4

575 81 10
                                    


...

أدخل إيفرت المفتاح في الباب، سَمِع آليَّة القفل تفتح فحرك الأكرة، ما إن دلف إلى الشقة باغتته رائحة الكعك بالزنجبيل وجلبت معها العديد من ذكريات الطفولة، تجمَّد بمكانه وراقب إطار والده وهو يتحرك بين الفرن والجزيرة المجهزة بوسط المطبخ المفتوح، وَضعَ السيد غاردنر صينتين من الكعك حملهما بقفازين سميكين، ارتدى مريلًا مزركشًا من الواضح أنه يخص والدته وكان يدندن بأغنيَّة شبابية معروفة، عقد إيفرت المنطقة بين حاجبيه، أنى له أن يعرف مثل هذه الأغنية؟ ظلّ ينظر إليه باستغراب، قامته الفارعة وجسده الذي رغم العمر حافظ على لياقته، شعره الفضي المتموج وقد تخلله بعض الشيب، شارب ولحية اتصلا ببعضهما البعض وعينين رماديتين عطفوتين، دون أن يشعر ارتفعت زاوية فمه بابتسامة صغيرة وكمَّا لو أن والده استشعرها اِلْتفت ناحيته بتلك اللحظة فقطب إيفرت تلقائيًا.

- إيفرت، لمْ أسمعك وأنت تدخل، لمَّ أنت واقف بمكانك؟ تعال. اليوم هو الثلاثاء لذا أعددت البانكيك بالشوكولاتة والفراولة.

خلع إيفرت حذاءه الجلدي وارتدى خفًا منزليًا مزغبًا، توغل في الشقة أكثر وجلس على أحد المقاعد العالية حول الجزيرة، وضع مرفقًا على سطحها وقال: "أنا لا أكل الشوكولا."

طَرَفت عينه عندما قال ذلك. وقف السيد غاردنر وبيده طبق بانكيك به قطعة زبدة وشوكولا سائِحة ويتعالى منه البخار، نظر إليه وعلى وجهه ابتسامة العارف بما يجري.

لمْ يكن إيفرت يعلم أن سره انكشف قبل أربعة عشرة عامًا، في عيد ميلاده السابع والعشرين تحديدًا حين رفض أن يأكل من كعكة الشوكولاتة ذات الثلاث طبقات، خِلسة انحنت زوجته وبتواطُّؤ همست للسيد غاردنر أن إيفرت مولع بالحلويات لكنه لا يصرح بذلك خوفًا على 'صورته' التي بناها.

محا السيد غاردنر ابتسامته سريعًا ووضع أمام إيفرت الصحن، رسم تعابير بائسة وقد جلس بالجهة المقاصدة له ثم قال: "إن آندريا نائمة ولا أحب أن أكل وحدي، اشفق على والدك العجوز وتناول الافطار معي. بعدها دعنا نحتسي الشايّ، لقد حضرت كعك الزنجبيل الذي تحبه."

تناول إيفرت الشوكة وأخذ قضمة، وبصوتٍ يكاد أن يكون غير مسموع همس: "هل أنت زوجة من العصر الڤيكتوري؟"

تظاهر غاردنر أنه لم يسمعه وانشغل بالتهام طعامه بشهيَّة واضحة، بعد ثلاث لقمات كبيرة مد يده لأخذ علبة الكريمة إلا أنه قبض على الفراغ، رفع رأسه من الصحن فشاهد إيفرت يضعها بعيدًا من متناول يده، عاد وجلس على مقعده، "لديك كوليسترول مرتفع، ألَّا يكفي ما تلتهمه من سكرٍ الآن؟ هل تظن أنك ما تزال شابًا فقط لأنك تحفظ أغاني الشباب."

فغر السيد غاردنر فمه، واضعًا يديه اللتين تحملان الشوكة والسكين فوق الطاولة قال كمَنْ ظُلِم: "لماذا أشعر أنك لا تفعل شيئًا عندما تأتي سوى انتقادي والتهام طعامي؟"

أخذ إيفرت لقمة كبيرة من البانكيك وبعدم اهتمام قال: "أنت مَنْ ترجاني لأكل معه." صَمَت برهة، "لديّ أمور أخرى لفعلها."

أغمض السيد غاردنر عينيه وتنفس عبر فمه، تساءَل إن كانت السماء تنتقم منه لأنه كان ابنًا سيئًا أيضًا فيما مضى، نظر إلى صورة العائلة المعلقة أعلى شاشة البلازما، ابتسم ناحيّة والده المتجهم وتنهد: الآن أفهم ما كنت تعنيه عندما كنت تقول أننا سنكون السبب في قُصر عمرك.

"كيف حالها؟" سأل إيفرت وهو يحرك قطعة فروالة بصحنه.

"لا بأس. لكنها باتت تنام كثيرًا مؤخرًا." حدَّق السيد غاردنر بسطح الطاولة مدة، "أعتقد أنه أثر جانبي للدواء الجديد."

أومَأ إيفرت ولمْ يعلق، نظر غاردنر إلى الساعة المدورة في الجدار ثم قال: "لو انتظرت قليلًا ستستيقظ في الغالب، إنها تسأل عنك كثيرًا."

تلقائيًا اِلْتفت إيفرت ناحية الغرفة على يمينه، كان الباب مورابًا ويظهر سرير كبير تجعدت ألحفته، كانت ألحفة سماويَّة بها أزهار ليلك، تَكوّمت الألحفة بالقرب من حافة السرير.

"لقد شاهدت حلقة الأمس." قال السيد غاردنر فاِلْتفت إيفرت ناحيته، رمشَّ كمَنْ يحاول استيعاب ما الذي يقوله.

"ألَّا يتسبب لك ذلك بالمتاعب؟" سأل بحاجب مرفوع ثم أضاف: "إن دو-بونت شركة كبيرة، اتهامهم بتسميم مياه ولايَّة كاملة، لا بد أن ذلك فتح عليكم أبواب الجحيم."

حَرَك إيفرت كتفيه: "فريقنا القانوني معتادٌ على ذلك." عَايَّن قطعة الفروالة في شوكته ثم أكلها، "ستتدخل المقاطعة قريبًا ولن يكون علينا تحمل المسؤوليَّة."

أومَأ السيد غاردنر بتفهم، "ألا تنوي التقاعد؟" منحه ابتسامة تساوي مليون دولارًا، "عد للعيش معنا، سنشرب الشاي بكعك الزنجبيل كل يوم."

رفع إيفرت تجاهه حاجبًا: "لتجبرني على أكل البانكيك بالشكولاتة كل يوم ثلاثاء؟ لا شكرًا."

- ألمْ تفتقد والدَك العجوز؟

"فقدَّ هذا الكرت فاعليته بعد أن استعملته مئتين وخمس وأربعين مرة."

في اللحظة التي نوى إيفرت أن يغرز شوكته بأخر قطعة شوكولا اختفى الصحن من أمامه، نهض السيد غاردنر ووضع الأطباق في المجلى، نظر إيفرت إلى ظهره ورجع في كرسيه إلى الخلف، طوى ساعديه، اختلس السيد غاردنر ناحيته نظرة وابتسم بظفر.

مد إيفرت يده إلى صينيَّة الكعك وتناول واحدة، وبينما كان السيد غاردنر يغسل الأواني ظل يسمع صوت (كم-كرم) مستفزٍ في الخلفيَّة.

═══════

الكاتب يقول: ها قد ظهرت شخصيتي المفضلة، السيد غاردنر والس، قدوة لكل الراغبين في التقاعد المُبكِر.

「 مُحَـاولة الغـرق 」حيث تعيش القصص. اكتشف الآن