الفصل الثالث والعشرين(23)

44 14 0
                                    

هجمت عليه الذكريات منذ أن وطئت أقدامه جنوب أكاسيا ولكنه كان متماسكاً فلم يكن يدري أنه بمجرد أن يلج إلى بيته لن يستطيع مقاومة أي ذكرى تمر على ذاكرته حتى وإن كانت ذكرى عادية ليست ذات أهمية
اقترب من السور الخارجي للبيت وأخذ يمر بيده عليه بشوق بدا في عينيه ثم قال بألم وهو يكافح دموعه:
لطالما لعبت إلى جوار هذا السور ولطالما شهد أجمل أوقاتي
ثم دفع البوابة بكلتا يديه ودلف إلى الداخل فتبعه البقية، ثم جثا على ركبتيه وقبض حفنة من تراب الحديقة بيده ثم قال وقد لمعت الدموع داخل عينيه الحزينتين:
كم لامس هذا التراب أقدامي وكم قبل أقدام أبي وأمي
ثم نهض بعدما انزلقت عبرة مؤلمة على وجنته وسار باتجاه البيت، ثم أخرج من أسفل سترته قلادة ملتفة حول عنقه ومعلق في طرفها مفتاح، حدق به طويلاً ثم دسه في ثقب الباب وفتحه فهبت رائحة الذكريات في وجهه مما أصابه بألم حاد في قلبه ثم دلف إلى البيت وهو يدور ببصره في كل مكان وكأنه ينتظر خروج أحد والديه من ركن ما من أركان البيت
كان كل شئ مغطى بالغبار وشباك العناكب، كانت ردهة البيت واسعة بعض الشئ تتوسطها سجادة ذات لون أزرق كلون السماء موضوع فوقها طاولة متوسطة من نفس اللون
وفي الجانب الأيمن من الردهة كان هناك أريكة ومقعدين بلون العسل تتوسطهم منضدة صغيرة، وفي الجهة المقابلة لها مائدة وضع حولها زوجين من المقاعد الخشبية ذات تصميم رائع، وبالقرب منها يوجد درج للطابق الثاني الذي يحوي غرفتين كبيرتين أمامهما رواق يطل على الردهة
أخذ يمر بيده على كل شئ تقع عليه عينه، فلامس الأريكة والمقاعد حتى أنه جرب الجلوس عليها جميعاً وكأنه يستعيد ذكريات طفولته ثم اقترب من الطاولة التي تتوسط الردهة ولامسها بيده فوقع بصره على بقعة داكنة موجودة على السجادة الزرقاء فجثا إلى جوارها ثم وضع يده فوقها وانهمرت دموعه مغرقة وجهه فقد عاودته أقسى ذكرى مرت عليه في حياته، بل ولن تمر عليه ذكرى أقسى منها ثم قال بصوت باكٍ يمزق القلوب:
هنا كان حبيبيَّ غارقان في دمائهما، قتلا غدراً في ليلة قمراء سيظل بدرها شاهداً على ما حدث حتى آخر الزمان
ثم تابع:
لم تكن أمي تؤذي أحداً لا بقول ولا فعل فبأي ذنب تقتل أمي ، وكذلك والدي لم أسمع أحداً يجرح سيرته بل الجميع كانوا يحبونه فبأي ذنب يقتل أبي
بل بأي ذنب أغدو يتيماً ولا أجد من يربت على قلبي الجريح الذي عشش الألم داخله وأنا طفل صغير
ثم نظر نحو رفاقه الذين انهمرت دموعهم حزناً على مصابه:
لو رأيتم ما رأيته ليلتها لتفجرت قلوبكم ونزفت عيونكم، طفل دون العاشرة ينام بجوار جثة والده المذبوح وأمه الممزق فؤادها يبكي بحرقة ولا يجد من يواسيه ويضمه إلى صدره ليشعره بشئ من الأمان
ثم نهض وهرول نحو الخارج فلحقوا به فوجدوه جاثياً بجوار كومة من التراب ولما اقتربوا منه وجدوا لوحاً خشبياً قديماً مكتوب فوقه ( غسان ـ أفنان  )، فعرفوا أنه قبر والديه والذي حفره بنفسه في مشهد قاس جعلته الدنيا يمر به وهو طفل صغير
كان يمرر يده ذهاباً وإياباً فوق القبر ويبكي بحرقة تكاد تجعل الصخر يشاركه بكاءه
أظهر شمس القليل من التماسك فمسح دموعه واقترب منه ثم قال وهو يربت على كتفه:
سامحني يا أخي لأنني لم أكن معك قبل اليوم، ولكني أعدك أن أظل إلى جوارك حتى تفارق روحي جسدي
نظر مجد إليه ثم عانقه وأخذ يبكي بقوة أكبر فتابع شمس في محاولة للتخفيف عنه:
جميعنا في هذه الحياة يا صديقي يمر بأمور لم يكن بمقدور عقله أن يتخيل حدوثها أبداً ولكنها تحدث فإما أن يستسلم لها ويهلك أو يواجهها وينجو
فاقترب منه تميم ثم قال وهو يضع كفه الصغير فوق كتف مجد:
ذكرياتنا المؤلمة تبقى خالدة في أرواحنا وليست في عقولنا لذا لا يمكننا نسيانها أبداً، ولكن يمكننا تناسيها لتستمر حياتنا
ابتعد مجد عن شمس ونظر إليه فتابع وهو يبتسم بمرارة:
لن تستطيع نسيان والديك أو حتى تتناسى ما حدث لهما ولكن حاول ألا تكون سبباً في حزنهما فالآباء والأمهات يشعرون بأبنائهم حتى وإن كانوا أمواتاً
فضمه مجد إلى صدره وبكى من جديد

{ملك الذئاب} حيث تعيش القصص. اكتشف الآن