دائره الخطأ (قيد التعديل

ما بعد الفراق " 11"

متنسوش الفوت و الكومنت يا ولاد دمتم فى امان الله

في تلك الليلة التي رحل فيها رفيق دربي، شعرت بثقل السؤال الذي لم يفارقني: كيف يمكن للإنسان أن يستند على جثة هامدة؟ ما الذي يجعل الفراق موجعاً إلى هذا الحد؟ ولماذا نقول "وداعاً" بدلاً من "إلى اللقاء"؟ ألا نلتقي أبداً بعد الآن، يا صديقي؟ ألا يعود الزمن ويجمعنا ولو كغرباء؟ كنتَ كالوهم الذي رافقني لسنوات عديدة، ثم اختفيت فجأة، بلا إنذار. ترحل، وتترك روحك معلقّة داخلنا، تمضي مودعاً، ولا حتى يديك تلوح لنا. ألا تعود أبداً؟ حملتك بين ضلوعي، لا تخرج، لا تتركني الآن، الأمر أكبر من احتمالي... وأثقل على قلبي.

ولمن يظن أن الموت هو الموّحش، وأنه القاتل الحقيقي، عليكم أن تعوا أن الفراق هو الموحش فعلاً. الموت قد لا يكون نهاية، ولكن الفراق؟ الفراق يُقتلنا ونحن أحياء. إنه الغصة التي تعتصر صدرك كلما رأيت أحداً يشبه الراحل، أو سمعت اسماً يماثل اسمه، أو حتى تذكرت أحد تفضيلاته. الفراق ليس فقط فراق الجسد أو الموت، بل هو فراق الروح عن روحك. والموت؟ قد لا يكون بتوقف النبض فقط. الانتظار موت، والملل موت، والفراق... هو الموت الأعظم.

"محمد" أمسك بجثة نائل، الجثة التي كانت يوماً رفيقه وصاحبه، يحركها برفق وهو يقبل جبينه المرتجف. ضمّه إليه وكأنه آخر ما تبقى من الأمل في هذا العالم، وهمس بصوت خافت، وكأن قوته كلها قد غادرته:

- يلا، قوم معايا يا أحمد، قوله إننا هنروح، قوله إن كل حاجة تمام... نائل، متسبنيش بالله عليك، ورحمة أمك يا نائل، هنكمل سوا، صح؟ مش هتموت وتسيبني كده... فاكر؟ فاكر كنا بنغني ونقول إيه؟

صوت "محمد 'اختنق بالبكاء، ويداه ارتجفتا وهو يستعيد الذكريات؛ حينما كانا أطفالاً يستمعان خلسةً للشعر من جارهم المهووس بالإنشاد. تردد في ذاكرته بيت الشعر الذي لطالما سمعه:

"ولكنني لما وجدتك راحلا
بكيت دما حتى بللت به الثرى
مسحت بأطراف البنان مدامعي
فصار خضاباً في اليدين كما ترى"

احتضن "محمد" نائل بشدة، كأنهما لا ينفصلان أبداً، وصرخ في من حوله أن يتركوهم وحدهم كان الألم يفوق قدرته على التعبير، والخوف يجتاحه، لكنه حتى حقه في البكاء لم يستطع أخذه. شهقاته كانت مليئة بالألم، لكن الدموع أبت أن تنهمر. كيف له أن يتخيل حياته الآن؟ بلا روح، بلا رفيق؟ جسد فارغ لن يعانقه مرة أخرى، ولن يشارك معه شيئاً من أحاديثهما. كيف ينسى هذا الألم؟

حاول "أحمد "تهدئته، لكن "محمد" لم يهدأ، حتى غُشي عليه في مكانه أراد أن يحمل جسد نائل الذي خلا من الروح، لكنه لم يعد يملك القوة للوقوف، فسقط بجانبه، منهاراً، غير قادر على السيطرة على اتزانه، كما سقط قلبه من قبل.
___________________________________
كانت الغرفة واسعة ومنظمة بعناية، تملؤها لمسات من البهجة، إذ زُينت ببعض الورود والبالونات الملونة التي حملت أول حرف من اسمي الزوجين. كان هذا هو الحلم الذي طالما راودهما، الحلم الذي تمنياه طويلاً، وقد تحقق أخيراً. الآن، بوسعهما أن يقولا للعالم بأسره: هي زوجته، وهي روحه إلى الأبد.