الفصل الثاني والعشرين(22)

45 12 0
                                    

ابتعدت العربة عن القصر بمسافة آمنة ثم توقفت في منطقة متوارية بين الأشجار الكثيفة بناءً على رغبة مجد
كان الوقت فجراً وكان الجو حينها بارداً بعض الشئ فهبط الأخير من العربة تاركاً ريماس وزهرة نائمتان داخلها فوجد تميماً ينام إلى جوار شمس فحمله ثم وضعه داخل العربة وجلس هو إلى جوار شمس في صمت، فقال الأخير قاطعاً هذا الصمت:
ماذا سنفعل الآن؟
أجابه وهو يحدق بالفراغ أمامه:
سننتظر حتى تشرق الشمس بعدها سنتابع طريقنا إلى الجنوب فالطريق القادمة وعرة ونحتاج للضياء حتى نستطيع السير فيها
فقال شمس متعجباً:
لماذا اخترت الجنوب تحديداً؟
اعتدل مجد في جلسته ونظر إليه ثم قال:
لأن جنوب أكاسيا مفصول بالكامل عن شمالها بالغابة المقدسة
ـ الغابة المقدسة؟؟؟؟
سأله شمس متعجباً فقال مبتسماً:
هكذا يسميها أهل الجنوب، أما غيرهم فيسمونها الغابة الملعونة، وذلك لأن العابر بها إن لم يكن عالماً بطرقاتها سيقع في متاهة لا يمكنه الخروج منها حتى يهلك، وللسبب نفسه يسميها سكان الجنوب بالمقدسة
فابتسم شمس وهو يفرك عينيه ويتثائب فقال مجد له:
لا زال هناك وقت حتى تشرق الشمس، بإمكانك النوم
فسأله:
وأنت، هل ستنام؟
هز رأسه نفياً وقال:
على أحدنا أن يظل مستيقظاً فهناك فتاتان وطفل ينامون في العراء
حاول شمس إقناعه أن ينام بينما يبقى هو فمجد لم يذق للنوم طعم منذ عادا من إيبرس ولكنه رفض، فآثر أن يبقى مستيقظاً هو الآخر ولكن النوم سلطان فغفا إلى جواره دون شعور
نهض مجد من جواره وسار مبتعداً عن العربة ثم جلس أسفل شجرة مسنداً ظهره إلى جذعها يلقي بنظرة خاطفة بين الحين والآخر تجاه العربة حتى بدأ نور الفجر بالتسلل شيئاً فشيئاً
كان لا يزال على هيئته أسفل الشجرة مسنداً رأسه إليها ومغمضاً عينيه حين سقطت قطرة من قطرات الندى العالقة على أوراق الأشجار على وجهه ففتح عينيه ثم قام بلمس تلك القطرة بأنامله فلاحت على شفتيه ابتسامة عذبة ثم نهض من مكانه واقترب من مجموعة من النباتات فوجدها غارقة بالندى فأمسك بلثامه وأخذ يبلله بقطرات الندى حتى أصبح رطباً ثم عاد إلى حيث كان فوجد ريماس تجلس في نفس المكان الذي كان يجلس فيه فاقترب منها ووقف يتأملها عن قرب.
نظر إلى وجنتيها المزرقتين وتذكر كيف كان بياضهما في السابق يتحول إلى الوردي كلما تحدث إليها أو اقترب منها، وعينيها اللتين غرق في صفاء زرقتهما وكأنهما بحر، قد أحيطتا بالسواد فبات البحر كئيباً، وكانت هناك دمعتان عالقتان بأهدابها تأبيان النزول، كل هذا أشعره بألم حاد في صدره ولو استمع لجنونه في ذلك الوقت لعاد إلى القصر وقتل ذلك المغرور دون الإكتراث لما قد يحدث بعدها
ملأت صدرها بالهواء ثم حبسته لبعض الوقت قبل أن تخرجه وكأنها تغسل صدرها مما علق به من آلام ثم حركت عينيها في الإتجاه الذي يقف فيه فتفاجئت به يقف أمامها يتأملها فأطالت النظر إليه دون قول شئ فدنا منها وجثا على ركبتيه أمامها ثم بدأ يمسح بطرف اللثام الرطب على وجهها وقال بابتسامة:
في إحدى ليالي الشتاء كنت أنا وامي في بيتنا وكان عمري وقتها حوالي السابعة أو الثامنة، كنا نقوم بإشعال النار لتدفئة المكان فقفزت جمرة متقدة فوق قدمي فأحرقته عندها صرخت وأنا أتألم فصاحت أمي بقلق وهي ترى دموعي:
ماذا حدث؟
لم أقل شيئاً ولكني كنت ممسكاً بقدمي فشهقت وهي تبعد الجمرة التي التصقت بقدمي دون أي خوف من أن تحرق الجمرة يدها ثم تركتني لحظات وعادت تحمل وعاءً مليئاً بالماء البارد وقامت بوضع قدمي داخله ورغم برودة الجو إلا أنني لم أكن أشعر ببرودته بقدر ما كنت أشعر بالنار التي أحرقت قدمي، وبعد مرور القليل من الوقت هدأت الحرارة التي كنت أشعر بها فأخرجت أمي قدمي من الوعاء وقام بسكب محتواه فوق النار فأطفأتها ثم مسحت بيدها على شعري بحنان وقالت وهي تبتسم:
هيا لننام
ثم حملتني بين ذراعيها كطفل رضيع ووضعتني فوق الفراش ثم دثرتني بأغطية سميكة حتى أنعم بالدفء ثم تدثرت إلى جواري
وبعد منتصف الليل استيقظت من نومي بسبب الآم قدمي فأخذت أبكي في صمت كي لا أوقظها ولكنها شعرت بي، فاستيقظت ثم أمسكت بقدمي وقبلت موضع الإصابة ثم ضمتني إلى صدرها وقالت:
في الصباح ستنتهي الآلآم يا صغيري
كانت قبلتها بلسماً شافياً فلم أعد أشعر بأي ألم بعدها فقمت بدفن وجهي بين ذراعيها وذهبت في نوم عميق
وفي الصباح استيقظت فلم أجدها إلى جواري إذ كنت معتاداً على هذا فنهضت وذهبت إلى مطبخ بيتنا حيث كنت أجدها دوماً ولكني لم أجدها أيضاً فجلست أنتظرها في الردهة حتى عادت بعد وقت ليس بالقليل تمسك في يدها خرقة رطبة، دلفت إلى البيت وخلعت حذائها الملطخ بالوحل قرب الباب ثم دنت مني وعلى وجهها ابتسامتها الصبوح التي أعشقها ثم جلست إلى جواري ووضعت الخرقة الرطبة على قدمي المصابة وهي تقول:
بعض قطرات من الندى بإمكانها شفاء بعض جروح الجسد
بعدها أبعدت الخرقة وقبلت قدمي مرة أخرى وتابعت:
وبعض قطرات من الحب قادرة على شفاء جروح الروح
ثم استطردت وهي تبتسم:
وبعض قطرات من الدغدغة قادرة على إضحاك صغيري
فانطلقت أركض بعيداً عنها هرباً مما ستفعله بي
كانت تضحك وهي تلاحقني وكان صوت ضحكاتها يداعب روحي ولكنها توققت فجأة وهي تصيح متألمة فالتفت نحوها بفزع فرأيتها جاثية أرضا وهي تمسك ببطنها وتتلوى ألماً فهرعت إليها لأرى ما بها، وما إن اقتربت منها حتى أمسكت بي وهي تضحك ثم تابعت بمكر:
ها قد وقعت في الفخ أيها الفأر
فحاولت التملص منها وأنا أقول:
لقد خدعتني يا أمي
فتابعت بانتصار:
لن تستطيع الإفلات مني مرة أخرى
ثم أخذت تدغدغني وصرت أضحك حتى سالت دموعي من شدة الضحك
كانت الدموع تلمع في عينيه عندما مر طيف والدته على ذاكرته، فوضعت ريماس كفها فوق كفه التي تمسح على آلآم وجهها وقالت بعد أن سالت دموعها:
شكراً لأنك عدت
أمسك يدها بكلتا يديه ثم طبع قبلة رقيقة على كفها وقال:
إن لم أعد لأجلكِ أنتِ فلأجل من سأعود؟
ثم مسح دموعها وضم رأسها إلى صدره وأطلق لدموعه العنان

{ملك الذئاب} حيث تعيش القصص. اكتشف الآن