الفصل الخامس والعشرين(25)

54 11 0
                                    

لقد نهضوا سيدي.
قالها السيد بشير قائد السجن وهو يقف بين يدي شريح وابنه اللذين كانا ينظران إليه لا يصدقان ما يقوله
رواق ضخم وطويل جداً يقع على جانبيه مئات الزنازين الكبيرة جداً والتي قسمت من الداخل إلى ثلاث زنازين متوسطة الحجم،  كل زنزانة منها مغلقة بقضبان حديدية قوية، وفي داخل كل زنزانة يقبع كائن غريب الشكل له هيئة تشبه البشر إلا أنه أضخم بشكل كبير ويغطي شعر رمادي سائر جسده، تبرز عضلات ذراعيه وكتفيه، أما الوجه فهو الأغرب بين كل هذا فهو يشبه وجوه الذئاب
كان جنيد ينظر إلى كل هذه المخلوقات بدهشة ويكتسي وجهه بأمارات عدم التصديق رغم أنه كان على علم بوجودها ولكنه لم يكن يتخيل أنها ستنهض ذات يوم أو ما هي هذه الكائنات فقال يسأل والده الذي كان ينظر نحو تلك الكائنات بفخر وكأنه قد وصل أخيراً لمبتغاه:
ما هذا؟
فآجابه دون أن يرفع بصره عنها:
إنهم جنود ممالك الذئاب يا بني
ـ جنود ممالك الذئاب؟!
قالها جنيد بعدم فهم فأردف والده:
منذ ما يزيد عن المائتي عام اكتشف راع وجود هذه المخلوقات داخل كهف أطلق عليه كهف الراعي يقع قرب الغابة الملعونة من الجهة الشمالية في وادٍ يطلق عليه اسم وادي الذئاب ولكن لم يعرف أحد عنها شئ حتى مر مائة عام على ذلك الأمر وتم إخراجها من الكهف عنوة بأمر من الملك الذي كان في ذلك الوقت فجعلها خاضعة له بطريقة ما وقام بمحاربة إيبرس التي كانت ترفض الخضوع له
فقاطعه جنيد:
كيف عرفت هذا؟
اقترب منه وقال:
قرأت عن هذا في كتاب وجدته مصادفة في مكتبة القصر
فرمقه جنيد بنظرة غريبة وقال باستنكار:
وهل صدقت ما كتب فيه بهذه البساطة؟
ـ ما تراه أمامك هو عين اليقين
قالها شريح وهو يشير إلى الوحوش فاقترب جنيد من أحد الزازين وقام بنغز الوحش الذي بداخلها باستخدام عصاً مدببة فأطلق الوحش عواءاً قوياً يصم الآذان ثم هجم عليه ولولا وجود القضبان الحديدية التي تفصله عنه لكان افترسه على الفور
سقط جنيد على ظهره من المفاجأة فأطلقت سلاف التي كانت تقف صامتة ضخكة استفزته ولكنه لم يعلق ثم سأل والده:
كيف يتم ترويض هذه الكائنات؟
قوس شريح فمه لأسفل علامة الجهل، فقال بغضب وهو ينهض:
كيف لا تعرف؟ أين ذلك الكتاب اللعين؟ لابد وأن به طريقة ما لترويض هذه الكائنات
ثم زفر أنفاسه بقوة وتابع:
هذه الكائنات لن تفرق بين عدوها أو صديقها
أطلق شريح تنهيدة قوية وهو يطالع ابنه الغاضب ثم قال:
وجدت ذلك الكتاب في مكتبة القصر وقد كان موجوداً في زاوية بعيدة عن بقية الكتب فلفت انتباهي، فذهبت إليه وأمسكت به وما إن فتحته حتى دلفت الملكة بتول فجأة وامتقع وجهها حين رأته بين يدي ثم أسرعت نحوي والتقطته من يدي ثم أشارت في وجهي بسبابتها وقالت:
إياك أن تمس هذا الكتاب مرة أخرى
ثم أعادته إلى مكانه وعادت ووقفت قبالتي ثم تابعت بكبرياء:
لا تنس نفسك يا شريح، أنت لست سوى فارس أو بمعنى أدق خادم يمكن الإستغناء عنه في أي وقت ولست صاحب مكان لتسرح وتمرح في القصر كما يحلو لك
كدت أن أنفجر من كلامها اللاذع فتركتها وانصرفت
كانت بتول على علم بأمر الخلاف الذي بيني وبين شقيقها غسان فقد كانت تظن أني أطمع في مكانة أخيها كونه المستشار الأول للملك ولكنها لم تكن تعرف أني أطمع فيما هو أكبر من هذا، فقد كنت أطمع في مكانة زوجها وبعد معرفتي بالسر الموجود داخل الكتاب أصبحت أطمع في حكم العالم بأسره.
في اليوم التالي انتهزت فرصة انشغال الجميع في القصر ودلفت إلى المكتبة وتصفحت بعض صفحات الكتاب على نحو سريع ثم خرجت قبل أن يلتفت إلى أحد، ثم فعلت الأمر نفسه في اليوم التالي واليوم الذي يليه حتى اكتشفت أمر تلك الكائنات وفي الوقت نفسه اكتشفت فيه الملكة أمر تصفحي لكتابها سراً فأخفته قبل أن اعرف ما فعلته تلك الكائنات بإيبرس، وذلك لشكها في نواياي، وما أغاظني وكاد أن يقتلني قهراً أنها أعطت الكتاب لشقيقها في اليوم ذاته الذي يسافر فيه إلى الجنوب حيث زوجته وابنه وهي ترمقني بنظرة ماكرة فأحضرت في اليوم ذاته سماً قوي المفعول ودسسته في طعامها الذي كان آخر شئ تتناوله في حياتها وفي الصباح تفاجأ الجميع بموت الملكة ولكن لم يعلم أحد أنني أنا من قتلها
أما بالنسبة لغسان فأرسلت خلفه فارسين ماهرين جداً كانا من حراس القصر وأمرتهما بقتله وإحضار ذلك الكتاب ولكنهما لم يعثرا عليه قط وعادا خاليا الوفاض فانتهزت حالة الحزن المسيطرة على القصر وذهبت إلى ذلك الجبل وصعدت إلى الكهف الذي يقبع قرب قمته فوجدت بابه مغلق بالصخور التي حاولت زحزحت إحداها ولكن هيهات فقد كان الأمر صعباً جداً فجلست أرضاً التقط بعض أنفاسي ثم نهضت وأنا أصيح مشجعاً نفسي:
هيا يا شريح بإمكانك فعلها
فاستطعت إزالة إحدى الصخور بصعوبة بالغة ثم نظرت عبر الفتحة التي خلفتها لداخل الكهف فلم أرى شئ سوى الظلام فقمت بإزالة بعض الصخور التي سهلت إزالتها بعدما أزلت الصخرة الأولى كي أتمكن من رؤية المكان ولما نظرت مرة أخرى لم أجد شيئاً فقلت في نفسي أن ما كتب في ذلك الكتاب ليس سوى خرافة أو أسطورة تناقلها الناس بينهم حتى جاء من دونها في كتاب
فعدت أدراجي هابطاً إلى الوادي ثم توقفت حين تذكرت أثناء هبوطي أني لمحت شيئا داخل الكهف ولكني لم أنتبه له فعدت لأتأكد مما رأيت فوجدت سرداباً في الجانب الأيمن من الكهف فاشتعل الحماس في داخلي وعدت أزيل الكثير من الصخور كي أتمكن من دخول الكهف
لا أعرف لماذا شعرت بانقباضة في صدري بمجرد أن وضعت قدمي فوق أرضية الكهف،
سرت يميناً باتجاه ذلك السرداب دون الاهتمام لما شعرت به، كان المكان مظلماً لدرجة أنني كنت أتحسس موضع قدمي حتى توغلت داخله وبدأ صدري يضيق ولم أعد قادراً على التنفس لدرجة أني شعرت أني سأموت في ذلك المكان حتى رأيت ضوءاً ضعيفاً يظهر عند نهاية هذا السرداب الذي كنت أسير فيه فتابعت سيري بصعوبة حتى وصلت إلى نهايته فوجدت ساحة عظيمة في باطن الجبل مضاءة بالكامل بضوء النهار القوي الذي يتسلل إليها عبر فتحة في قمة الجبل
عندما وقع بصري على تلك الساحة رأيت مشهدا كدت أموت رعباً بسببه، مشهد يشيب له الرضيع في مهده
فقد كان هناك المئات من هذه الكائنات تجلس متأهبة وكأنها تستعد للهجوم، جميعها شاخصة الأعين لو اطلعت عليهم حينها لوليت هارباً أو لتوقف قلبك وسقطت صريعا في الحال.
كانت المفاجأة في تلك اللحظة قد جمدتني فلم أعد قادراً على الهرب ولا التقدم نحوهم فبقيت جامداً في مكاني لوقت طويل فأنا لا أعرف شيئاً عن هذه الكائنات ولا علم لدي عما يمكنها أن تفعله بي في تلك اللحظة حتى استجمعت شجاعتي وتجرأت على التقدم نحوها ليقيني أنها ستقتلني على كل حال، ثم مددت يدي المرتعشة نحو أحدهم واستطعت لمس ذراعه الضخم الذي تبرز عضلاته بشكل مرعب ويفوق حجمه حجم الذراع البشري ربما بعشرة مرات فأحسست بليونته مما أوحى لي أنه لا زال حياً وأنا أخشى أن يلتفت نحو في أية لحظة ثم مررت يدي أمام عينيه لأتأكد ما إن كان حياً أم لا فلم يحرك ساكناً فخطرت في عقلي فكرة مجنونة، قررت تنفيذها دون النظر إلى العواقب فملأت صدري بالهواء مستجمعاً شجاعتي ثم دفعته بكلتا يدي بقوة فمال على جانبه فاطمئن قلبي نوعاً ما إلى أن هذه الكائنات لا زالت حية ولكنها جامدة بطرقة ما فأسرعت عائداً عبر السرداب حتى وصلت إلى الكهف ثم خرجت منه وأخذت أعيد الصخور إلى أماكنها، ثم هبطت إلى الوادي وامتطيت ظهر حصاني الذي كان ينتظرني هناك وانطلقت عائداً إلى القصر وأنا أفكر في طريقة لإخراج هذه الكائنات من ذلك المكان والأهم، إخراجهم من حالة الجمود التبدي كانوا عليها حتى التقيت سُلاف التي ساعدتني هي وبعض الموالين لي في إخراج هذه المخلوقات من ذلك الكهف وإحضارها إلى هذا المكان.
كان جنيد يحملق بوالده في ذهول وعندما انتهى الأخير مما لديه ابتسم جنيد بمكر وهو يقول:
تستحقها يا شريح
بادله والده الإبتسامة، فتسائل مستغرباً:
ولكن كيف سنتمكن من إخضاع هذه المخلوقات لنا؟
ـ هنا يحين دوري يا سيد جنيد
نطقت بها العجوز فرمقها بنظرة شك فقالت وهي تشير نحوه:
إنزع سترتك
فصاح متهكماً:
هل فقدت عقلكِ أيتها العجوز؟
ـ ليس بعد
ثم تابعت وهي تشير له أن يسرع:
هيا
زفر أنفاسه بضيق ثم سألها:
لماذا؟
نظرت إليه مطولة ثم قالت:
هل تريد إخضاع هذه المخلوقات لك أم لا؟
أومأ إيجاباً فتابعت:
إذن إخلع سترتك
فخلع سترته على مضض وأصبح عاري الجذع فأخرجت المرأة من جُعبتها مجموعة من الأدوات التي تستخدم في دق الوشوم ثم أمرته أن يجثو على ركبتيه ففعل فبدأت في دق وشم على الجانب الأيمن من صدره، كان الألم جلي على وجهه ولكنه كان متماسكاً وبعدما انتهت من دق ذلك الوشم بدأت في دق ذات الوشم الذي كان عبارة عن وجه ذئب على ظهر كفه الأيسر ثم قالت بعدما انتهت:
هذه الوشوم كان يحملها ملكهم وهم جميعاً يخضعون له ويأتمرون بأمره
ثم أخرجت من جُعبتها أيضاً قلادة من العاج على شكل رأس ذئب وعلقتها حول عنقه ثم قالت:
اقترب من أحد الوحوش وأمره بما تريد وسترى ما سيبهرك
كان يشعر بالبلاهة وهو ينفذ كل ما تأمره به هذه العجوز ولكنه قرر أن هذا الأمر سيكون آخر شئ سيفعله من أوامر هذه المرأة ثم دنا من إحدى الزنازين ونظر نحو الوحش الذي بداخلها والذي كان يبدو عليه الغضب الشديد، فلاحظ جنيد أن عين الوحش قد راحت تنظر باتجاه الوشم الذي على صدره فتعمد إظهار الوشم الذي على يده فنظر اليه الوحش أيضاً ثم تعلق بصره بالقلادة وانحنى في احترام فلم يصدق جنيد ما تراه عينه فقال ليجرب الأمر:
انهض
فنهض الوحش على الفور وظل منتصباً في انتظار الأمر التالي فأراد جنيد التأكد أكثرفقام بفعل الأمر ذاته مع وحش آخر ففعل ما فعله الوحش الأول فارتسم الذهول على وجهه فاقتربت منه العجوز وهي تبتسم ثم قالت:
ألم أخبرك؟
نظر نحوها بنفس الذهول ثم قال متعجباً:
كيف عرفتِ كل هذا؟
فقالت بحدة:
ليس من شأنك
ثم نزعت القلادة عن عنقه وقالت:
جرب بدونها
نظر نحو الوحش وأمره أن يجلس فأخذ الوحش يقلب بصره بين الوشم الذي على صدره وعلى وجهه في صمت وقد ظهر التردد والحيرة على وجهه، فنظر جنيد نحو العجوز وكأنه يسألها عن السبب فضحكت بسخرية وقالت:
أنت لا شئ بدون القلادة
فانعقد حاجبيه في غضب ثم مد يده لينتزع القلادة من يدها ولكنها اختفت من يد العجوز أمام ناظريه فاتسعت عينيه في دهشة بينما تابعت العجوز:
لكل شئ ثمنه يا مولاي
زفر أنفاسه بضيق ثم قال:
لم أعهدكِ ساحرة أيتها الشمطاء
قهقهت العجوز عالياً ثم قالت متجاهلة ما قاله:
ألا تريد معرفة الثمن يا سيد جنيد؟
أشاح بوجهه بعيداً عنها فاقتربت منه ثم همست بشئ في أذنه جعل حدقتاه تتسعان فنظر إليها غير مصدق فابتسمت بثقة وكأنها تقول هذا ما لدي

{ملك الذئاب} حيث تعيش القصص. اكتشف الآن