الفصل الأول

13.9K 394 35
                                    

المقطع الأول
أُمسية السبت في أحد البنايات البسيطة في منطقة تشابه المناطق الشعبية ولكنها أفضل حالًا منهم، كانت مـرام تساعد صغيرها في ارتداء ملابسه بعد حمامه اليومي وتعطير جسده الناعم بمعطر رقيق يلائم الأطفال في عمره.

قهقهاتٍ رقيقة تنبعث من فم الصغير الذي يواجه دغدغات من الأصابع الرفيعة التي انتشرت في أنحاء جسده تثير فيه نوبة ضحك.
_ضحكت على قهقهاته البريئة وهي تمسح على وجنته المنتفخة بحمرتِها اللطيفة التي تجعل قلبها يفيض رقة من فرط براءة طفلها الجميل براء فقالت بخفوتٍ رغم بسمتها وهي تحدق في عينيه البريئتين:
-(ما كانت حياتي تكون حياة دونك يا صغيري، لا تتوقف عن الضحك أبدًا، أُطرب آذناي بصوتك كي تجعلني على قيد الحياة يا طفلي.)

كان الصغير لا يفهم تمتماتها الخافتة، ولكنه ظل يؤرجح يديه ورجليه في الهواء يطالبها بحملها له كي يغفو على كتفها كما اعتاد بعد كل استحمامٍ له، ولكن مـرام لم تنتبه بمَا يفعله، بل شرد عقلها بعيدًا واجتمع الدمع في مُقلتيها وهي تتذكر كلمات فايز لها ذات مره وهو ينظر لها مليًا ويقول بصوتٍ صادق حمل عاطفته الخالصة:
(كم أنتظر قدوم طفلنا يا مـرام، لا أصدق أن الله مَنّ عليّ بزوجة مثلكِ وسيرزقني بطفلٍ يكمل حياتي بهجة ويزيدها استقرار، أكاد أموت شوقًا لمجيئه.)

هطلت دمعة سريعة على وجنتها وهي تفكر بألم وقد مات بالفعل، ليس شوقًا كما قال، بل فارقته حياته وأعلنت مودعه أن تُكمل طريقها وحدها، وتستعد لاستقبال طفلها بمفردها، فما عاد فايز قادرًا على مشاركتها الطريق، وباتت مُسيرة على وحدتها لا مُخيرة.

رفعت كفها سريعًا تمسح أثر الدمعة وانتبهت لصغيرها الذي بدأ النعاس يداعب جفونه برقة، وهو يقاومه كي يبقى مستيقظًا؛ لذا رفعته على كتفها وبدأت تتحرك به يمينًا ويسارًا تساعده كي يغفو بسلامٍ تفتقده هي حاولت ألا تسقط فريسة لأفكارها الحزينة، وركزت انتباهها على براء النائم على كتفها وهي تربت على ظهره الصغير برفق وتغمغم بصوتٍ خافت حنون وكأنه سيفهم ما تقوله:
-(في طفولتي كنت أرى في الأفلام القديمة الطفل يغفو بين يدي والدته التي تبدأ الغناء بصوتٍ عذب، ولكني لا أتذكر أن أمي غنت لي تهويدة قبل النوم أبدًا؛ لذا سأغني لك كي لا تقول حينما تكبُر أمي لم تغنِ لي.)
بدأت تتحرك به وتمسح على جسده بنعومة كبيرة، خرج صوتها كهديل الحمام التي تُرتل قَسم الطيور في طبيعتها الخلابة، طبيعة ورقة لا تشعر بها سوى وهي تحمل صغيرها بين يديها، قطعة منها، نبض قلبها ونور صدرها، هوائها النقي وسط تلوث عالمها الموحش.
(شـعره نازل على جبينه، روحـي وعمـري بهـدي له
وسنـينـي لـو عاجـبينه, بـهديله أحـلى الأيـام
يلا نـام يلا نـام، واهـديلك طـير الحمــام
روح ياحَـمام لا تصــدق، بغنيله حتى يــنام. )
توقفت عن الغناء الخافت واتسعت بسمتها الحنونة على ثغرها حينما شعرت بانتظام أنفاسه على جلد عنقها فتمتمت باسمة:
-(وتنام سريعًا كخالتك فاتن؟!)

(غصونك تُزهر عشقًا) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن