقته التي اقتنصها من السماء الغائمة
كانت تسير على طول الرمال، تعانق طفلها وتهمس له بكلماتٍ خافتة، كلمات لم يفهمها الصغير الذي استكان بين أحضانها، ومال رأسه على صدرها بهدوء وسكينة
فأخذت مرام تردد بصوتٍ خفيض وعيون شاردة...
-(صدقني لم أكن أتخيل أن حياتك ستكون بهذه الشكل يا براء، لقد حلمت دائمًا أنا ووالدك أن تكون مستقر نفسيًا، حلمنا أن نعطيك الحنان دون أن نفسدك، نعلمك حيل الدنيا كي تستطع مواجهتها، حلمنا بالكثير ولكن...)
صمتت وقد غصت الكلمات في حلقها دون أن تُكمل وقد استرجعت ذكرى كانت وردية في الماضي
ذكري بهتت وصارت مُضحكة ومُبكية.
حينما علمت بحملها في براء
حينها كانت رقيقة، خجولة، لازالت تحتفظ بخجل العذارى ولون الورود.. انتظرت عودة فايز من عمله وقد تدربت مليًا على إخباره بطريقة عاطفية مُبتكرة
حضرت الطعام المُفضل له، وأعدت أجواء مثالية تليق بالمناسبة السعيدة
طعام لذيذ، شموع عطرية، ملابس أنوثية جذابة، أجواء ناعمة..كل شيء حولها ينطق بالجمال والروعة.
ارتبكت حينما سمعت صوت مفتاحة في الباب
نظرت لفستانها الناعم بملمس الحرير ولون البنفسج
خصلات ناعمة مهندمة على كتفها، تسترسل بنعومة بُنية
زينة وجهها الرقيقة التي حاولت جعلها خفيفة ذات تأثير ناعم على ملامحها الهادئة
ابتلعت رمقها ووقفت في منتصف غرفة الجلوس، تنتظره بحماس وتوتر وسعادة، مشاعر كثيرة ظهرت جليًا في عينيها... حينما دلف المجلس يتلاعب بمفاتيحه، وقف مشدوهًا من الأضواء الخافتة، وطلتها البهية الرقيقة
نظر لها للحظات وقال بحيرة امتزجت بإبتسامته...
-(ما كل هذا، تبدين جميلة و...)
قاطعته بنبرة متسرعة حملت حماسها والخجل الظاهر عليها...
-(أنا حامل)
كلمتان كانتا كفيلتان بقلب موازينه كليًا، لا تدري أو عبس أم ابتسم، هل أشرقت عيناه أم أن الظلام احتواها
لا تدري هل هو سعيد، أم أن صدمته صدمة سلبية حادة؟
مرت الدقائق تباعًا دون أي ردة فعل واضحة
جف حلقها وتوترت أناملها وهي تستشف منه وجوم لا يليق بسعادة الخبر الذي ألقته عليه
فتحت فمها وهمست بنبرة مترددة....
-(فايز ألست سعيد بالحمل ؟!)
زاغت عيناه يمينًا ويسار قبل أن يبتلع رمقه ويقترب منها سريعًا يعانقها وقد تدارك نفسه وجمع شتاته قائلا، وهو يطبع قبلة على وجنتها الحارة...
-(كيف لا أسعد بهذا الخبر الجميل، الحمدلله يا فرحتي الحمدلله.. عسى الله أن يجعلها ذرية صالحة)
عادت البسمة لثغرها وتوردت الوجنتين ولمعت العينين قبل أن تقول ضاحكة برفة ورضا..
-(تريدها فتاة)
حينها لمعت عيناه بنظر غريبة، حوت حسرة لم تفهمها وحبٍ ضعيف أعرج، لم يستقم في الحياة
ثم خرج صوته عميق مبحوح من التأثر...
-(أريدها فرحة)
عادت لواقعها ووقفت قدميها عن السير وقد تعبت من المسير، وألمتها الذكرى الملطخة بظل أنثى أخرى
كان يريدها فرحة تَيمُنًا بحبيبته السابقة..كان يراها في طيف أخرى.. يحاول جعلها نسخة من امرأة لم تُكتب له في الدنيا.. أي قسوة تلك التي يملكها
خارت قواها وجلست على الرمال أمام البحر، شاردة في الموجات المتلاطمة التي تُخلف الزبد الأبيض وتنسحب هاربة.. ومع كل موجة، تهرب منها ذكرى كانت تظنها سعيدة في الماضي
كانت تظن أن فايز تزوجها لأنه يحبها
كانت تظن أن حياتها مستقرة وماضيها خالي من الشوائب
كانت تظن أن الحياة ابتسمت لها حينما بعثت لها رجل كـفايز يحبها ويقدم لها حياة مميزة
كانت تظن..كانت تظن
ونسيت أن بعض الظن إثم...!
بدأ الوقت يسرقها ويسرق معه لحظاتها الشاردة، بدأت الشمس تغرق في الماء، والسحاب حولها يتلون بين البرتقالي والأحمر..
رجفة باردة تملكت جسدها قبل أن تشعر بحرارة تحتوي كتفيها وتمنع النسمات الباردة أن تخترق جسدها الضعيف
لحظات وشمت عطره يحاوطها ويسلك طريقه لرئتيها بسهولة بسبب معطفه الذي وُضع على كتفيها
رفعت وجهها الباكي ونظراتها التائهة المُزينة بالدموع
فوجدته خلفها، يقف ويحجب عنها رؤية ما خلفه
كان كما تراه دائمًا.. قوي، هادئ، رزين وخبيث
لا تدري أهو رسول خيرٍ أم شر.. لا تدري أينوي هلاكها أم انه يساعدها حقًا كما يظهر لها
رفعت وجهها لوجهه تنظر للهدوء المرسوم في وجهه
وللغموض الذي يكتنف عينه.. فلم يظهر لها سوى ما أراد هو إظهاره.. حينما انحنى لها يمسك كتفيها ويساعدها على الوقوف من الرمال، وينفض ملابسها مما علق فيها، ولازالت نظراته هادئة جادة.
لا تدري لما شعرت بالضعف فجأة، لم تعد قادرة على حمل براء الذي غفى بين يديها، ولا قادرة على الوقوف أمامه الهوينة.. فارتجفت ملامحها وخرجت من فمها كلمة واحدة، اتشحت بالضعف والجفاء....
-(نُصير..)
كلمة واحدة فقط التي خرجت منها، لا تدري أهي توسل
أم تعجب، أم غضب وجنون ؟!
لا تدري على أي أساسٍ قالتها.. وما الذي تنتظره منه
هل تنتظر إعتذار أنه كان سببًا في تبرأ والدها منها
أم اعتذار أخر بسبب ما فعله فايز بها
أم اعتذار ثالث عما لاقته من عائلة الغانم
ما الذي تنتظره بالضبط ؟؟
وأيًا كان ما انتظرته منه، لم يكن كردة فعله أبدًا
فقد استوى أمامها وأخذ الطفل النائم يحمله بيد ويضمه لصدره وكتفه.. وباليد الأخرى جذب رأسها يُلصقها لصدره وكأنه...وكأنه يضمها!؟؟
حينها لم تجد الوقت للصدمة أو الحيرة، أو التمنع
بل وجدت نفسها تركن إلى جسده وتتشبث بقميصه، قبل أن تُبلله بدمع عيناها الذي سال واختلط بشهقاتها العالية
لا تدري لمَ بكت الأن، هل بسبب شعورها بالضعف أمامه وانه أقوى منها، أم لأنها تعاني منذ عام وأشهر.. كانت تعاني من الفقد، وبعدها تحولت معاناتها لصدمة وحرب
والان تكاثرت معاناتها بسبب ما حدث ما والدها
لوهلة أدركت أنها تبكي حياتها على صدره
تبكي وترتجف وتشهق، وهو يربت ويضم ويعمغم بصوتٍ هادئ خفيض اختلط بالنسيم حولها...
-(لا بأس.. لا بأس)
طالت وقفتهما على الرمال، خلفها البحر وأمامها نُصير
الدفئ يحاوط جسدها والبرودة نابعة من قلبها
لا شيء يستطع إشعال نار الحياة في قلبها مره أخرى بعد أن طُفئت وخباها الألم، ما عاد شيء في الدنيا يستطيع إعادة السكينة لقلبها كما الماضي
اختفت مرام القديمة.. ماتت مع فايز مره، وماتت بعد فايز بعام.. وماتت بعد الحقيقة.. وماتت قبل أن تحيا.
تنهد نُصير وهو يضمها له ويعاود السير ببطئ كي يناسب خطواتها البطيئة، لازالت تدفن وجهها في صدره
ولازالت تبكي بخفوتٍ مكتوم، يناسب طبيعتها الهادئة الكتومة.. فلم يدري متى وصل لمنزل الشاطئ
فوجد نجاة تقترب منه بلهفة خائفة وهي تنظر لمرام الباكية وللصغير النائم على صدر نُصير فقالت...
-(أين وجدتهما يا نُصير، وما بها مرام تبكي هكذا)
مد براء لها لتحمله قبل أن يغمغم بهدوء منغلق...
-(خذي براء ضعيه في فراش مـرام، وانتبهي ألا يسقط أثناء نومه)
حركت رأسها بإيجابٍ وراقبته وهو يسير بمرام نحو غرفته الرئيسية.. لازال يحاوطها ويربت على كتفها بصمت.. لحظات وأُغلق الباب خلفهما
زفرت مطولًا قبل أن تُخرج هاتفها من جيب سترتها وتتحدث فيه قائلة بإرهاق واضح...
-(كف عن البحث ياربيع، لقد وجدها نُصير)
أما في غرفة نُصير
فسار بها إلى الفراش، يُجلسها بهدوء وينزع عنها كنزته
وينفض الرمال عن قدميها الباردتين
ثم مددها أسفل الأغطية ووضع رأسها على الوسادة وجلس جوارها يتأملها مليًا، يرى الدمع اللامع على وجهها
ويرى الرجفة التي استوطنت جسدها
اللون الأحمر أثر البكاء يكتسح وجهها، والنسمات الباردة عبث بخصلاتها شعثتها
مد أنامله يهذب شعرها ويمسح الدمع عنها قائلا بخفوت..
-(ما الذي حدث لهذا البكاء)
-(وما الذي لم يحدث ؟!)
لفظت جملتها بلسانٍ ثقيل من البكاء والبرودة، رغم أن البكاء شتتها وجعلها غائبة عن عالمها.. وشعور الاعياء ضرب جسدها فجأة فما عادت قادرة على التمييز
بصعوبة شديدة ميزت صوت نُصير الذي مال عليها وغمغم بصوت وصلها بصعوبة...
-(هل مرضتِ من جلوسك أمام البحر، حرارتك مرتفعة
مـرام... مـرام ؟!)
غاب صوته نهائيًا وما عادت معه على أرض الواقع
غابت عن كل شيء حولها، لا شيء يوقظها
لا أنامله التي ربتت على وجهها في محاولة لإيقاظها.. ولا صوته الذي ردد اسمها مره بعد أخرى.. لا شيء سوى الفراغ...
لازال الجفاء هو أسلوبها رغم تتابع الأيام بينهما
تعيش معه كإنسان آلي لا يفقه المشاعر، لا تنظر في وجهه ولا تجيب على أسئلته.. تتحاشاه وكأنه حيوان مختوم بالمرض.
حاول التقرب منها مرارًا ولكنها في كل مره تصده بأكثر الطرق قسوة وجفاء.. وفي كل المره تحاول أن تُثبت له أن الحب في قلبها اختفى وما عاد له مكان فيها.
ما عادت وطنه.. بعدما خانته كل الأوطان
ما عاد يملك أي سُلطة على قلبها الذي كان طوع أمره في الماضي، ما عاد للحب وجود، بعدما سرقت القسوة مكانه
تغيرت فلك، وتغير كل شيء فيها.
صارت أخرى لا يعلمها ولا يعلم طباعها
يستيقظ صباحًا فيجدها في غرفتها التي لم تبرحها منذ الليبة الماضية، مهما حاول الحديث معها لا تُجيب
مهما طرق على بابها لا ترد
تأكل بمفردها، وتجلس مفردها، وكأنها تعيش وحيدة
وما هو سوى ضيف ثقيل تنتظر رحيله بفارغ الصبر.
تنهد وتحرك من فراشه ويقف أمام النافذة بعدما أشعل سيجارة ينفث دخانها بقوة، يُخرج حنقه فيها
يحاول التفكير في طريقة تجعله يسترد حياته القديمة
كيف يجبرها على الاصغاء له، يجب أن تسمعه وتصدق أنه لم يفعل كل ما لُصق به.. حتى ولو كذبه كل العالم، يجب أن تصدقه هو.. يجب أن تثق به وتُدرك حقيقته حتى لو خذله الجميع، يجب أن تكون هي معه.
ارتسمت على ثغره بسمه ساخرة ملوحة بالمرارة
وهو يتذكر أحد المرات التي ذهب فيها لاسطبل الخيل خفية ليقابلها فيه.. حينها كان قد اشتبك مع والده في عراكٍ أدى للنتيجة المعتادة، ضُرب من والده وحصد الإهانات التي حفظها عن ظهر قلب.
لم يجد مكان يذهب إليه إلى هي.. لم يرى ملاذ وحضن دافئ سواها
حينها لأول مره تضمه بين ذراعيها وتمسح على ظهره ورأسه وتغمغم بكلماتٍ قلقه، تحاول أن تطمئن عليه
وما كان منه سوى التشبث بها بكل ما يملك من قوة
كغريق يتشبث بحبل نجاته كي لا يموت.
وهي حياته..فلك.. عالمه، ماضيه ومستقبله، حب طفولته ومراهقته
الفتاة المتعالية التي تركت جميع شباب العائلة وأحب المنبوذ فيهم، حُبها له كان بمثابة جائزة تميُز حصدها دونًا عن البقية.. مشاعرها وحنانها كانا كوسامٍ محفور على صدره، فـ الفتاة التي يتمناها الجميع، هي حبيبته هو فقط
هو من فاز بها رغم أنه لم يسعى لها مثلهم
بل هي من اختارته وجعلته يُحبها حتى الغرق.
هي الوحيدة التي تربت على كتفه مواسية بعد كل موقف أليم يتعرض له.. ثم تخبره بهدوء وثقة...
-(لا بأس، غدًا ستصير رجلًا حُر، ولن تسمح لأحد يعاملك بهذه الطريقة حتى لو كان والدك.. ولكن ليس بالخطأ
وانما بعقلك وتصرفاتك)
كانت شديدة الذكاء، قليلة الكلام، كثيرة الحب والأفعال
تملك من الثقة ما يخولها أن تُخرس ألف لسان
هكذا هي فلك.. أو هكذا كانت.
انتبه على السيجارة التي انتهت وأحرقت أصابعه
فأطفأها في إطار النافذة وهو يزفر بحدة، ويمسح على خصلاته الطويلة بحنق.. يحاول ألا يغرق في الماضي، وإيجاد حلول فورية وعاجلة لحاضره
فهو لن يستطيع العيش هكذا... هي بوادي هو بوادي أخر.
يخشى عليها من جنونه وفقدان صبره اللذان لن يقودانه سوى لمَ هو أسوء بكثير.. وحينها سيخسر أكثر وتكرهه أكثر.
التفت حول نفسه يجذب قميصه ويرتديه بعجل
قبل أن يتجه نحو غرفتها ويفتحها بقوة وقد ظهرت بوادر جنونه على وجهه بوضوح
وجدها جالسه على فراشها تُمسك كتاب تقرأ فيه باندماج، قد قطعه هو بهجومه المنفعل
وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة وجدته يقترب منها، ويصعد الفراش بركبته ويجذبها من مرفقها نحوه، يقتل المسافة بينهما قبل أن يقول بعصبية واضحة...
-(اسمعي يا فلك، أنا لن أصبر كثير على ما تفعلينه معي
تودين التأكد أنني لم أفعل أي شيء من القذراة التي بعقلك؟!.. سأثبت لكِ براءتي.. ولكن ليس لأمحو الصورة السخيفة التي رسمتها لي، لو نزعت حبي لكِ من قلبي حينها لن تعنين أي شيء لي، ما سأفعله لأنني أحبكِ فقط
لأجل حبي لكِ سأغفر كل ذلاتك معي.. ولكن لن أنساها يا فلك.. لن أنسى كل ما فعلتيه معي.. لن أنسى أنكِ وضعتني في قفص الاتهام ورفضتِ أن تسمعيني حتى)
حاولت جذب مرفقها منه دون أن تهتز منها سعره واحدة
لم تتأثر من غضبه وعصبيته، ولم يتحرك الشك في قلبها بعد كلماته، بل سددت له أحد نظراتها المتعالية قبل أن تقول بهدوء مستفز...
-(لا شكرًا لك، لو جئتُك باكية أرجو الغفران وأُقبل الأنامل، حينها أغلق بابك في وجهي يا عنان.. لا أسألك الغفران
ولا أريد منك دليل براءة، ما عاد داخلي شيء يريدك أو يريد أي شيء عنك)
ارتجفت عضلة في فكه واهتز ذقنه في إهانة موجعة قد أخفاها في نفسه، وضغط على مرفقها في غضب مكتوم قبل أن تندفع كلماته في قهرٍ وغضب...
-(لو كنتِ أي شخص أخر لكنت قتلتك الآن في أرضك..ولكن ما يُكبلني هو هو ما يمنعني، لأول مره أتمنى لو لم أحبكِ يا فلك)
أتم كلماته المُشددة وهو يعني كُل ما يقوله.. لولا حبه لها لمَ صبر على أفعالها وكلماتها الجارحة.. لولا شعوره وتعلقه بها، لكان نبذها كما نبذ جميع عائلته خلفه
لولا الماضي الجميل الذي جمعهما.. لكان أشد الكارهين لها.
ضحكة ساخرة ظهرت على فمها قبل أن يتجعد وجهها في حدة وتندفع كلماتها القاسية لصدره كالسهام المسممة..
-(وأنا لا أستغرب القتل على شخص مثلك، شخص تسبب في إيذاء شقيقته وجعلها ميته وهي على قيد الحياة
شخص زنى مع خطيبة أعز أصدقائه ولم يعترف بطفله منها.. شخص حقير وضيع لوث اسمي في الوحل كي يتزوجني.. أنا لا أستغرب عليك كل هذا القُبح يا عنان
أنت مريض.. شخص مريض، مصيره الأخرى هي مشفى الأمراض النفسية، أو يموت ويتعفن وحيدًا على فراشه)
نيران تأكل جوفه، شيء يؤلم قلبه.. بل أن قلبه ينتفض في ألم لا يستطيع تحمله.. هي الوحيدة القادرة على قتلته بكلماتٍ قليلة، دون خنجر أو بندقية.. قادرة على نحره كما تنحره الآن سكين كلماتها الباردة
تراخت قبضته حول مرفقها وفي عينيه نظرة مصدومة ارتسم فيها ألمه كعيون الشاة قبل ذبحها
لم يصدق أنها قالت كل هذه الكلمات بمنتهى البساطة
البساطة التي لم يمتلكها هو يقول كلماته بصعوبة، يسألها أول سؤال اندفع لحلقه...
-(كيف استطعتِ)
كيف استطاعت أن تُكيل له كل هذا دون أن يرف لها جفن واحد.. كيف ؟!
حاول أن يتمالك نفسه وألا يُظهر تأثير كلماتها عليه
استوى في وقفته وهو ينظر لها كأنها شيء غريب غير مألوف.. هذه ليست فلك.. مستحيل أن تكون فلك
اليد التي تربت بحنان لا تقتُل بقسوة
كيف لها أن تهون أوجاعه وتواسيه في الماضي، ثم تستخدم خنجر مُسمم وتضربه في قلبه الذي ربتت عليه في الماضي؟!
انفلتت زفره مرتجفة من فمه، ورفع أنامله الباردة يمسح على خصلاته، يحاول أن يتماسك ويخرج الكلمات دون أن يبدو مثيرًا للشفقة أكثر من ذلك
فقال بنبرة بدى فيها الجمود، وأخفى فيها حقيقة شعوره...
-(سأثبت لكِ أنني لم أفعل كل هذا.. وبعدها لا أود رؤيتك يا فلك، لأنني لو كرهتك سأُؤذيك.. لذا أنتِ طالق بعدما أثبت لكِ أن ظنك هو القبيح والقذر، وليس أنا)
أنهى كلماته واندفع بسرعة من الغرفة، ويترك الشقة بأسرها دون أي كلمة أخرى.. فلو قال شيء أخر
سيكون مؤلم لكليهما معًا.
نهاية الفصل
أنت تقرأ
(غصونك تُزهر عشقًا)
Romanceيناديها يا حفنة العسل فيسيل الحب في قلبها حارًا غصونك تُزهر غشقًا الرواية الأولى في سلسلة (لعنة تسمى العشق)