ـ إنه أخي
صرخ بها الشاب الصغير وهو يحتضن جثة شقيقه فشعر مجد بالعجز في هذا الموقف، وقد كانت تلك أول مرة يشعر فيها بهذا الشعور فلم يستطع مواساته وبقي صامتاً ولكن دموعه التي ترقرقت في عينيه كانت أبلغ من أي كلمات.
بعد مضي وقت طويل هدأ بكاء الشاب وأخذ يحدق بالفراغ بأعين ثابته بعد أن جفت دموعه فقام مجد بإبعاده عن جثة شقيقه ثم قام مجموعة من الشباب بنقل الجثث الثلاثة وحملهم فوق ظهور الأحصنة استعدادا لنقلهم إلى الجنوب
عند منتصف النهار وبعدما انتهوا من دفن جثث الشباب الثلاثة الذين لقوا حتفهم في ذلك الهجوم الغادر كان الشاب يجلس قرب قبر شقيقه ينظر إليه بأعين جامدة وقد كانت ما تزال هناك دمعة عالقة بأهدابه تأبى النزول كي لا تحرق وجنته فيكفيه ما هو فيه من روح محترقة وقلب تمزق نياطه لفقد عزيزٍ وغالي
شعر مجد بالأسى لحاله فدنا منه وجلس إلى جواره ثم سأله عن اسمه فقال الشاب دون أن يرفع عينه عن قبر أخيه وبصوت مختنق وضعيف:
زياد
وضع مجد راحته فوق كتفه ثم قال وهو يشد عليه:
كن قوياً يا زياد، فهذه الدنيا عنيدة ولا تحب الضعفاء أبداً فكن عنيداً أكثر ولا تسمح لها بأن تنال منك يا فتى
لم يكن في حال تسمح له أن يستمع لأية نصائح فلم ينبس بشئ ففقد الأخ مصيبة لا تضاهيها مصيبة، فلاذ مجد بصمته حتى قصع زياد هذا الصمت قائلاً:
كان عمري خمسة أعوام حين ماتت أمي وكان عمر أخي حينها خمسة عشر عاماً
لم يمضي شهر على وفاة أمي حتى تزوج والدي بامرأة أخرى ذقت أنا وأخي على يديها ألواناً من الذل منذ أن وطئت أقدامها عتبات بيتنا، وبعد مرور شهرين من زواج والدي وتحديداً عند منتصف الليل كان جميع من بالبيت نيام في ذلك الوقت، أو هكذا كنت أظن فأنا لم أكن نائماً فكيف أنام وأنا أعرف أنني سألاقي في اليوم التالي ما لاقيته في يومي من ضرب وإهانة، وإذ بي أشعر فجأة بأخي ينهض من جواري ويسير متسللاً على أطراف أصابعه حتى خرج من الحجرة فلحقت به دون أن يشعر بي فرأيته يفتح باب البيت ويخرج فجلست في مكاني أنتظر عودته حتى غلبني النوم ولم أستيقظ إلا على شئ يدفعني، فتحت عيني فرأيت زوجة أبي تقف أمامي وتضربني بقدمها في كتفي وتحملق بي متعجبة من افتراشي الأرض ثم قالت بحدة:
لماذا تنام هنا؟
ثم ألقت ببصرها إلى داخل الحجرة المفتوح بابها وتابعت:
وأين ذلك الوغد؟
كانت تقصد شقيقي فصرخت فيها غاضباً من سبها أخي:
اسمه أصيل، وهو ليس وغداً
فأخذت تسبني بأقذع الألفاظ ثم انهالت على بالضرب فاستيقظ والدي على صوت صراخي وهو يفرك عينيه من أثر النوم وهو يتسائل في غضب:
ماذا حدث؟ لم كل هذا الصراخ عند الصباح؟
فتصنعت زوجته الحزن وقالت:
لم أجد أصيلاً في حجرته فأيقظت زياداً وسألته عنه فأخذ يصرخ دون سبب وهو يهرول خارجاً من الحجرة وكأنه يقصد ذلك لتظن أنني أسئ إليه
فنظر والدي نحوي بغضب ثم تابع ما بدأته من ضرب وسب حتى لم أعد قادراً على النهوض من مكاني،
كنت أنظر باتجاه الباب منتظراً عودة أخي ولكنه لم يعد، بل إني كنت أنتظره كل يوم على أمل عودته ولكنه لم يعد أبداً فصرت ألعنه في داخلي ألف مرة ومرة على تركه لي وحيداً أعاني من بطش أبي وزوجته
وفي إحدى الليالي الباردة وبعد مرور خمسة أعوام على ذلك اليوم الذي اختفى فيه أخي، كنت أنام في ردهة البيت بعدما استولت زوجة والدي على حجرتي لينام بها أبنائها، كنت أنام متكوراً على نفسي علني أحظى ببعض الدفء فالطقس في تلك الليلة كان بارداً بشدة على غير عادته ولم أستطع النوم بسببه فسمعت فجأة صوتاً قرب نافذة البيت فشعرت بالخوف ثم سمعت صوت محاولات لفتح النافذة فأصابني الذعر وكدت أن أصرخ فقد يكون لصاً ولكني تمالكت نفسي فإن لم يكن هناك أحد فلن أنجو من والدي أبداً، ثم فُتحت النافذة ورأيت على الضوء المتسرب منها من يدلف إلى البيت ثم أخذ يتحرك في المكان دون صوت حتى توقف فجأة واستدار في مواجهتي ولو انقشع الظلام في ذلك الوقت لرأيته يحدق بي ثم شعرت به يقترب مني فبدأ جسدي يرتعد وأخذت دموعي في الإنهمار وأنا أخشى إغماض عيني حتى رأيته يجثو أمامي ويربت على كفتي برفق ثم قال بصوت حانٍ:
زياد لا تخف، هذا أنا، أصيل
توقفت عن البكاء للحظات فهذا هو صوت أخي وأستطيع تمييزه بين مئات الأصوات التي تشبهه ثم أخذت أفكر، هل أرتمي بين ذراعيه وأفرح بعودته؟ أم أدفعه بعيداً لائما له على تركي وحيداً؟ ثم شعرت به يجذبني من يدي وهو يقول بصوت منخفض:
هيا بنا يا زياد
فدفعت يده بعيداً عني ثم قلت بحدة وبصوت منخفض كي لا أوقظ أبي:
إبتعد عني ولا تريني وجهك بعد الآن
لم أرى ملامح أخي في تلك اللحظة ولكني متأكد أنها كانت مزيج من الدهشة والغضب فقال محاولاً معرفة ما ألمَّ بي:
لماذا تفعل هذا يا زياد؟ ما الذي أصابك؟
فقلت غاضباً:
لقد تركتني أعاني من قسوة والدنا وزوجته ووليت هارباً غير آبه لما قد يحدث لي وأنا بمفردي بينهم
فمسح بيده على رأسي بحنان ثم قال محاولاً استعطافي:
كان هذا من أجلك يا زياد
ثم تابع:
لقد تركت البيت من أجل تأمين حياة لنا بعيدا عن هذا الأب القاسي وزوجته
وكأن عقلي يصم أذني عن الإستماع له فقلت معترضاً:
عد من حيث أتيت يا أصيل فأنا لست بحاجتك ولا أريدك في حياتي أبداً
ثم نطقت بالجملة التي أنا متأكد من أنها أغضبته:
أنت لم تعد أخي، وأنا ليس لي أخ يدعى أصيل، فأخي مات منذ زمن
عم السكون البيت إلا من أنفاسنا أنا وأخي فرأيته ينهض ويسير باتجاه النافذة ولكنه عاد نحوي مسرعاً ثم قال:
قل ما تقوله فأنا لن أدعك هنا مهما حدث
ثم شعرت به يرفعني لأستقر فوق كتفه ثم خرج بي عبر النافذة كما دخل
قطع مسافة طويلة في السير وأنا ما زلت مستقراً فوق كتفه حتى وصلنا بعد شروق الشمس إلى أطراف قرية بعيدة عن قريتنا فقلت بعدما شعرت أن التعب والإرهاق قد ألمَّا به:
أنزلني يا أصيل
فقال بتحدٍ وهو يتابع سيره:
لن أفعل
فقلت أنا بتحدٍ أكبر:
أنزلني وإلا……
فتوقف عن السير وقال:
وإلا ماذا؟
فقلت في غيظ:
سأصرخ
قهقه أخي عالياً وقال:
إفعلها إذن
فابتسمت رغماً عني لسماعي ضحكاته ولان قلبي فجأة ثم قلت دون شعور:
لابد وأنك تعبت يا أخي، أنت تحملني منذ منتصف الليل
فأنزلني عن كتفه وقال وهو ينظر في عيني بنظرة ملؤها الحب:
وأحملك ما تبقى من حياتي يا زياد
ثم تابع وقد نبع الحب من عينيه وسال مع كلماته كالعسل المصفى:
أنت أخي يا زياد وأقسم لك لو اجتمعت الدنيا بكل مخلوقاتها لتفرق بيني وبينك فلن أدعها وإن كنت سأدفع روحي ثمناً
لم أشعر بنفسي وأنا أرتمي بين ذراعيه وأجهش بالبكاء وأقول:
لقد انتظرتك طويلاً يا أصيل، لقد جعلتني أظن أنك تخليت عني، أنت قوتي يا أخي وأنا بدونك لا شئ
أخذ يربت على ظهري بحنان وهو يقول:
من الآن فصاعداً لن يفرق بيننا شئ يا زياد، لن يفرق بيننا سوى الموت
ثم أبعدني عنه قليلاً ومسح دموعي التي أغرقت وجهي ثم وقف وأمسك بيدي وتابعنا طريقنا سوياً
كنت طوال الطريق أتأمل أخي الذي تغيرت ملامحه بشكل كبير فقد أصبحت قامته أطول ونما شاربيه ولحيته بشكل ملحوظ جداً، كان يبدو أكبر سناً عما كان في السابق وكأنه تحول فجأة من فتى مراهق إلى رجل بالغ
كان أخي يلاحظ ما أفعله فكان ينظر نحوي بين الفينة والأخرى ثم يبتسم فأبادله الإبتسامة وأنا أشعر بسعادة لا توصف حتى توقفنا أمام بيت صغير مكون من طابق واحد فسألته:
لمن هذا البيت؟
فأجابني:
لنا
ابتسمت بسعادة لضمه لي فيما يملكه
فتح أخي الباب ودلفنا إلى البيت الذي كان عبارة عن ردهة متوسطة يوجد بها أريكة وحيدة وطاولة طعام صغيرة وحجرة ومطبخ صغير في أحد أركان البيت فسألني أخي قاطعاً على تأملي لبيته:
هل تشعر بالجوع؟
فقلت بحرج وأنا أخفض بصري باتجاه الأرض:
نعم، فبالأمس حرمتني زوجة أبي من تلك اللقيمات التي كانت تمنُّ عليَّ بها في يومي لأنني لم أنجز مهامها كما أرادت
جثا أخي على ركبتيه أمامي حتى صار في موضع يسمح له بالنظر في عيني مباشرة فوجدته غاضباً يكز على أسنانه وقد انتفخت أوداجه، ثم لانت ملامحه لما رأى الحزن والخوف يمتزجان داخل عيني وقال:
لن يكون هناك ذلك الأب وزوجته بعد الآن، فقط أنا وأنت
ثم أشار باتجاه الطاولة وقال:
هيا لتأكل
فأسرعت نحو الطاولة وجلست على أحد المقاعد فرأيت أخي يدلف إلى مطبخه ثم يعود بعد لحظات حاملاً بين يديه بعض الأطباق التي تحوي جبناً وزيتوناً وعسلاً ثم وضعها أمامي وطلب مني تناول الطعام بالقدر الذي أشاءه، فأخذت آكل بنهم شديد لدرجة أنني لم أعد قادراً على التنفس ثم قام أخي برفع ما تبقى من طعام وأعاده من حيث أتى به ثم وقف بالقرب مني وقال وهو يشير نحو الحجرة:
إذهب إلى تلك الحجرة فلابد وأنك تريد النوم
تهللت أساريري فرحاً فهائنذا أخيراً سأنام فوق فراش وأنعم بالراحة والدفء وهممت بالذهاب إلى الحجرة ولكني توقفت وأنا أنظر صوب أخي ثم تسائلت:
وأنت، أين ستنام؟
ضم شفتيه وكأنه يفكر فتابعت:
نم أنت في حجرتك وأنا سأنام هنا، فأنا معتاد على النوم هكذا
أمسك ذقني بكفه برفق ثم رفع وجهي لأعلى لتلتقي نظراتنا ثم قال:
كيف كنا ننام في السابق يا زياد؟
فقلت مندفعاً دون تفكير:
كنا نتشارك حجرة واحدة
فقال باستنكار وقد ارتفع أحد حاجبيه لأعلى:
وهل اختلف الحال الآن؟
فقلت مدافعاً:
لم أقصد شيئا يا أخي، ولكن لكل إنسان خصوصية لا يحب أن يشاركها مع أحد وخصوصاً إن كان طفلاً صغيراً مثلي
فقال أخي باستنكار:
ومن قال أنني أراك طفلاً يا زياد؟ أنا لا أراك إلا رجلاً راشداً
وإذ به يحملني إلى الحجرة ثم يضعني فوق الفراش
كانت هناك بسمة عالقة على شفتيه أشعرتني براحة غير عادية ثم رأيته يهم بالخروج من الحجرة فوثبت من الفارش وأنا أصيح منادياً إياه:
أصيل إلى أين أنت ذاهب؟
التفت أخي إلى وتسائل متعجباً لما رآني أقف بجوار الفراش:
لماذا نهضت؟
فقلت دون الاكتراث لسؤاله:
إلى أين أنت ذاهب؟
ـ سأذهب لأنجز بعض أعمالي وأعود
فصحت مكذباً:
كلا، بل أنت تنوي الرحيل من جديد
فقال مدافعا:
أقسم لك أني سأذهب لأنهي بعض أعمالي المتأخرة
عندها لم أستطع الصمود أكثر فقلت وأنا أنهار على الأرض باكياً:
لا تتركني وحدي يا أصيل، أنا أشعر بالخوف من دونك يا أخي
ثم أخذ جسدي يرتجف ولم أعد أقدر على قول المزيد فهرع أخي إلى وضمني إلى صدره بقوة وهو يقول:
أقسم لك أني لن أتركك وحيداً مهما حدث، وسأكون بجوارك دوماً يا أخي
ثم تحولت نبرة صوته إلى البكاء وهو يقول:
سامحني يا أخي، أعدك أن ما حدث في الماضي لن يتكرر مرة أخرى
لا أعرف مقدار الوقت الذي بقيناه على ذلك الوضع ولكنه لم يبتعد عني حتى هدأت فسألني بقلق:
هل أنت بخير الآن؟
أومأت إيجاباً فرأيت شبح ابتسامة يرتسم على شفتيه ثم نهض وساعدني على النهوض ثم خرج من الحجرة فلحقت به وأنا أقف عند بابها فرأيته يغلق باب البيت الذي ظل مفتوحاً منذ مجيئنا
ثم عاد إلى مرة أخرى وأخذ يحثني على النوم فجلست على طرف الفراش دون الإستلقاء عليه فقال ليطمئنني:
نم يا زياد وسأظل أنا إلى جوارك ولن أذهب لأي مكان
شعرت بالارتياب قليلاً فأنا أخشى أن أغمض عيني وأفتحها فأجده قد اختفى من جديد ولكني رضخت له على مضض واستلقيت على الفراش وإذ به يستلقي إلى جواري ثم تثائب عدة مرات قبل أن يقول باستنكار:
أي عمل هذا الذي كنت أنوي الذهاب إليه فأنا لا أستطيع رفع جفوني
ثم أخذ يمسح على رأسي برفق حتى غبت في النوم دون شعور
لا أعرف كم من الوقت مر وأنا نائم ولكني حين فتحت عيني وجدت أصيلاً مستلقٍ إلى جواري محملقاً بسقف الحجرة وكأنه ينتظر شيئاً وبمجرد أن أحس بحركتي نظر نحوي فوجدني أنظر نحوه فابتسم وقال:
نوماً هانئاً يا زياد
فبادلته الإبتسامة وتسائلت:
هل نمتُ كثيراً؟
صمت مفكراً ثم قال:
لا، فقط النهار بأكمله
فقلت مندهشا.:
كل هذا الوقت؟!
فضحك أخي ثم نهض عن الفراش دون أن يعلق ثم خرج من الحجرة وأنا ألاحقه بعيني حتى سمعت صوت باب البيت يفتح فأسرعت خلفه إلى خارج البيت فوجدته يسير مبتعداً فصرخت بأعلى صوتي:
أصيل..
فنظر نحوي ثم قال وهو يشير لي بيده دون أن يتوقف عن السير:
لا تتحرك، سأعود بسرعة
فأخذت أتبعه بعيني ودقات قلبي تتسارع حتى اختفى عن أنظاري عندها شعرت أن قلبي سيحطم ضلوعي ليقفز خارجها، جاهدت كثيراً لأحافظ على ثباتي كي لا أنهار باكياً وبقيت في مكاني منتظراً عودته ولما دام تأخره لأكثر من ساعة ظننت أنه قد رحل بلا عودة ولكنه خيب ظني حين رأيته يعود فانهمرت دموعي بغزارة مغرقة وجهي
شعر أخي بالقلق حين رأى دموعي تنهمر بغزارة فأسرع نحوي وهو يقول بقلق:
لماذا تبكي يا زياد؟!
فقلت بصوت متهدج من البكاء:
ظننتك قد رحلت وتركتني
فمسح أخي دموعي وهو يقول معاتباً:
لماذا يا زياد؟ ألم أخبرك أنني لن أتركك أبداً؟ لماذا لا تصدقني؟
لم أجد ما أقوله فلذت بصمتي ولكني واصلت بكائي فمسح بيده على رأسي وقال برجاء:
يكفي يا زياد أرجوك فأنا لا أحتمل رؤية دموعك أبداً
ثم تابع وقد تبدلت تعبيراته إلى الجد:
كن قوياً يا زياد، ولا تتعلق بشئ فكل ما نملكه معرضون لفقده يوماً ما فها قد فقدنا نبع الحنان ولم تعد موجودة بيننا بعدما كنا نظن أنها شئ دائم وها هو الأب الحنون الذي كان يخاف علينا من نسمات الهواء قد تحول إلى حجر لا يلين ولا يرق
ثم أطلق تنهيدة متألمة وتابع وقد تلألأت العبرات في عينيه:
أنت كفايتي من الدنيا يا زياد
ثم دلفنا إلى البيت بعدها
أغلق أصيل الباب ثم توجه صوب الأريكة وجلس فوقها وهو يشير إلي أن أقترب ففعلت ثم فتح لفافة قماشية كانت بحوزته وهو يقول:
لقد جلبتها لك بالأمس ولكني نسيت إحضارها إلى البيت
ثم تابع بابتسامة وهو يخرج قميصاً وسروالاً مناسبان لحجمي:
ما رأيك بهما؟
تهللت أساريري وشعرت بالسعادة تغمرني فقد كنت أرتدي ثياباً بالية ممزقة في أكثر من موضع فشرعت أخلع ثيابي القديمة وارتديت الثوب الجديد الذي جلبه لي أخي وما إن انتهيت حتى دلف هو إلى الحجرة وعاد يرتدي ثياباً غير تلك التي كان يرتديها ثم خرجنا من البيت
كانت الشمس قد أوشكت على الغروب حين ذهبنا إلى مكان أشبه بساحة احتفالات تقام فيها عروض بهلوانية وفرق موسيقية
كان المكان مزدحماً بشدة فأخذ يشق الصفوف وهو يحملني فوق كتفيه، فكان المشهد من أعلى ساحراً حتى وصلنا إلى مجموعة من الشباب يصيحون باسم أخي فأنزلني أخي عن كتفيه ثم أخذوا يتصافحون بطريقة رائعة، وبعدما انتهوا من تلك الترحيبات قال أحدهم متصنعاً الحزن:
لقد خسرنا الرهان يا رفاق
فقال أخي متعجباً:
أي رهان؟
ليجييه أحد الشباب:
بصراحة لقد تراهنا أنك لن تأتي ولكننا خسرنا الرهان
فقال أخي:
ألم أخبركم أني سآتي؟
فقال الشاب نفسه مستنكراً:
وكم مرة أخبرتنا فيها أنك ستأتي ولم تفعل؟
ثم نظر أحدهم نحوي فجأة بتجهم فشعرت بالخوف منه ولكنه ابتسم فجأة كالأبله ثم قال وهو يلوح لي بيده:
مرحباً أيها الصغير
اختبأت خلف أخي وأنا أمسك بثيابه فوضع أخي كفه فوق كتفي وقال:
لا تخف يا زياد هؤلاء رفاقي
فقال الشاب الذي كان يمازحني:
ظننته أكبر من هذا حين أخبرتنا عنه، لم أكن أتخيل أنه طفل صغير
فقال أخي بفخر وهو يبتسم بعذوبة:
أخي ليس طفلاً بل هو رجل، ورجل قوي أيضاً
فبادلته الإبتسامة وقد شعرت بالارتياح لرفاقه ثم بدأت إحدى الفرق بعزف موسيقاها معلنة بداية العروض فجلس الجميع فوق المقاعد الصخرية التي تلتف حول الساحة بشكل دائري وبالطبع لم يكن لي نصيب في تلك المقاعد فجلس أخي على مقعده وأجلسني فوق فخذه ثم أخذنا نشاهد عرض إحدى الفرق الراقصة التي دلفت إلى ساحة الإحتفال وأخذت تتراقص على أنغام الفرقة الموسيقية وعندما انتهت من تقديم عرضها أخذ المشاهدون يصفقون بحرارة فقد أعجبتهم تلك الرقصات التي أبدعوا في أدائها
بعد ذلك دلفت إلى الساحة فرقة من المهرجين الذين قدموا عرضاً ساخراً أدمعت عيون المشاهدين منه من كثرة الضحك وهكذا توالت العروض إلى أن انتهت عند منتصف الليل فودع أخي رفاقه ثم عدنا إلى البيت
وفي الصباح ذهبت برفقة أخي إلى عمله فسألته أثناء ذهابنا عن ماهية عمله فقال بعد صمت:
حداد
ثم تابع لما رأى الدهشة تعتري قسمات وجهي:
ماذا أفعل؟ لقد حاولت كثيراً ألا تكون لنا صلة بوالدنا ولكن يبدو أنه قدرنا والقدر لا مفر منه
ثم جثا أمامي وقال برفق وهو يمسك بساعدي:
اسمعني جيداً فيما سأقوله يا زياد وحاول ألا تنساه
فهززت رأسي بإنصات فتابع:
إن حدث وندم والدنا على سوء تعامله معنا وجاءك طالباً العفو، اعف عنه وإياك أن تكون قاسياً فإنه سيظل والدنا مهما حدث، ولا تنس أنه كان أباً حنوناً وعطوفاً قبل أن يتزوج بتلك المرأة، فكن ليناً وقابل قسوته بالرحمة وبطشه بالصبر فربما عاد نادماً
ثم قبل جبيني وتابع:
هل تعدني يا زياد أن تفعل هذا؟
فقلت وأنا بالكاد أفهم ما يقصده:
إن كان باستطاعتي سأفعل
نظر إلي أخي مستغرباً فأردفت:
أقصد إن كان الوقت الذي سيأتي فيه طالبا العفو يسمح لي بأن أعفو عنه فعلت وإلا فلا
ثم تابعت لما رأيت ملامح أخي قد تبدلت إلى الضيق:
لا تحملني فوق طاقتي يا أصيل فهناك أوقات لا تسمح لنا بالعفو مهما حدث وإن كان من أمامنا يعض أنامله من الندم، لأننا في ذلك الوقت نكون أشد وجعاً من ندمه فلا نقوى على العفو أبداً
رفع أخي كتفيه ثم أخفضهما باستسلام ولكنه ابتسم ثم تابعنا طريقنا
وصلنا إلى المكان الذي يتخذه أخي ورشة لعمله فأصابتني الدهشة،
كان هناك الكثيرين يقفون أمام الورشة وما إن وقعت أنظارهم على أخي حتى أخذوا يزفرون أنفاسهم بارتياح فجذبت طرف قميص أخي وسألته عن أولائك الناس فأخبرني أنهم زبائن الورشة وأنهم هنا لاستلام أغراضهم ومنهم من جاء لصنع شئ ما
دلفنا إلى داخل الورشة وباشر أخي عمله على الفور وعلى الرغم من مكوث البعض لوقت طويل إلا أنهم لم يتذمروا قط وهذا ما أثار تساؤلي فقلت:
ألا يوجد حداد في هذه القرية سواك يا أصيل؟
فأجاب نفياً وأردف:
يوجد الكثيرين ممن لهم الخبرة في هذا المجال
فقلت متعجباً:
إذن لماذا يقصدك الكثيرين رغم حداثة سنك ويتركون أصحاب الخبرة؟
فأجابني وهو يقوم بتركيب حدوة لحصان أحد التجار:
تعلم شيئاً يا زياد، كن صادقاً مع نفسك ومع الناس وكن صاحب أمانة ومنطق حسن ووجه بشوش، يحبك الناس ويفضلون التعامل معك وإن كنت صاحب خبرة أقل
ثم تابع وهو ينظر نحوي:
ولا تنس أنني تعلمت الكثير على يد والدنا
ثم تابع عمله
انتهى العمل مع غروب الشمس وانقطع قدوم الزبائن إلى الورشة ولكننا لم نرحل حتى حل الليل فقد كان أخي يقوم بإنهاء بعض أعماله التي يتوجب عليه تسليمها في صباح الغد
ثم عدنا إلى البيت بعد انتهائه منها
انقضت الأيام تباعاً ونحن على نفس الوتيرة حتى مرت ثمانية أعوام لزمت فيها أخي ليلاً ونهاراً وتعلمت على يديه كل ما يخص تلك الحرفة وخلال تلك السنوات لم ينقطع أخي عن زيارة والدنا بين الحين والآخر ولكنها كانت زيارات عن بعد لمعرفة أحواله والإطمئنان عليه
أنت تقرأ
{ملك الذئاب}
Fantasyفي رحلته للأخذ بثأره يفاجأ بأمر سيقلب موازين حياته رأساً على عقب ويعرضه للموت أكثر من مرة فكيف سيواجه هذا الأمر؟ وهل سيصمد أمامه أم لا؟ كل هذا سنعرفه في روايتنا { ملك الذئاب } گ/ وفاء عبدالهادي أحمد🥰