{الغصن الثالث}
كانت ترتعد رغم حر القرية ورطوبتها العالية، وجهها الشاحب كان يكتم كل انفعالاتها ببراعة عجزت عن تفسيرها في تلك اللحظة، كل ما تعلمه أنها لن تفلت براء من يدها ولن تتخاذل أمامهم، لن تنهار أمام ألفاظ والدة فايز ولن تحترق بنيران كراهيتها الغير مبررة، ستتفاوض معهم وترحل بولدها بعدما تأخذ منهم عهدًا ألا يحاولوا تهديد استقرارها، وبالمقابل هي لن تمنع حفيدهم عنهم، بل سينشأ على حبهم رغم كراهيتهم لها، ستفعل ما يرضي الله في سمائه، وفايز في أرضه، ستفعل أي شيء لهم مقابل ألا يستمروا في تهديدها، وألا يستخدموا أساليبهم القاسية التي أخبرها فايز بها ذات يوم، ستدخل الدار تلقي التحية وتطلب منهم أن يدعوها وطفلها في حال سبيلهم، وستأتي لهم بالطفل حينما يشتاقوا له.
كانت ترتب الأفكار في عقلها وتُهدأ خفقاتها الجنونية التي كانت تصدح في أذنها تصمها عن أي صوتٍ أخر، فلم تنتبه لنُصير الذي توقف أمام بوابة حديدية ضخمة وأشار لها بالدخول وهو ينظر لوجهها نظراته الناعسة المخلوطة بهدوء وشيء آخر تجهله تمامًا.ما أن عبرت البوابة، انقبض صدرها وهي تتذكر يوم وفاة فايز، ذلك اليوم الأليم الذي فارقت فيه حبيبها وزوجها، فارقته على حين غرة دون أي إنذار.
كل ما حدث أنها استيقظت صباحًا وتفاجئت بوجوده جوارها رغم علمها إنه يستيقظ باكرًا ويرحل لعمله ويحادثها بعدما تستيقظ هي، ولكن حينها كان نائم جوارها بسكونٍ تام وبلا حراك، ربتت على كتفه توقظه برقة متغاضية عن جدالهما يوم أمس ومبادرة بالصلح بدلًا منه، ولكنه لم يجيبها، ربتة بعد أخرى وصوتها يردد اسمه بقلق حقيقي حينما مسدت جبينه ووجدته بارد بلا دماء؛ حينها انتفضت فزعًا وصارت تقلبه يمين ويسار وتتفحص نبضه وتضرب على صدره ولكن قابلها الصمت والخواء، عينيه كانتا قد فارقتا الحياة، مُعلقة بوجهها وكأنه يودعها
صرخت ولطمت وجهها وألقت الماء في وجهه ليستيقظ ولكن لا صوت ولا استجابة، تعالى صُراخها وهي تمسك هاتفها تتصل بالإسعاف واجتمع الجيران عند باب شقتها على أثر صُراخها العالي، ولكن فايز لم يستقيم من الفراش، لم يستيقظ ويخبرها أنها مزحة ثقيلة يعاقبها بها على جدالهما، لم يعانقها ويخبرها أنها في أمانته ورعايته كما كان يخبرها في الماضي، بل كان صمته هو إعلان رحيله وبداية عذابها.
كرهت الصباح؛ لأنه فارقها فيه، وكرهت الليل؛ لأنه خالي منه، وما بين الصباح والمساء كان وقتها يمضي محسوب من دفتر عمرها.
ولكن الجزء الأصعب على فؤادها هو مجيئها للقرية كي يُدفن فيها بناءًا على رغبة عائلته، استقبلوها بالعويل والصراخ والاتهامات الموجعة، ألقتها والدته بكل ما يُدمي القلب ويخدش الحياء، ركلتها بكلماتها القاسية، وطعنتها بكراهيتها الغير مبررة.اغدقتها بالكراهية في الوقت التي كانت تتمنى فيه لو ترتمي في أحضانها وتَشُم رائحة فايز على صدرها، عاملوها بالقسوة واتهموها بالفسق والجُرم والشعوذة لأنها تزوجت فايز؛ حينها لم تجد حل غير الهرب منهم، هربت بطفلها الساكن في أحشائها ولعقت جراحها بنفسها وعاشت على ذكرى زوجها وقد ظنت أنها خاتمة قصتها مع تلك العائلة.
أنت تقرأ
(غصونك تُزهر عشقًا)
Romanceيناديها يا حفنة العسل فيسيل الحب في قلبها حارًا غصونك تُزهر غشقًا الرواية الأولى في سلسلة (لعنة تسمى العشق)