71

285 48 220
                                    


...

انتظر مادوكس إلى أن غادر أخر طالب في الفصل وتنهد براحة، حدق بالأدراج الفارغة من حوله وسند حافة ذقنه بيده، كان يشعر أن أيامه باتت معدودة في هذا المكان وبالرغم من كراهيته له لم تعجبه الطريقة السيئة التي سينتهي بها كل شيء. 

كل تلك الساعات من السهر في الدراسة، والأعمال الجزئيَّة والبحث الحثيث عن منزلٍ جيدٍ يؤيهم ليتمكنوا من الدراسة لامتحانات القبول، لم يكن نادمًا، ما يشعر به شيءٌ مختلف، قبضة باردة تضغط حول قلبه، لو عاد به الزمن سيفعلها مجددًا ومجددًا ومجددًا، سيكرر الاستماع إلى ذلك الصوت ما تبقى من حياته إن كان ذلك هو الثمن، صوت ارتطام العادم بالعظام وانكسارها، اللحظة التي أنارت فيها مقدمة السيارة جسد الرجل وشعره الأسود، سقوطه على الرصيف كجثة هامدة، السرعة الكبيرة التي حدث بها كل شيء كأنه حلمٌ سيئ وسينتهي في الغد، لكن الغد أتى ولم ينتهِ الحلم بعد. 

لم يكن نادمًا لكن هذا الفراغ الذي استبد بروحه، كما لو أنه حُرِم من كل شعور وبات دميَّة- كان ينهش في أعماقه ويدميها، يستيقظ ويفرش أسنانه، يستحم ويعقد الزي ويدرس ويحل واجباته ويجيب على المحادثات بتهذيب، يمضغ الطعام ويعود ويستلقي فوق فراشه ويحدق بالسقف، وحده النوم رفض أن يشارك في تمثيليته اليومية، تحاشاه مثل الطاعون وتركه يقظًا يكابد ألم الوعي طوال الوقت، أو بالأحرى انعدام ألم الوعي، انعدام أي شعور، جيدٍ أو سيئ، تحول لفتى يشبه البشر لكنه من الداخل كان مجرد دميَّة. 

أخرج مادوكس دفتره ذو الغلاف الأزرق وشرع بالكتابة والرسم من حيث توقف أخر مرة. 

"هل ستذهب يا آدم؟" قالت إم وأهدابها مسدلة. 

قبض بي على طرف قميصه: "لا تذهب يا بوسكيو، ابقَ معنا." 

كان آدم جالسٌ في خلفيَّة شاحنة محملة بالكامل بالبضائع المختلفة التي ستنقل للمدينة: أكياسٌ من البن واللحم المجفف والعنب والأناناس والكيوي والمانجو، كانت الرائحة من حوله طيبة وقد صنعت له السيدة إيلسا سريرًا مريحًا من وسادات الزنبق. 

أمسك آدم بيد بي وقال متحدثًا بلغتهما التي بات يُجيّدها بطلاقة: "سأعود، هذا وعد." 

ورفع إصبعه الصغير في الهواء، أحاط بي إصبعه حوله وختما ختم الوعد بإصبع الإبهام، بدا عليهما الرضا قليلًا فابتعدا من الشاحنة. 

"لِمَ ترغب بالذهاب إلى المدينة يا بوسكيو؟" سأل بي خافضًا عينيه المبللتين للأرض. 

"لا أعرف." قبض آدم المنطقة حول قلبه ورفع بصره إليهما: "كنت أبحث عن شيء ما لكني نسيته ربما لو ذهبت سأذكر ماذا كان." 

"لن تنسانا يا آدم!" هتفت إم حين هدر محرك الشاحنة وبدأت بالتحرك. 

هزَّ آدم رأسه نفيًا: "سأنسى نفسي قبل ذلك! سأعود!" 

「 مُحَـاولة الغـرق 」حيث تعيش القصص. اكتشف الآن