الفصل السابع2

4.6K 359 29
                                    

الفصل السابع " الجزء الثاني "

للمره الثالثة تنتقل مع نُصير مجبرة؛ فبعد مكالمته الأخيرة مع فراس أخ زوجها الراحل، أخبرها أن تستعد للرحيل مرة أخرى لمنزل الساحل.. ولكن أولا ستمر على شقتها القديمة تأخذ بعض الأغراض الهامة لها ولطفلها.

كانت مذهولة حينما سمعت بأمر الإنتقال مرة أخرى، لقد ظنت أنها ستعود للشقة وسيحميها هو بطريقته الخفية
لم تتخيل أنها سترحل معه لمنزل على ساحل البحر كي لا يستطيع أحد الوصول لها
كادت تقبل صاغرة بمضض ولكنها تفاجئت بشقيقتها فاتن التي تدخلت في حديثهما بأسفٍ حرج..
-(ولكنني لن أستطيع الإنتقال معكِ يا مـَرام، التصوير سيبدأ بعد أسبوعٍ واحد، ومساحة ظهوري في الفيلم ستكون كبيرة وسأحتاج الذهاب يوميًا.. الأفضل أن أعود للمكوث مع أبي، فـ المسافة الفاصلة بين قريتنا والمدينة؛ نصف ساعة فقط، أما الساحل فيبعد عن المدينة ساعتان أو أكثر.)

شعرت مَـرام بالوهن حينما أدركت أنها لو انتقلت مع نُصير وحدها؛ ستكون في وضعٍ حرج لا يلائمها ولا يلائم عقليتها ولا مبادئها.. فكادت تفتح فمها تعترض على الإنتقال ليقاطعها هو بهدوءٍ تام وقد استنبط أفكارها الرمادية فقال...
-(ساكونين آمنة في منزل الساحل، وستكون معكِ عاملة تؤنسك في وحدتك وتساعدكِ على الإعتناء بالطفل، وأنا سأزوركِ إن أُتيحت لي الفرصة، هذا الوضع سيكون مؤقت إلى أن تنتهي العاصفة)

كان يقصد عائلته وجنونهم بالعاصفة، لن تُنكر أن جسدها اقشعر خوفًا حينما سمعته يقول لفراس أن والدته كانت تنوي الخلاص منها بزجها في السجن؛ وتلفق لها أحد التُهم ظُلمًا وبهتان.
لم تستغرب لو رأتهم يحاولون الخلاص منها، وإنتزاع الطفل بالقوة الإجبار، لذا هي مضطرة السير على الخطوات التي رسمها لها نُصير دون أي إعتراض

ابتلعت رمقها وتنهدت تنهيدة مثقلة بهمومها؛ قبل أن تُلقي نظرة أخيرة على طفلها النائم على ذراع شقيقتها
لأجله ستفعل كل شيء، لأجل براء ستحارب الكون، ستسغل الفرص والأشخاص، ستغرز أظافرها وتتشبث في أي سبيلٍ للنجاة به.. ستفعل كل شيء.
رفعت نظرها لنُصير تمتم بصوتٍ حازم؛ حاولت السيطرة على ارتجافها فيه...
-(حسنًا يا سيد نُصير، ولكن لا داعي لقدومك للمنزل الذي سأسكنه مع طفلي.. أستطيع تدبر أمري، لذا لا داعي لإرهاق نفسك ذهابًا وإيابًا، وأنت رجل قروي وتعلم الأصول.)

تبسم نُصير في نفسه وهو يلتقط تلميحاتها المُبطنة، يستقبل شروطها التي أخفتها بين كلماتها المنمقة ظاهريًا
وأولهم ألا يأتي للمنزل طالما هي تسكنه
وثانيهم تخبره بوضوح أنه حتى لو جاء، لن يبيت في المنزل، بل سيعود أدراجه دون كلمة
ثالثهم تلعب على وتر رجولته، وتُذكره بالأصول في حال لو نسي أو تناسى الأمر.

تسائل في نفسه بعجب؛ كيف لها أن تكون ضعيفة وقوية في الآن ذاته ؟!.. كيف لها أن تحتاج مساعدته وتتشبث فيه بكل قدرتها في لحظة.. وتشعره أنها قديرة بنفسها ولا تحتاجه في لحظة أخرى.
كيف تتلون عينيها في ضعفٍ حان وهي ترمق صغيرها
وتتحول لأخرى عازمة مستميتة في سبيله قي تارة أخرى
كيف لها أن تكون الشيء وخِلافه في لحظاتٍ قصيرة؟!

انتبه لنظراتها اللحوحة التي تنتظر منه إجابة على شروطها المبطنة فتحدث أخيرًا بهدوءٍ ذا مغزى...
-(أمانك وأمان طفلك حاليًا هو مهمتي يا مـرام)

ارتجفت النظرة في عينيها حينما سمعت جملته، حاولت الشعور بالأمان وإبعاد قلقها من كلمة " حاليًا " عن ذهنها
لا يهمها الان سوى أمانها هي وطفلها فقط؛ إلى أن تستطيع الوقوف وحدها.. لن تعكر أمانها المؤقت، فيكفيها ارتجاف نفسها الأن.


بالفعل تم انتقالها إلى منزل الساحل صباح اليوم بعدما جمعت أغراضها سريعًا وغادرت البناية دون أن ينتبه لها أحد السكان؛ ويسألها عن سبب الغياب أو وجهتها أو أي أسئلة فضولية هي في غنى عنها، وعادت فاتن لمنزل والدها وأخبرته بإيجازٍ شديد عما حدث في منزل أل غانم وحاجة مـرام للاختفاء عن أنظارهم في مكانٍ مجهول.
ورغم محاولات والدها لاستجوابها، إلا أنها تشبثت بالصمت بعدما أكدت له أنها بخير وفي أمان، وتحاشت ذِكر نُصير نهائيًا.

تأملت مـرام أثاث المنزل بعيونٍ معجبة، كان المنزل أقل حداثة من شقة نُصير، إلا أنه كان أكثر دفئًا وجمالا، كان الأثاث حولها ذو لونٍ أبيض متداخل في زرقه البحر، كل شيء هادئ وناعم، يبعث الراحة في النفس.

التفتت للنافذة التي تحتل جدارًا كامل تعكس السماء الصافية المتجانسة مع موجات البحر الراقصة، كان منظر بديع؛ أكملت جماله حينما فتحت الزجاج واستقبلت نسمات الهواء بعيون مغلقة ووجهٍ منبسط
تستنشق الهواء النقي وتسجنه في صدرها للحظاتٍ؛ قبل أن تُطلق صراحه وتستقبل غيره..

كان كل شيء مثالي
هدوء المنزل وجماله
صوت البحر وأصوات الطيور المُحلقة فوق صفحته
لون السماء بسُحبها البيضاء كوسادات قطنية، أو قطعة من غزل البنات
افتراش البحر بلونه العذب
رائحة اليود التي تداعب أنفها
ونقاء الهواء الذي يُصلح ما فسد في صدرها

جلست على أقرب مقعدٍ لها كي تستطيع النظر للبحر، ومراقبة صغيرها النائم في عربته الطفولية

كانت مطمئنة ولا ينقصها شيءٍ واحد فقط
"الحُلم"
كانت تحلم بنفسها وبطفلها، تحلم أنها ترتدي فستانً منقوش بورود الربيع وألوانه، فستان يحتوي جسدها بعدما تسترجع وزنها الطبيعي؛ وتختفي هزالتها.
تعقد خصلاتها خلف رأسها في ذيل حصان طويل كما تُحب، وتتخلى عن عقصة  وكأنها كومة.
تركض على الشاطئ حافية القدمين، واسعة المبسم، مبتهجة الوجه.. وأمامها براء وهو يرتدي ملابس طفولية ملونة.. يركض ضاحكًا وتتبعه سعيدة تحاول الإمساك به.

تركض خالية من الهموم والألم.. ويركض طفلها مُعافى هانئ بين أحضانها.. لا تلاحقهم أميرة، ولا عائلة الغانم
لا يعكرهما خداع فايز ولا تؤذيهما كذباته.

توقفت عن الركض خلف براء وألقت نظرة مهملة على البحر الأزرق، والرمال الصفراء.. كانت عدة ثوان فقط حينما نزعت نظراتها عن صغيرها
وما أن عادت تنظر له وجدته قد اختفى كُليًا.
لا أثر له.. وكأن البحر سحبه أو الرمال ابتلعته.. اختفى صوت ضحكاته وحل صراخ عظيم جعلها تصرخ في فزع وقد تحول الحلم لكابوسٍ أسود
وصوتها ينطلق كغبرة في الرياح وهي تصرخ....
-(بــــراء)

انتفضت بقوة من مقعدها وصدرها يعلو ويخفض في لهاثٍ عجزت عن التحكم به، تنظر حولها مرتعشة وقد بدأت تستوعب أنها في منزل الشاطئ وليست حافية على الرمال، كما كانت ترى في الحلم.
ولكن نظرة واحد لعربة صغيرها الخالية منه، أدركت أن كابوسها انعكس على واقعها.. ولكنها تسمع صراخه ؟!.

توسعت عيناها بفزع وهي تقف راكضة في المنزل وتصرخ برعبٍ هستيري...
-(برااء بــرااء..بـ..)

انقطعت صرخاتها وتسمرت في محلها وهي ترى سيدة تخرج من أحد غرف المنزل، وهي تحمل براء الذي كان يصرخ في فزع لا يهدأ.
كان صدرها يعلو ويهبط بسرعة وقد شحب وجهها وارتعش جسدها، ترى المرأة تقف أمامها وتحمل طفلها بين يديها وعلى وجهها علامات الذهول وهي تغمغم..
-(هل رأيتِ كابوس !؟)

اندفعت لها تأخذ براء وتقربه لصدرها وانهارت جالسة أرضًا، وقد عجزت عن الوقوف أكثر.. كان تضم الصغير لها بارتجافٍ واضح وقد بدى العذاب حقيقًا على وجهها، من مجرد التخيل أنها فقدت براء
العرق يتصبب من وجهها؛ والشحوب كسى ملامحها، فابتلعت رمقها وهمست بصوتٍ مبحوح...
-(من أنتِ ؟!)

بعد عشر دقائق
كانت تجلس على الاريكة وبين كفيها كوب ليمونٍ طازج
وأمامها امرأة ثلاثينية سمراء البشرة، طويلة القامة وعريضة الكافين، ذات ملامح خشنة رغم لين عينيها
وقد اندفعت تعرف عن نفسها بهدوءٍ حذر...
-(أنا نجاة، ألم يخبركِ سيد نُصير عني ؟!)

حركت رأسها نافية وهي لا تزال تحت تأثير الصدمة والفزع، عيناها معلقة بطفلها الذي افترش الأرض، وبدأ يعبث في ألعابه متغاضيًا عما حدث منذ قليل.
سمعت صوت نجاة وهي تغمغم حانقة...
-(ألف مره أخبر ذاك الطفل الكبير ألا ينسى الأشياء الهامة)

رفعت نظراتها للنجاة التي بدأت رحلة التأفأف والتعود لشخصٍ ما.. فعقدت مـرام حاجبيها وتمتمت بصوتٍ محشرج...
-(طفل كبير !؟)

زمت نجاة شفتيها للحظات وأخذت شهيق عميق قبل أن تنفجر في سرعة غاضبة، عجزت مـرام عن صدها أو استقابها بإدراك حينما تمتمت نجاة بحدة حانقة...
-(أقصد المحروس نُصير، أخبرته ألف مره ألا ينسى الأشياء الهامة، ولكنه يتفنن في وضعي في مواقف لا أحسد عليها... أشفق عليكِ يا عزيزتي، فحينما كان يأتي هنا، ينسى الموقد مشتعل، يترك الكهرباء مفتوحة وكأننا في منارة، وصل به الأمر أن ينسى صنبور الماء مفتوح بأغرق المنزل... ومن يسير خلفه ويصلح فوضااه، أناااا
من يتحمل ذاكرة السمك الذي يملك؟!.. أناااا.. من يتحمل نسائهُ وطلباتهن المائعة أنا... وبالأخير يأكل عقلي بكلمتين من حديثهُ الحُلو... أقسم لكِ أن لولا محبتي له ولسانه الكاذب لكنت تركت منزله يخرب بعدي، ولكنني صابرة، جعل الله لي أجر الصابرين)

زفرت نجاة بعدما انتهى شهيقها  وكذلك حديثها الذي انفجر كقنبلة موقوتة في وجه مـرام المذهولة، لم تكن تفهم أي شيء مما قيل أمامها.. وكذلك لم تفهم من هي نجاة، وكيف دخلت هنا فجأة.. وما علاقتها بنصير كي يثق بها ويخبرها عن مكانها !؟

رمشت مرام عدة مرات بوجهٍ مذهول قبل أن تهمس بحذر..
-(أسفة ولكن من أنتِ)

انمحى الحنق من وجهها بسرعة، وحل محله ابتسامة واسعة حماسية مُزجت بغرور غريب غير مفهوم، وهي ترفع يدها إلى صدرها تربت عليه بِعِزة...
-(أنا نجاة، أفضل طاهية في الساحل بأسره، ومديرة هذا المنزل، وسأكون مرافقتك أثناء وجودكِ هنا وأحرسكِ من الأعداء الغاشمين)

انهت الجملة الأخيرة وهي تجلس جوار مرام وتعانق كتفها بذراعها القوية، تشدد عليها بحزم.
بدت الريبة واضحة على وجه مرام وهي تسأل نفسها
هل هذه المرأة طبيعية وبكامل قواها العقلية !؟
حاولت الابتعاد عنها وهي تهمس...
-(أعداء غاشمين ؟!)

حركت رأسها وقد بدت ملامحها بعلامات القوة والعزم...
-(أخبرني الطفل الكبير أن هناك من يودون أذيتكِ، ووجودك هنا لمصلحة إنسانية ولستِ كنسائه المائعات)

-(نسائهُ ؟!)

ارتبكت القوة على وجه نجاة للحظات وبدى التردد ظاهرًا قبل أن تقول بصوتٍ متراخٍ تعود عن الطرق المتعرجة...
-(امم أخبريني، لمَ فزعتِ حين استيقظتِ).

تنفست مَرام وهي تستحضر الفزع الذي شعرت به في ذاك الكابوس، وحينما استيقظت ووجدت أن براء قد اختفى بالفعل، مجرد التخيل فكرة أن طفلها قد اختفى عن نصب عينها تجعلها تفزع، وتكاد تموت خوفًا.

شعرت أنها بدأت تمر بأزمة نفسية ستكون شاقة عليها وعلى براء، ولكن لا حيلة بيدها.. فهي لم تنسى حينما أخذته أميرة منها غصبًا وكادت تحرق قلبها عليه.
تدري أنها ستعاني الفزع كلما اختفى براء ولو لبرهة.. سيقتلها هاجسها ألف مرة في الثانية الواحدة.


انتبهت على صوت نجاة وهي تربت على كتفها بحنانٍ رقيق لا يتناسب مع خشونة صوتها...
-(لا تبتأسي هكذا يا صغيرة، لن يستطيع أحد المساس بكِ طالما الله معنا وأنا معك.. وهل يبتئس من معه جاور الله ؟!)

حركت مرام رأسها نافية وهي تتنهد مطولًا وتغمغم بخفوت...
-(ونعم بالله)

مرت ثوان قبل أن تشعر مَرام بيد نجاة تقبض على ذراعها بقوة وتتحسس ظهرها بأنامل خشنة، انتفضت مبتعدة وهي تنظر بذهول لنجاة التي جعدت وجهها بضيق وبرمطت فمها بغير اعجاب...
-(ما كل هذه العظام، أكنتِ هيكل عظمي في معمل أطباء.. أيأكلون طعامكِ في دارك، أم أنكِ تأخذين المومياوات كقدوة لكِ...تؤتؤ تؤ ما كل هذه الهزالة ؟!)

عجزت مرام عن إدراك عربضة التنمر التي ألقتها عليها نجاة لتوها، وكان الذهول واضح على وجهها وقد فغرت فاهها وكأنها تنظر لكائن غريب ؟؟
انتفضت نجاة بحماس الشباب مره أخرى وصوتها يصدح كسارينة إسعاف محشرجة...
-(بما أنه يومك الاول في الساحل، سأعد وليمة تكسي هذا العضم، ونستغل نقود الطفل الكبير في شيءٍ مفيد
وأولهم القضاء على هزالتكِ هذه، ساعة واحدة ويكون الطعام جاهز، إلا أن تستحمي وتحممي طفلك وتبدلي هذه الثياب السوداء... المعذرة يا عزيزتي ولكنني حينما دخلت المنزل ظننتك غراب أسود حط على المنزل، وليس إمرأة جميلة، هيا هيا سأعطيكِ صورة فيما بعد )

عقدت مـرام حاجبيها للحظات وهي تردد خلفها بخفوت..
-(صورة؟!)

-(نعم صورة لي بما أنكِ لازلتِ جالسة وتنظرين لي بفمٍ مفتوح.. انتبهي كي لا تدخل ذبابة وتقضي حاجتها في فمك)
أنهت نجاة كلماتها واختفت بين رواق المنزل، بينما لازالت مـرام جالسة محلها تنظر في أثر نجاة بفمٍ مفتوح وعينين مدهوشتان، قبل أن تبتلع رمقها وترفع أناملها كي تسد فمها، وقد تقزز وجهها من مجرد تخيل الذبابة وهي تقضي حاجتها في فمها ؟!

همست لنفسها بعد لحظات وهي تفرك وجهها
"هل كانت تنقصها نجاة أيضًا !"
***
عاد نُصير للقرية بعدما أوصل مـرام إلى منزل الساحل
كان يدري أن ما ينتظره أعظم من أن يمر مرور الكرام.
يدري أن فراس في حالاته غضبًا وجنون.. ويعلم من سبب هذا الجنون.. وقود النيران خالته.
لن تصمت قبل أن تنشب بينهما عداء يفرق صداقتهما، كما كانت تحاول منذ سنواتٍ طويلة، وكان الفشل هو ختام محاولاتها؛ إلى أن ظهرت مرام.. عادت محاولاتها مرة أخرى، وقد وهبها الشيطان مفتاح الدمار
ولن تتردد في أخذه.

تنفس الصعداء وهو يصف سيارته أمام داره، وقد بصر سيارة فراس موجودة بالفعل ؟!

اتجه نحو منزل عائلته واستخدم مفتاحه كي يفتح الباب ويعبر للمدخل الرئيسي، فوصلت الصيحات العالية له
كانت صيحات خالته أميرة ؟
جعد جبينه وتابع السير إلى أن وصل للمجلس، ورأي والدته جالسة في أحد المقاعد تمسك مسبحتها بوجهٍ عابس وغضبٍ مكتوم، وجوارها أميرة بملامحها الحادة الشامتة.... وفراس يجلس على أبعد مقعد في المجلس.
كانت الأجواء مُلتهبة بما يكفي ليعلم أن المواجهة أقرب مما يظن.. لذا رسم الهدوء على وجهه وهو يسمع خالته تقول بصوتٍ ساخر بعدما بصرته...
-(هــا قد جاء الفارس الشجاع، مُنقذ النساء..الذي شابه عمه في الغدر والخداع)

اندفعت فاطمة تدافع عن ولدها بصوتٍ عاتب حاد...
-(لا تُسيئي لولدي يا أميرة، يكفي ما قُلته حتى الآن)

انتفضت أميرة من جلستها بجنون وقد ارتفع صوتها أكثر وترمق نُصير بنظرات حاقدة سوداء....
-(وهل قُلت شيء حتى، ولدك العزيز أساء لعائلة كاملة.. ركض خلف امرأة فاسقة ساحرة.. وتبجح أنه سيحميها
الحقير نسي ما فعلته الماجنة في ولدي وفي عائلتي)

وقفت فاطمة من جلستها تهتف بقوة، وقد توهج وجهها بحمرة الغضب والضيق لأجل ولدها...
-(ابني ليس حقير يا أميرة، بالتأكيد يملك مُبرر)

وقف فراس من جلسته وخرج عن صمته، وتحدث بنبرة حادة خالية من الرفق واللين...
-(تعال للخارج)

اعتاد نُصير وفراس ألا يتجادلان أمام أحد، كي لا يدخل من ثغراتهما ويفسد ما بينهما.. ورغم غضب فراس منه إلا انه لم ينسى قواعد صداقتهما
كاد يسير خلفه ولكن صدح صوت أميرة صارخة بحدة..
-(لا تدعه يضحك على عقلك يا ولدي، هذا ثعبان لا أمان له)

تسمر نُصير في محله للحظات، قبل أن يلتفت لخالته الكارهة، وينظر لوجهها الحاقد قبل أن يقول بهدوءٍ جاف..
-(الثعبان لا يلدغ صاحبه يا خالتي، لذا أنصحكِ أن تتبعي نهجه)

أنهى كلماته وخرج من الدار يتبع فراس كما أخبره
أما أميرة فظلت ترغي وتزبد في محلها، وكانت كارهيتها لنُصير  تزداد يومًا بعد الأخر.. وجملته الأخيرة جعلتها تضغط على نواجذها بحدة قبل أن تلتفت لشقيقتها وتقول بفحيح الثعابين الضالة...
-(قُلت ذات الجملة حينما فُقئت عين ابني يا فاطمة، ه‍ل ستناصرين ولدكِ في كل مصيبة يفعلها وتقولين يملك مبرر لها..كفاكِ أنانية وكوني صادقة ولو مرة)

-(تأدبي وأنتِ تحادثينني يا أميرة، وكفاكِ أنتِ حقدًا على ولدي يا أميرة، أعلم أنك تكرهين ولدي تفعلين كل هذا لأجل القطيعة، تودين لو يفترق عن فراس ويتركه لكِ كي تُملي قلبه بالأحقاد)

صمتت أميرة للحظات قبل أن تندفع لها وتأخذ المسبحة من يدها تمزقها شر المزق، وتبعثر حباتها أرضًا
فصدح صوتها غاضب، كاره، وكأن شيطانً ما يسكن جسدها...
-(أنا أكره ولدك يا فاطمة، أتمنى لو أن عينه هو من فُقئت.. أتمنى له أن يعيش منبوذ كولدي، عازب لا تطيق أي امرأة النظر في وجهه.. أن يخافه الناس وكأنه مسخ دميم
أتمنى أن يعيش ولدك أضعاف ما يعيشه ولدي من عذابٍ وألم.. أتمنى أن تنقطع سُبله في الحياة ولا يجد للنجاة طريق... أنا أكره ولدك يا فاطمة.. ولن أصمت على ما فعله لولدي الان وفي الماضي.. حان الوقت لتنالي عقابكِ أنتِ أيضًا يا أختي)

انقبض قلب فاطمة وتحولت ملامحها للجزع حينما سمعت قُبح ما قالته أميرة، لم تكن تتخيل أن تبغض نُصير لهذه الدرجة.. لازالت تحمله إثم ما حدث لفراس.. لازالت تحقد عليه كلما رأت عينا مبصرتان.
ابتلعت رمقها بصعوبة وهي تهمس بصوتٍ محشرج مصدوم...
-(أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِن كُلِّ شيطَانٍ وهَامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ.)
(أعوذ بالله من شر نفسك يا أختي أعوذ بالله من أي شرٍ يؤذي ولدي)

خرج منها تأوه ساخر وهي ترد بتهكم أجوف...
-(استعيذي قدر ما تشائين، واتركي ردع الدعاء لي)

صدح صوت دُنيا بغضب حينما خرجت على حديث خالتها أميرة وهي تتحدث بسوء على نُصير وتصب لعناتها عليه فقالت بصوتٍ حاد...
-(لا تهددي أمي يا خالة.. لن أسمح لكِ أن تؤذي أخي)

صوبت لها أميرة نظرة محتقرة، تجردها من أي احترام أو تقدير..تبصرها وكأنها حثالة لا قيمة لها، أو حشرة لا تستدعي اهتمامها وهي تغمغم ساخرة...
-(هه، كان ينقصني بنت الشارع أيضًا لتجادلني)

-(أخرجي من بيتي يا أميرة، ما دمتِ لن تحترميني أنا وأولادي فلا مكان لكِ في داري)

-(أغربي للنار أنتِ وأولادكِ ودارك)
خرجت أميرة من الدار وخطواتها تحفر في الأرض خنادق من نار، ذهبت بعدما أشعلت الحرائق وهدمت كل الثوابت
وبعثت الحزن والخوف للقلوب، فتحدثت دنيا بصوتٍ مجروح مرتجف من بوادر البكاء....
-(أمي، أنا بنت شارع ؟!)

اتجهت لها فاطمة تعانقها سريعًا وتمسح على خصلاتها الملساء مغمغمة بعطف، وهي تحاول الخروج من صدمتها قي شقيقتها...
-(لا تبكي يا حبيبتي، لا تأخذي حديثها على محمل الجد
أنتِ ابنتي الصغيرة يا دُنيا)

تمتمت دُنيا من بين بكائها المقهور..
-(أنا اكرهها هي وولدها، أكرههما جدًا)

-(عيب يا دُنيا، لا تقولي هذا مره أخرى)

ابتعدت عن والدتها العاتبة، وصرخت بقوة حالما استرجعت معاملة فراس لها بقسوة، وكذلك ما قالته لها والدته قبل لحظات....
-(بلى، لن أكف عن تكرير حديثي، أنا أكره فراس ووالدته.. أكرههم إلى أن أموت.)
***
في مجلس الرجال

كان فراس يقف ويكتف يديه لصدره، ويرمق نُصير بنظرات حادة مبطنة بالغضب والقسوة، ورغم ذالك خرج صوته ثابتًا وهو يغمغم...
-(تخطيتني)

كان يقر أمر واقع، لقد تخطاه نُصير وتجاهله تمامًا وهو يشرع في مساعدة هذه المرأة.. دعس على كل ما بينهما
وخان ثقته في غضون لحظات.
كان غاضب، وعاجز عن تفريغ غضبه فيه.. يود لو يلكمه بقوة فيكسر له أسنانه، كما كسر هو الثقة المتينة التي كانت بينهما.

تحدث نُصير بجدية غلب عليها التعقل رغم حدة صوته...
-(أنا لم أتخطاك يا فراس، كنت سترفض ترك المرأة وشأنها.. وهي تحتاج لمساعدة ف...)

قاطعه بحدة وهو يركل أحد الأرائك بعصبية شديدة، يخرج فيها كل غضبه وجنونه فقال...
-(ولمَ تساعدها أن من بين كل رجال العالم ؟!)

لأنها لم تطلب الحماية من كل رجال العالم، هي لم تلتجئ باكية لأحدٍ سواه.. لم تنهار وهي تتشبث بأحدٍ غيره
وسط كثرة الأعداء وضعت ثقتها به هو.
تنهد مطولاً يكتم تلك الكلمات في نفسه قبل أن يجيب على فراس بكلماتٍ واثقة...
-(أستطيع حمايتها)

كان التحدي يقفز من نظراته الهادئة، كان يدرك أنه يستطيع توفير حمايتها من عائلة كاملة.. عائلته.
فتحدث فراس بتهكم أسود...
-(وأنا أستطيع سحقها حتى لو كانت معك)

-(تستطيع، ولكنك لن تفعل، فنحن لا نسحق النساء عامة،ونسائنا خاصة)

-(نسائنا ؟!)

صمت نُصير للحظات قبل أن يقول بهدوءٍ تام ولا مبالاة يُحسد عليها أمام غضب فراس...
-(أنا أريد هذه المرأة يا فراس، أريدها أن تكون امرأتي.. أنت لن تستطيع أذية امرأتي)

حينها اندفع فراس يمسك تلابيبه بغضب ويصرخ في وجهه بجنون، وقد بدت عينه الواحدة حمراء، يموج فيها الغضب والألم سيان...
-(أنسيت ما فعلته عمتها ووالدتها بي وبك... أنسيت كل ما عشناه سويًا لأجل رغبتك يا حقير ؟!)

كلماته تقطر خيبة وصدمة، وربما استنكار
لا يصدق أن صاحبه يرغب امرأة، كانت عائلتها سبب دماره.. يرغب المرأة التي يجب عليه أن يتجنبها طوال عمره... وكان نُصير يفهم صدمته وألمه
فأبعد يديه عن سترته وهو يغمغم بذات الثبات البارد...
-(لا ذنب لها فيما فعلنه يا فراس، وأنا لا أخذ حقي من النساء، لذا أرجوك أن تكون عاقلًا وتنهي هذا النزاع)

التفت فراس حول نفسه يحاول السيطرة على مشاعره الغاضبة، يحاول ألا يقتل صديق عمره، يحاول أبل يتبع شيطانه.. وكان هذا أصعب مما يظن.
زفرت بقوة وهو يمسح وجهه قبل أن يصدح صوته الحاد..
-(حسنًا سأُنهيه.. خذ المرأة لتكون امرأتك.. ولكن سأخذ ولد فايز، فهو ما يعنيني)

-(ما يعنيكم هو قهر مـرام حينما تأخذون طفلها، ثم انك هل نسيت عاداتي يا فراس، أنا لا أخذ بقايا أو حُطام
الطفل سيكون مع والدته في رعايتي..)

سحب وجه فراس ألم الغدر واضحًا على قسمات وجهه، وعضلات جسده المتشنجة فقال..
-(لقد اتخذت قرارك إذًا)

فهم نُصير تهديده المبطن
فعقد جبينه بضيق وهو يزفر بحدة، وقد خرج عن هدوئه
وهو يهتف فيه بصبرٍ نافذ يزجره عما يفكر...
-(علاقتنا خارج أي خلاف يا فراس، لا تكن طفل عنيد وتقحم هذا بهذا)

ظلا ينظران لبعضهما بسكون غريب، سكون يسبق العاصفة.. كان في عين نُصير رجاء صامت ألا يسير خلف شيطانه.. غفل عن أن شيطان أخذ جسد فراس مسكنًا في هذه اللحظة.. فكانت نظراته حادة سوداء، زادت من وحشيته، وخرج صوته خفيض مُنذر وهو يغمغم...
-(الأصدقاء يصبحون أعداء، والأعداء لا يصبحون أصدقاء
فلا عداوة وصداقة تجمعنا، عليك الاختيار الان، إما عائلتك وأرضك وأنا، أو هذه المرأة.. لك الخيار إما أن تكون صديقي أو عدوي)

***

(غصونك تُزهر عشقًا) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن