الفصل التاسع عشر

4.8K 342 31
                                    

الفصل التاسع عشر 1

أنهى عمله وجاء للمشفى كعادته منذ ثلاثون يومًا أو أقل.. أي منذ أن استفاقت مرام من غيبوبتها الطويلة
كاد يدخل غرفتها ولكن الشق الصغير في الباب أتاح له أن يراها ممدده على الفراش..
بدأ نُصير يحدق في وجهها من شِق الباب دون أن يبتدر ويدخل.. شعر أنه يود مراقبتها عن بُعد أولا قبل أن يقتحم سكينتها مع نجاة
يرى وجهها المتعب وابتسامتها الهادئة وهي تفتح فمها كي تأكل ما تدفعه لها يد نجاة.. كانت هزيلة، ضعيفة
لازال جسدها يحمل أثار الحادث اللعين.. ولكن شيء ما فيها اختفى؛ لمعان الخوف في حدقتيها وهي تنظر له، أو رجفة صوتها وخفوته حينما تحادثه !!
شيء ما فيها يجعلها امرأة اخرى غير مرام، شيء ما يجعلها تبدو وكأنها النسخة المحسنة منها.
كتم تنهيدة طويلة وهو يكبح أفكاره القلقة.. لربما غياب ذاكرتها عنها يجعله يتوهم أنها اختلفت عن مرام التي عرفها سابقًا.

إلى هذه اللحظة وهو لا يدري كيف يعاملها.. فهو يتعامل بتباعد منذ أن استفاقت مره أخرى من غيبوبة الحادث
يدخل لغرفتها ويطمئن على حالها بكلماتٍ محدودة جدًا، ثم يحمل نفسه وينتظر في رواق المشفى
في كل مره يتجاهل لمعان عيناها الحائرة من جفائه، وتساير جفائه بهدوء متعب.. ولكن في عينيها ألف سؤال ينتظروا اجاباته.
ولم تكن وحدها الحائرة من اسلوبه معها.. فهو أيضًا كان يتخبط بلا هوادة، هل يتعامل معها وكأنه غريب عنها كما كان منذ أن تعارفا
أم يعاملها كزوج مكلوم كما أخبرته الطبيبة يُسر قبل ساعات !؟

راح عقله يسترجع نقاشهما صباحًا؛ بعدما ورده اتصال منها تطلب منه مقابلة سريعة لمناقشة حالة مرام قبل خروجها من المشفى والعودة للسكن في منزلهم
لبى دعوتها فورًا وذهب لمكان لقائهما وقلبه يفيض بالقلق
ولكن حالما جلس أمامها واجهته بسؤالها الناري الذي أخفت شرارته خلف قناع هدوئها؛ حينما قالت بصوت متزن..
-(هل لك أي يد أو مصلحة خاصة في اصابة زوجتك يا سيد نُصير ؟!)

بدى الذهول واضحًا في عينيه واتسعت رقعة الاستنكار على وجهه وهو يتلقى سؤالها ببوادر حدة وصدمة من قُبح اتهام سؤالها.. فخرج صوته الرزين مثقول بغضب مكتوم ..
-(عفوًا ؟!)

تنهدت يُسر قبل أن تنظر مباشرة لعمق عيناه وتستند على الطاولة التي تحول بينهما وتقول بذات الهدوء وبرودة الاعصاب...
-(أعتذر منك، أنا لا أقصد اتهامك يا سيد نُصير، انما هو سؤال استنكاري.. سأعيد صياغة السؤال بشكلٍ أفضل
هل هناك خلاف يجمعك بمرام قبل الحادث مباشرة؛ ليجعلك تعاملها بذاك الجفاء والرفض !
بالمناسبة، هذا ليس فضول مني، وانما سؤال وجهته لي مرام يوم أمس اثناء جلستنا.)

-(ماذا !)
هذه المره بدت نبرته استنكارية خالية من أي غضب او حدة.. وانما ذهول قِلق حينما سمع ما قالته توًا
تجاهلت بسر صدمته وأدخلت مفكرتها الكبيرة، وقلم مُذهب لحقيبتها العملية قبل أن تقول بهدوء...
-(أمامك اختيار من اثنان يا سيد نُصير
إما أن تقص عليّ كل ما يخص السيدة مرام قبل الحادث
أو تبحث عن معالج نفسي أخر غيري، فأنا لن أتولى حالة مجهولة تمامًا)

كلماتها الحازمة ونظراتها الثابتة جعلته يكتم تنهيدة متعبة قبل يتحدث بعد صمتٍ ثقيل.. فلم يتردد قبل اختياره الخيار الأول، ويبدأ سرد كل ما يخص مرام
ابتداء من زواجها بفايز ابن عمه، انتهاءًا بأخر لقاء بينهما قبل الحادث.. وفي كل مره كان يتحدث ويضيف شيء
كانت يُسر تحاول جهدها أن تكبح تعبيرات وجهها الغاضبة كي لا تؤثر على هيئتها العملية.. كانت تتلوى ما بين صدمة، وغضب، وحزن على حال مريضتها.


حينما انتهى من سرد ما حدث، وصمت تمامًا في انتظار حديثها.. ولكن وجومها أخبره أنها لن تكون متسامحة لا كعه ولا مع عائلة " أل غانم" وكان ظنه في محله تمامًا
فقد اندفعت كلماتها النارية في وجهه دون أن تأبه لا به ولا باسم عائلته..
-(أتعرف شيء يا سيد نُصير
حينما دخلت للغرفة قبل فترة وعانقتها فور استيقاظها من غيبوبتها ورأيت مدى خوفك عليها، وكذلك خوف شقيقتها وخالتها نجاة، سألت نفسي لمَ امرأة محبوبة مثلها، يختار عقلها أن يمسح كل ذاكرتها السابقة ولا يختزن منها أي شيء..
ولكن الآن أنا لا استعجب من فقدانها لكل ذكرياتها)

جزت اسنانها ببعضهم وشعرت بنوبة بؤس مريعة تجتاحها وهي تتخيل كل ما مرت به مرام من ألام ومصاعب، كل الحزن والاسى الذي غمرها من كل حدب وصوب
فخرجت كلماتها غاضبة حادة لا تلائم طبيعتها الهادئة والمسيطرة...
زوج خدعها، وأهل زوج سعوا لتحطيمها، تُطرد من عملها
شقيقة تركتها في وقت صعب، ورجل تزوجها ليحميها مقابل أن تسايره في رغباته.. وأب يتخلى عنها بكل بساطة.
أرى أن عقلها فعل الصواب)

حتمت كلماتها الجافة وهي تنظر لوجهه الهادئ رغم الانفعال الصامت في عينيه، ولكنه لم يجيب على كلماتها اللاذعة، بل تحدث بصوت جاف كصوتها...
-(إن كنتِ قد انتهيتِ من محاسبتي، هل يمكنكِ مساعدة مرام !)

بالنظر للغة جسده فهو يبدو مضطرب رغم ثباته الظاهري، عيناه الغائرة تحمل قلقًا خالصًا.. وقبضته التي تنكمش وترتخي في وتيرة حادة.
رغم سوء كل ما قصه عليها فهو يهتم لمرام ولسلامتها
تنفست الصعداء قبل أن تصيغ أفكارها في كلمات هادئة عملية قد لانت قليلا...
-(انظر يا سيد نُصير، أنا لا أحاسبك على شيء الان
ولكن أنا أخبرك بالأمر الواقع
مرام فقدت ذاكرتها تمامًا، الشيء الوحيد، أو الشخص الوحيد الذي تتذكره هو طفلها.. لقد تذكرت أنها تملك طفل
وتظنك والده.. الأدهى انها تظن انكما زوجين طبيعيين ولكن تشك ان بينكما خلاف يجعلك تعاملها بهذا الشكل المتباعد)

حرك رأسه بإيجاب وقد بدى نافذ الصبر تمامًا...
-(ما الذي ينبغي على فعله !)

شبكت كفيها وغمغمت محذرة...
-(أن تتصرف كرجل مُحب.. أو أضعف الايمان أن تتصرف كزوج طبيعي زوجته مريضة.. ولكن أولا عليك إيجاد عذر أو مبرر قوي لاسلوبك الجاف معها في الأيام السابقة.. قد تكون فقدت ذاكرتها ولكنها ليست غبية بكل تأكيد)

تحركت عضلة في صدغة ونظر لأنامله التي تعبث في طراف الكوب الموضوع أمامه، بدى وكأنه يفكر في أمرٍ شديد التعقيد.. رفع عيناه لها من جديد وبدى غير مسيطرًا على مشاعره للحظات وهو يسألها بصوتٍ خشن..
-(ماذا إن عادت ذاكرتها فجأة وتذكرت كل شيء !)

استطاعت ترجمة ما خلف سؤاله، فهو يخشى ردة فعل مرام بعدما تتذكر ما حدث سابقًا، او يخشى عاقبة تصرفاته معها حينما يعود كل شيء كما كان في الماضي
تأملته يُسر للحظات وهي تتسائل في نفسها
هل نُصير عدو لمرام أو حبيب.. فهي لن تحكم على قلقه وحده.. لن تحكم على اضطراب قد يكون مؤقت نابع من تأنيب ضميره.
ولكنها كبتت خاطرها وأجابت سؤاله بإجابة بديهية...
-(حينها تكون قد شُفيت تمامًا)

-(ولكن حينها..)

جائه صوتها قاطعًا لكل ما قد يقوله أو يفكر به...
-(حينها ستتركها تختار يا سيد نُصير)

امتعضت ملامحه وقد كان واضحًا انه لم يستسغ اجابتها
لو ترك الاختيار لمرام في ستختار الابتعاد لأقصى الأرض
وحينها لن يستطع لومها.. ولن يستطع منعها أيضًا.
جف حلقه من أفكاره السوداء.. ولكن عاد ضميره يوخذه بعنف، فلم يستطع منع سؤاله القلق...
-(المزيد من الكذب سيؤذيها)

فكرت ساخرة
ليته فكر من البداية في ما لا يؤذيها
ولكنها كبحت كلماته اللاذعة وعوضت عنها بأخرى جافة
-(لا أظن أنه سيؤذيها أكتر من الحقيقة، على كلٍ.. أرجو أن تتصرف كما أخبرنك، أظهر من الود ما يكفي أن يقنعها انكما زوجان سعيدان، القليل من الكذب سيجعلها تخرج من شرنقة الحيرة ومحاولاتها اليائسة لاستراجاع ذاكرتها
وتلك المحاولات ستجعلها تتألم جسديًا على الأقل)

حرك رأسه وتمتم في شرود..
-(حسنًا لقد فهمت)

بدت على أتم الاستعداد للمغادرة، حينما نطقت كلماتها الختامية كي تنهي لقائهما المثمر بالنسبة لها رغم ضيق الجالس أمامها.. فقالت بهدوء عملي...
-(أرجو ذلك.. ارجو أن توافيني بأي شيء قد يكون هامًا في حالتها.. شكرًا لك على وقتك)

عاد لواقعه مره أخرى ونظر لمرام النصف جالسة على الفراش.. رغم المرض بدت نضرة، وقد مضت فترة على وجودها في المشفى.. كانت قد تماثلت للشفاء نوعًا ما
ولكن لازال ذراعها أسير الجبيرة وكذلك قدمها
ولكن جرح رأسها قد التأم وناب عن الشاش لاصقة على موضع الجرح.
فكانت هشة، رقيقة.. تجعل النفس تفيض حماية تجاهها
ولكنه لم يستطع حمايتها، ليته استطاع في الماضي
ابتلع رمقه وتغلب على أفكاره وجلد ذاته
وطرق الباب ببعض التردد قبل أن يفتحه ويدخل، اتجهت نظرات نجاة ومَرام فورًا نحوه، وكادت الأخرى تغص بطعامها؛ لولا ربتات نجاة على ظهرها سريعًا وكلماتها التي ارتفعت بحنان...
-(حفظك الله ياعزيزتي، ماذا هل رأيتِ وحشًا !)

ارتفعت الحمرة لوجنتي مرام وهي تسحب منديل تجفف به فمها وتشيح بعينيها عن نُصير الذي يحدق فيها بلا توقف.. شعرت بخافقها يتسارع مره أخرى
شيء ما في هذا الرجل يجعل قلبها يتسارع في نبضاته
هل كانت تحبه في الماضي لتشعر بضطراب كلما رأته !؟

خرجت من أفكارها وهي تراه يسحب مقعد أمام فراشها، وقد صدح صوته بهدوءٍ مثير وهو ينظر لنجاة قائلا...
-(تستطيعين المغادرة يا نجاة، وأنا سأخذ مرام ونأتي للمنزل)

اعترضت نجاة فورًا وهي تساوي الوسادة خلف ظهر تلك الصامتة...
-(طبعا لن أذهب، سأحزم أغراضها وأساعدها على تبديل ملابسها و..)

قاطعها نُصير بنبرة ممتعضة لمع فيها التوبيخ الخفي...
-(أنا زوجها ولست عابر طريق، سأفعل كل هذا يا نجاة.. عودي للمنزل لتحضري الطعام لمرام)

كانت كلماته آمره لا تقبل بالنقاش، ومن نظراته استطاعت نجاة فهم رغبته بالانفراد بمرام دون دخيل بينهما
لذا حركت رأسها بإيجاب وربتت على رأس مرام قائلة بلطفٍ حنون...
-(سأعد لكِ كل الأكلات التي كنتِ تحبينها من يدي يا مرمر)

أهدتها مرام أجمل ابتساماتها رغم التردد الذي لمع في عينيها.. كانت تود لو تمسك يدها وتسألها ألا تغادر
فهي أكثر شخص تعلقت بوجوده منذ استفاقت من غفوتها الطويلة وذكرياتها الغير موجودة.
لم تعتاد على الرجل الذي يُدعى زوجها.. ولا على الفتاة الجميلة التي تأتيها كل يوم باكية وتخبرها أنها شقيقتها الصغيرة.. لم تعتاد أحد سوى ثلاث أشخاص
براء ولدها الذي استطاعت استرجاعه من كومة ذكريتها الضبابية..
الطبيبة يُسر التي تتابع معها حالتها
ونجاة الحنونة جدًا

انتبهت من شرودها على صوت الباب وهو يُغلق
فنظرت للجالس أمامها، لازال يحدق في وجهها بلا حديث
وتحديقه الطويل فيها جعلها تتململ بغير راحة، وتعبث في دثار المشفى
إلى أن غادرت الكلمات من بين شفتيها بهدوء متزن...
-(إذًا أنت زوجي)

كانت كلماتها تقريرية أكثر من كونها سؤال.. فعقد حاجبيه للحظات وأجاب على كلماتها بهدوء حاول جعله واثقًا ثابتًا كهيئته...
-(أنسيتي مره أخرى !)

حركت رأسها نافية، وتأملت نقطة ما خلف رأسه، وقد تحاشت النظر لوجهه للحظات وكأنها تضبط أفكارها أولا
قبل أن تعاود النظر له من جديد، وتتحدث بصوتٍ هادئ حمل لمحة ساخرة أدخشته
-(لا لم أنسى.. أنت اخبرتني حينما استفقت قبل فترة انك زوجي.. ولكن رغم ذلك لا أشعر أننا كذلك.. أو اننا كنا في الماضي زوجين ولكن الآن لا.. أو قبل الحادث لم نعد أزواج فـ...)

تذكر كلمات الطبيبة حينما نقلت سؤالها عن طبيعة زواجهما.. فقطع سيل كلماتها وهو يؤكد بنبرة حاسمة لم يظهر فيها اي انفعال أو تردد...
-(شعورك خاطئ، نحن زوجين.. وكانت علاقتنا قبل الحادث على أفضل ما يرام)

لم تختفى إمارات الشك من وجهها وهي تردد خلفه بلهجة ممطوطة...
-(حقًا !)

حاول رسم ابسامة صغيرة على وجهه وهو يعاود الحديث مره أخرى، وقد حاول أن يجعل حديثه مُقنع قدر الأمكان
حينما قال...
-(كي أكون صادقًا أكثر، لقد تشاجرنا قبل الحادث، وكنت غاضبًا منكِ، وحينما استفقتِ ولم تتذكريني شعرت بغضب واحباط نوعًا ما)

غامت عيناها بتفكير في كلماته وهي تغمغم
-(اه نعم فهمت)

طال صمتها وكذلك هو.. كان هناك شيء ما يدور حولهما
كطاقة كهربائية غير مفهومة، أو شرارة مجهولة المصدر
ولكن أكثر ما لفت نظره، هو استكانتها في الحديث معه
لم تكن مرام الخائفة أو المترددة الذي عرفها سابقًا
بل أكثر هدوء واستكانة... وكثيرة الأسئلة أيضًا
فقد لاحقته بسؤال أخر كسرت به أجواء الصمت...
-(ولمَ تشاجرنا !)

حاول أيجاد سبب سريع يستطيع محو به شكوكها
فتسارعت الكلمات تخرج منه دون تفكير، وقد استخدم أكثر سبب للشجار بين أي حبيبين أو زوجين على الأقل
-(بسبب أمر ما.. بسبب الغيرة، نعم لقد تشاجرنا بسبب غيرتكِ المبالغ فيها، وأنا فهمت غيرتك أنها شك، فتشاجرنا وتركت المنزل.. لهذا كنا غاضبين من بعضنا)

اتسعت عيناها بدهشة وكأنها لم تستوعب أن يكون جفائه معه بسبب شجار حول الغيرة !!
حاولت تخيل نفسها كامرأة غيورة.. هل كان على علاقة مع أخرى، أم انه غازل إحداهن.. أم أن معجبة ما تركض خلفه وتثير الشكوك حوله.
لم تستبعد أي شيء من الثلاثة

تأملته مليًا وأخبرت نفسها بوجوم
هو رجل أنيق، لن تجرؤ على انكار جاذبيته وحُسن طلته
كان رجل مميز ويستطيع استحواذ انتباه أي امرأة حوله
وأكبر دليل على هذا، حديث نجاة قبل أيام أنها سمعت ممرضة تتغزل فيه وترجو أن تحظى بزوجٍ مثله
شعرت ببعض الضيق يتصاعد في نفسها وهي تهمس شاردة...
-(أنا امرأة غيورة إذًا )

سمع همستها الخافتة، فأجاب باسمًا...
-(نعم كأي امرأة)

كأي امرأة !
هل يراها زوجها كأي امرأة !
كبحت الاستنكار داخلها وعاودت الحديث، وإلقاء المزيد من أسئلتها التي لا تنتهي...
-(كنا نحب بعضنا.. أو كنت أحبك بيأس ليصل الأمر لمشاجرة عنيفة؟!)

صدح صوت ما داخله
لو أخبرها أنه كان يحبها، هل ستغفر له كذبته حينما تعود لصوابها ؟!
هو لم يخبر امرأة من قبل أنه يحبها، لا في مراهقته ولا شبابه.. لم يتفوه بها لا صدقًا ولا كذب، ولكنه الآن مضطر سيكذب..
حرك رأسها بإيجاب وهو ينظر في عمق عيناها ويغمغم
-(كنا نحب بعضنا نعم.. ولكن لم تكن مشاجرة عنيفة)

هذا الرجل كان يحبها !
لم تستطع تصديق كلماته بسهولة.. كيف كان يحبها وهو لم يتفوه إلا بالكلمات المقتضبة كلما جاء لرؤيتها في الشهر المنصرم الذي مر على استفاقتها.. كانت تراه مره واحدة في اليوم.. وفي بعض الأحيان لم يأتي لها
أخبرتها نجاة أنه مشغول على الدوام.. ولكن هذا ليس مبرر لجفائه ولا غيابه
لذا وجدت صعوبة في تصديق كلماته البسيطة
ولم تخفي أفكارها عنه، بل أطلقتها للعنان حينما قالت..
-(حقًا.. إذًا لمَ تصرفت معي كغريب، أو انك رجل لا تربطك بي أي صلة)

لقد ارتبك..
سجلت هذا في ذهنها وهي تسمعه يغمغم بتبرير فارغ لم يقنعها كسائر تبريراته السابقة...
-(أنا شديد الانشغال لذا لم استطع التواجد معكِ دائما و..)

قاطعت كلماته ببساطة مذهلة تخالف تعقيد موقفهما في هذه اللحظة...
-(انت لم تكن سعيد في زيجتنا)

نبرتها الواثقة أذهلته، وبدأ ناقوس الخطر يقرع في رأسه وهو يغمغم...
-(ماذا)

تنهدت مرام بسأم من النقاش الغير مفيد أيدًا
فأفعاله تتناقض مع أقوله.. فماذا تصدق بينهما !!
تحدث مرام بنبرة متعبة...
-(من تصرفاتك وحديثك الغير مقنع عن زواجنا
أنت لم تكن سعيد معي، وأنا كنت امرأة تحبك بيأس على ما يبدو، فأسبابك لا تليق برجل يحب زوجته أو حتى كان سعيد مع..)

قاطعها يمنعها من استرسال المزيد من أفكارها التي تزيد وضعه صعوبة، فقرر أن يكون حاسمًا أكثر وأقرب أكثر
لذا اقترب من فراشها بعدما جذب مقعده ونهب المسافة التي تفصل بينهما.. ثم التقط كفها المرتاح على الدثار وشدد قبضته عليها وهو يكرر كلماته بنبرة جمعت بين الرقة والحزم...
-(مــرام أخبرتك أنني كنت غاضب منكِ ومحبط أنكِ لم تتذكريني.. ثم أنني كنت أتي دومًا ولكن أنتظر في الخارج
لم أكن أود تشتيت ذهنك او الضغط على اعصابك لتتذكريني)

ارتبكت وهي تتأمله عن قرب، ومن كفه التي تعتصر كفها بتصميم كي تصدقه.. فحاولت كبح ارتباكها وترددها وهي تعاود القول بخفوت...
-(أتعني أننا كنا..)

ضغطة بسيطة على كفها اعقبها بقوله الواثق...
-(نحب بعضنا، وسعيدان تمامًا)

طال صمتها وتأمل من كل قلبه أن تصدق كذبته وكل الكذبات الذي سيلقيها عليها في المستقبل
وتمنى لو تسامحه فيما بعد
جاء صوتها من بئرٍ سحيق ينتشله من شروده...
-(لولا الغيرة)

ابتلع رمقه وحرك راسه بإيجاب وكرر...
-(نعم لولا الغيرة)

خفضت وجهها وقد بدت كمن غرق في نفسه بلا نجاة
وصوتها الخافت لم يساعدها أكثر حينما قالت..
-(أشعر بالأسف من نفسي الآن)

-(لمَ)

تنتحت وهي تحرر كفها من يده وترفعها كي تزيل خصلات واهيه من جبينها، وجاءت كلماتها محرجة بلا حيلة منها..
-(لأنني لم أتذكرك، وتسببت لك بالاحباط ولأنني كنت امرأة غيورة في السابق، رغم أنني لم أتذكر أي شيء)

مره أخرى قبض على كفها الذي حررته من قبل لحظات
وضغط عليه مواسيًا وقد كان ضميره يعتصر من نفسه وعليها.. ولكنه كجبر على صمود ونسج كذباته
مجبر على أخذ دفة الدفاع فقال...
-(لا داعي للأسف الأمر ليس بيدك، كلانا كنا مخطئين في السابق، لم يكن علي أن أتباعد بهذا الشكل)

اعترافه بخطأه جعل نبضها يتسارع في صدرها أكثر
بدى في عيناها الرجل المثالي.. هل حقًا هي متزوجة بهذا الرجل المتفهم جدًا والجذاب لأبعد حد.. هل كان يحبها حقًا.. لمَ لا تتصوره شاعري أو عاطفيًا يحب ويعشق ؟!
حاولت إزاحة تفكيرها جانبًا وابتلعت رمقها قائلة...
-(أرجو أن تكون متسامح في اسلوبي المتباعد، رغم كل شيء فأنا استيقظت لا أتذكرك فـ..)

أكمل عنها ما تريد قوله بنبرة متفهمة رقيقة...
-(فلا أنتظر منكِ أن تعاملينني كشخص قريب منك، أو كزوجك)

أمالت وجهها قليلًا قبل أن تقول بنبرة محرجة بعض الشيء، خاصة وهو يحدق بها بهذه الطريقة الغير مفهومة
-(نعم هذا بالضبط)

-(لا بأس يا مرام، سلامتكِ عندي في المقام الأول)

ابتسمت براحة وقد تألقت عيناها كألوان المدينة
شعر لوهلة أن عيناها تضيء كنجوم لامعة في ليلة مظلمة
وصوتها يكمل اللوحة البديعة حينما همست...
-(هذا مريح)

بادلها الابتسام ثم وقف عن الفراش وبدى لها طويلًا جدًا ويحجب أي شيء خلفه.. فارتفعت عيناها معه تستفسر صامتة عن سبب وقوفه فجأة.. تحدث برفق يجيب على سؤالها الصامت...
-(سأذهب كي أتي بالطبيب ليفحصك وبعدها نغادر)

كاد يقف ويرحل بسرعة ولكنها سمرته في محله حينما تحدثت بصوتٍ رقيق وابتسامة ناعمة...
-(حينما علمت أنك زوجي شعرت أن ما بيننا أكبر من أفكاري وشكوكي نحوك، كنت سأشعر بالسوء لو أننا كنا على غير ما يرام )

اهداها ابتسامة حُلوة يختم بها حديثهما الطويل...
-(من الجيد إذًا أننا على ما يرام.. سأستدعي الطبيب وأعود)

عاد صوتها الدافئ يصدح في الغرفة كلفحة هواء تداعب الوجه، ورقتها تستحوذ على نبرتها تمامًا
-(أنا أنتظرك)

خرج من الغرفة لياتي بالطبيب كما أخبرها
فوضعت كفها على قلبها بسرعة تحاول تهدئة خفقاته، ثم همست بصوت مأخوذ وهي تتنفس الصعداء وأنفها يلتقط بقايا عطره العالق في الهواء...
-(الان أعلم لمَ قلبي سيقفز من صدري كلما رأيته.. قطعًا كنت أحب هذا الرجل)

لم تستطع السيطرة على خفقاتها أو دفئ وجنتيها واحمرارهما.. وقد علمت ما كان يربطها بالوسيم البارد

حينما عاد مره أخرى مع الطبيب الذي فحصها بعملية وحذر، وأعطى تعليماته المشددة على نُصير الذي بدى متعاونًا وأخبره أنه سيعتني بها جيدًا
حينها أعطاها الطبيب تصريح بالخروج أخيرًا

خرج الطبيب وتنفست الصعداء
ولكن كلمات نُصير عادت وسمرتها وأرسلت نوبة ارتباك لجسدها حينما قال....
-(سأساعدك على تبديل ثيابك ونحزم أغراضك ونرحل)

نظرت لملابسها ثم نظرت لوجهه مره أخرى
اتخبره أنها تستطيع تدبر أمرها وتبديل ثيابها بمفردها
حينها سيشعر بالاحباط مره أخرى، وهي أيضًا لن تستطيع تدبير امرها بيد وساق فقط !
ولكنها لا تستطيع كبح خجلها منه
هل كانت امرأة خجولة أيضًا في زواجهما، كما كانت غيورة !!

استطاع نُصير أن يترجم خجلها من توهج وجهها
فتنهد وهو يغمغم باسمًا...
-(سأستدعي الممرضة لتساعدك لا بأس)

كاد يضغط على زر استدعاء الممرضة
ولكنها اوقفته قائلة باندفاع متهور غريب على شخصيتها القديمة...
-(أنت زوجي ووالد طفلي، الأحرى أن أخجل من الممرضة وليس منك.. لا بأس لتساعدني أنت)

ظلت يده معلقة في الهواء نحو زر الاستدعاء
وعيناه تنظران لها بغرابة لم تستطع ترجمتها، فعاودت الحديث بنبرة خافتة وقد زاغت عيناها عنه كي لا تتراجع بخجل مره أخرى...
-(أنت زوجي ولا أقرب لي منك.. أليس كذلك !)

جايها صوته بعد صمتٍ ثقيل...
-(نعم أنا زوجك)

بعد دقائق استطاع أن يأتي بثيابها النظيفة التي احضرتها نجاة صباحًا.. وحاول اضاعة بعض الوقت وهو يحزم أغراضها وقد ترك تبديل ثيابها أخر شيء يمكن فعله
ليس لأنه خجل مثلها.. ولكنه يخشى شيء مجهول.. يخشى شيء لا يدري ما هو تحديدًا

بدأ الوقت يتسرب من بين أصابعه وحان وقت تبديل ملابسها.. اقترب منها وساعدها كي تستوي في جلستها
وبدأ يحرر أزرار ردائها وهو يسلط عيناه على ما تفعله أنامله.. وهي كانت مثله، تنظر في أي مكان عدا هو
تحاول الهدوء رغم جلدها الذي بدأ يحرقها من الخجل

كان ردائها فضفاض بحيث يستوعب ذراعها المجبر ولا يضايقها.. ولكن حينما خلعته، بصر جسدها الهزيل الذي كان يختبئ فيه.
ارتعشت للحظات رغم دفئ الأجواء.. وكادت تخبئ صدرها الذي لا يستره سوى صدرية نسائية محتشمة
ولكنه كان أسرع منها ودس ذراعها السليمة في رداء أخر فضفاض.. ثم فتح أزرار طولية في الذراع الأخر
وبحذر شديد وضعه في الرداء.. ثم بدأت عقد الازرار
عملية لم تستغرق أكثر من دقيقتان.. كان سريع الحركة بسبب وجهها الملتهب، وأنفاسها التي تسارعت بتوتر.

حتى جسدها لا يتذكره.. فحاول أن لا يدعها تفكر في هذا
دون حديث، ساعدها على الوقوف من الفراش بقدمٍ واحدة، وأسند باقي جسدها لجسده قائلا بخشونة دون أن ينظر لوجهها...
-(تمسكي بكتفي وأنا سأبدل البنطال)

قبل أن يشرع في الانخفاض كي يسحب بنطالها
سارعت توقفه بصوت مضطرب لا تدري سببه، وعي تتمسك في ياقة قميصه تمنعه...
-(سأخلعه أنا.. استطيع تبديل البنطال بسهولة.. حتى نجاة كانت تتركني أبدله بنفسي)

كان قريب جدا منها.. قريب لدرجة مربكة.. شعرت أنها مرت بموقف كهذا.. بقربٍ كهذا.. ونظراتٍ كنظراته في هذه اللحظة
شعرت بالنار تلفهما.. شعور غريب جعل قلبها يقرع بقوة
شعرت بكفه يربت على ظهرها قائلا برفق...
-(لا بأس، سأنتظرك في الخارج، وحينما تنتهي سأدخل)

وبرقة عاد وساعدها بالجلوس على الفراش مره أخرى
وغادر الغرفة بهدوء شديد ظاهريًا... أما مرام فكانت حبيسة شعور غريب لم تعرف ماهيته ولم تفهم سببه
وقد ضربتها ذكرى ضبابية لعناقٍ كهذا قرب شاطئ
كان يضمها لجسده كما حدث قبل ثوان بسيطة، ودموعها تهبط على صدره الحرب.
اغمضت عيناها بقوة تحاول تذكر المزيد.. ولكن محاولاتها لم تأتي بأي نتيجة تُذكر، باستثناء ألم ساحق في رأسها
ونبضات هادرة في الغافل قلبها

............
نهاية الفصل التاسع عشر
جزء أول


(غصونك تُزهر عشقًا) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن