انتهت الحرب التي كان ينتظرها الجميع، بمن فيهم عشائر مافيا كبرى من بلاد أخرى، ظنًا منهم أنه وبحصول كريستوفر، زعيم الكوبرا، على انتقامه لموت زوجته قبل اثني عشر عامًا، سيتفرّغ لقلبه ليحب من جديد، ليبدأ المزاد عنده على ورثة العشائر من الإناث بعروض الزواج من أهاليها -زواج مصالح بالطبع- لكنه كان يرفضهم جميعًا ويهدد بالانقلاب ضدّ كل من يحاول مجددًا، حتى هدأ الوضع، فقد أدركوا أنه وجد من يريد، وها هم ينتظرون الإعلان عنها. أما بالنسبة لتدمير نظام الدولة التي خسرت قوة تحميها كالياكوزا بعد تعاقدهم القديم، فقد اكتفى بتهديدهم أن من يتدخل في شؤونه مجددًا لن يرى النور مجددًا.
كان كريستوفر منغمسًا بمكتبه يراجع أرباحه من صفقاته الأخيرة رفقة آندرو، حتى دخل فيكتور عليهما متنهدًا فسأله الأقوى دون أن يرفع نظره عمّا بين يديه:
"ما خطبك الآن؟!"
جلس قبالته واضعًا قدم على قدم مرخيًا رأسه للخلف قائلًا:
"ألن تتوقف عن خلق المشاكل لنا؟ رغم تصريحاتك أنك وجدت شريكة حياتك الجديدة، لكن بعض الحركات بدأت تتجسس علينا في محاولة لمعرفة هويتها، ولا أظنهم ينوون على خير"
لم يجذبه الأمر بل تابع عمله قائلًا:
"نوريس تعرف جيدًا كيف تحمي نفسها"
نظر الاثنان له بدهشة بعض الوقت فانتبه لهما ليسأل:
"ما خطبكما الآن؟!"
ضحك آندرو ساخرًا وقال:
"ومتى أعلنت أنها نوريس؟!"
قطب الأقوى حاجبيه بعد فهم حتى أدرك ما قال أخيرًا فأجاب معيدًا نظره للأوراق بين يديه:
"ولم أخفي الأمر؟ أهناك غيرها؟!"
قهقه الاثنان بشدة فسأل فيكتور:
"ولم لم تعلن عن الأمر بعد بما أنك تثق بقوتها وأنها لن تهاب التهديدات التي ستأتي إليها؟!"
تنهد كريستوفر واضعًا الأوراق من يديه على المكتب وقال:
"لم أحصل على إجابتها بعد، فكيف سأعلن عن الأمر هكذا فقط؟!"
فكّر آندرو قليلًا وقال:
"لم لا تحصل عليها إذًا؟!"
نظر الإثنان له باستغراب فتابع:
"أفضل طريقة هي السؤال المباشر، لا تلف ولا تدور، فقد تتظاهر بالغباء لو أحرجت وفهمت المقصد"
رماه كريستوفر بالملف أمامه وقال:
"أخرج من هنا ولا تسمعني صوتك، ستقحمني بمشاكل أنا بغنىً عنها"
تعجب الآخر قوله وسأل صارخًا:
"ها؟ ولم أقحمك بالمشاكل؟ أليست مشاعرك واضحة تجاهها وابنك؟ فما العيب بالبوح بما بقلبك؟ إن وافقت فقد نلت، وإن رفضت فلم تخسر شيئًا وأرحت قلبك وعقلك من التفكير والتخبط"
قلّب كريستوفر عينيه بملل وخرج من هناك تاركًا الإثنين وحدهما ليقوم فيكتور:
"أحسنت، دمّرت الأمر."
خروج كريستوفر من هناك ما كان إلا ليفكر بالأمر وكيفية فعله دون إحراج لذاته أو نوريس التي لم يتأكد من مشاعرها بعد.
التقى بدارون الذي يتجول في المكان وحده ليناديه. أسرع الصغير له وقال:
"أبي، لم أرك من أيام. لم يكن هذا الوعد الذي قطعته لي بعد انتقامك"
ابتسم كريستوفر له مربّتًا على رأسه بلطف وقال:
"أتريد أن تعرف ما الذي يشغلني؟!"
أومأ دارون متحمسًا فنظر كريستوفر حوله وقال بهمس مقرّبًا رأسه منه:
"اتبعني، لا يمكنني الحديث هنا"
أخبره كريستوفر بحقيقة مشاعره لنوريس وأنه نوى فعلها في البداية من أجل دارون فقط، لكنه الآن يثق أن هذا ما عاد يخص دارون.
ضحك دارون بسعادة وقال:
"لم لا تفعلها إذًا؟!"
تنهد كريستوفر بثقل وسأل:
"هل سمحت لنوريس حقًا أن تقرأ مذكرات والدتك؟!"
أومأ دارون مؤكدًا وأجاب:
"أجل، وقد فعلت هذا، فقد رأيت المذكرة جوارها ذات مرة."
"انسى الأمر إذًا"
قطب الأصغر حاجبيه بعدم فهم وسأل:
"لم؟"
تنهّد الأكبر مجددًا وقال:
"والدتك ذكرت سبب معاداة المافيا لزواجنا أن أصلها لا يمد لنا بصلة، ونوريس ليست بشخص قد لا يفكر بأمنك وأمني"
فأجابه دارون ببراءة:
"أخبرها أن هذا كان رأي والدتي فقط ولم يكن له أساس من الصحة"
"وأكذب عليها؟!"
صمت دارون بعض الوقت ثم قال:
"ألم يكن والدها على علاقة بمصنع الأسلحة سابقًا؟!"
أومأ كريستوفر مؤيدًا قتابع:
"ألا يمكنها أخذ هذا كحجة؟!"
قكر كريستوفر بعض الوقت وقال:
"كلا، لكني لن استسلم هنا"
صفّق دارون بحماس ليقف كريستوفر من مكانه متجهًا لها.
وجدها على وشك بدء تدربها الإنفرادي في الباحة الخلفية للمقر فناداها:
"نوريس"
التفتت له متعجبة وسألت:
"كريستوفر؟ ما الذي تفعله هنا؟!"
دنا منها وقال:
"هنالك ما عليّ إخبارك به، ولا أريد منك أن تفسّري الأمر بطريقة خاطئة .."
قطبت حاجبيها بتعجب معيدة سلاحها لمكانه على خاصرتها وسألت بقلق:
"ما الأمر؟"
تنهد الآخر متوترًا فجأة وقال:
"ما عدت أعرف كيف أجمع ستات نفسي او كلماتي، لكني واثق تمام الثقة من مشاعري وأفكاري، ما كان ليهيأ لي يومًا أنني سأفتح قلبي مجددًا ليحب أحدهم أبدًا، لكنك طوال الوقت، كنتِ أنتِ. لسبب أو لآخر، لم أتمكن من ابعادك عني أو جعلك تقتريبن أكثر من اللازم لحمايتك. يوم طردتك ما كان إلا لأني رأيت الخطر المحدق بكِ، ولم أنوي أن تكون نهايتكِ كما حدث بالسابق. لا أريد إحراجك أو إجبارك، الأمر كله عائد لك، لكن ما أعرفه وأوقنه تمامًا، هو مشاعري تجاهك التي حاولت ردعها وتجاهلها، لكنها وصلت مبتغاها وسيطرت على كياني، أردت الحصول على انتقامي لأهدئ لهيب قلبي وأعطيه لكِ بالكامل، وأعهد لك به للأبد، فهل تقبلين أن تتوجي ملكة عرشه؟!"
الأخرى مدهوشة بالكامل من قوله، عقد لسانها وما عادت قادرة على النطق فقال:
"لن أرغمك على قبول مشاعري وأنتِ حرة بما تفعلين، لكني أردت اراحة نفسي .."
"أأنت جاد؟!"
كان جلّ ما استطاعت البووح به بوجهها المحمر فسألها متعجبًا:
"ماذا؟!"
نفت برأسها عدة مرات وقالت:
"مهلًا لحظة، دعني أرتب شتات نفسي"
ضحك متعجبًا من سخافتها لتحدق به بهدوء ثم قالت بابستامة عريضة:
"لا أعلم كيف أقول هذا، لكن ضربات قلبي تشوش علي سماع أفكاري، جلّ ما أسمعه هو كلمة أجل"
حملها يدور بها عدة مرات يحدّق بعينيها ثم ضمها له قائلًا:
"أحبك"
ابتعدت عنه وقالت:
"حتى أنا، لكن .."
علامات الحزن باتت ظاهرة على محياها فال مقرّبًا رأسه منها:
"لا تفكري في ما كتبته رين في مذكّرتها"
نظرت له باندهاش وقالت:
"كيف عرفت؟!"
ابتسم باتساع وقال:
"لدي أساليبي. وأساليب أخرى تتضمن إخراس كل معترض"
ابتسمت باتساع محتضنةً إياه ففعل المثل لتهمس:
"أعدك أنني سأصون قلبك ودارون حتى النهاية"
أعلن كريستوفر خبر زواجه من نوريس، والتي بسرعة البرق انتشرت الأخبار حول حقيقة أصلها، فما كان من باقي العشائر إلا استغلال الفرصة لإظهار اعتراضهم وتهديداتهم لتدمير الزواج وعرض عروضهم لتزويج بناتهم من رئيس الكوبرا، ولم تبؤ هذه المحاولات إلا بالفشل الذريع والضرر لأصحابها، فقد أباد كريستوفر بعضهم عن بكرة أبيهم.
{بعد سنوات}
كانوا عائدين من مهمة خطرة تهدّد النظام الجديد للدولة يحملون كريستوفر المغطى بدمائه والذي اعتداوا عليه أن يخاطر بحياته ويضحي بها في سبيل إنقاذ رجاله. طوال هذه الفترة، اعتمد كريستوفر على معرفة نوريس في تضميد الإصابات التي يتعرض لها ورجاله، لكنها لا تفقه شيئًا بما هو أخطر، وفي بعض الحالات التي استعصت عليها، أحضر رجل موثوق للمساندة، لكنه اغتيل قبل فترة، فما كان من الأصغر، إلّا إحضار طبيب ماهر من مشفى المدينة تحت التهديد وتوريطه معهم في سبيل إنقاذ والده.
دخلها وبعض الرجال خلفه يصرخ بالأطباء:
"فليأتني أمهركم وليسلمني نفسه فورًا وإلا قضيت على كل ما بالمشفى"
تراجع المرضى والزوار بعيدًا عنه حتى اقترب منه أحد الأطباء في محاولة لتهدئته:
"سيدي اهدأ أرجوك، أحضر المريض ولن نقصّر في إنقاذ حياته، لكن ما تفعله مخالف للقانون .."
صرخ به دارون فاقد لأعصابه لا يفكر إلا بسلامة والده:
"لا تملي عليّ ما أفعل ولتنفذ ما أطلبه منك لسلامة الجميع"
اقتربت منه طبيبة بحذر بعد أن أدركت الوشم على ذراعه وقالت:
"سيدي الشاب أرجوك أهدأ، أنا رئيسة الأطباء هنا و.."
"أتمازحينني؟!"
"كلا، لا تحكم عليّ من سني، لكني فعلًا لا أستطيع ترك مرضاي هنا و…"
لكنه قام بجرها بقوة آخذًا إياها تحت التهديد لمقر الكوبرا.
كان يوجه لرأسها السلاح طوال الطريق فلم تنبس ببنت شفة حتى وصلوا المنشود. أمرها بالترجل ففعلت ليقودها للغرفة التي يقبع بها والده.
دخلت لتجد امرأة أخرى تحاول ايقاف نزيفه فأسرعت دون قول شيء لإبعادها:
"دعي هذه علي، ارتاحي .."
تراجعت نوريس للوراء عدة خطوات وراحت تراقبها بصمت. اقترب دارون منها فسألته:
"من تكون؟!"
تنهد دارون معيدًا سلاحه مكانه وأجاب:
"أمهر طبيبة بالمدينة، حسب أقوالها"
"أنت لم تحضرها تحت التهديد صحيح؟!"
أشاح بنظره بعيدًا يعبس بلطف فقالت موبخة:
"دارون، منذ متى وانت تقوم بهذا؟! حتى وإن كنت مافيا هي طبيبة لديها التزاماتها مع مرضاها"
"وأترك والدي يموت؟!"
تنهدت نوريس بثقل تجره لتجلسه جوارها على الأريكة وقال:
"أعلم أن وضعنا صعب دون طبيب بين صفوفنا، وهؤلاء الأطباء ليسوا مرغمين على مساندتنا، خصوصًا أننا خارجين عن القانون ولا نتبع قانون دولتهم الذي يعملون تحته، عدني ألا تفعل هذا مرة أخرى وأعدك أن نتدبر هذا الأمر سريعًا قبل أن يتكرر"
نظر لعينيها مباشرة وقال:
"حسنًا، أعدك أمّي"
ربّتت برضا على رأسه لتقترب منهم الفتاة وتقول:
"تخطى مرحلة الخطر، الفضل لجهودك سيدتي في وقف النزيف مبكرًا"
وقفت نوريس وانحنت لها تقول:
"الشكر لكِ آنستي، لن أنسى لك هذا. واعذرني ابني المغفل على طريقته في إحضارك لهنا، لكن قلقه على والده شوّش تفكيره .."
وقف دارون وانحنى لها هو الآخر معتذرًا، فابتسمت بهدوء وقالت:
"لا عليك"
مستأذنة منهما، نوت العودة للمشفى، لكنه استوقفها بقوله:
"أريد منكِ البقاء هنا لرعايته حتى يتحسن، سأدفع لكِ أضعافًا مضاعفة مما يتم دفعه لك .."
رمشت والكبرى عدة مرات غير مصدقتين قوله فقالت نوريس:
"دارون! أخبرتك للتو أن لها التزاماتها في المشفى .."
"لكن والدي .. "
"والمرضى هناك أبناء وآباء، لا يمكنك أن تفعل هذا .."
"رغم ذلك، هناك أطباء غيرها يهتمون بهم، من سيهتم لوالدي؟!"
أغمضت نوريس عينيها بتعب وقالت متنهدة:
"أنت بعيد كل البعد عن أن تسير على خطى والدك. أعلم أنك تكن له الكثير من المشاعر والإحترام وتريد حمايته كما فعل طوال الوقت، لكنها شخص يساند الضعفاء في محنهم، وهناك من يحتاجها حقًا، والدك الآن بخير .. "
تجاهل دارون كلامها وسأل الفتاة:
"ما رأيك بالعرض؟!"
"دارون؟!"
تنهدت الفتاة بثقل وقالت:
"كما ذكرت والدتك، أنا لا أنتمي لهنا .. "
طلب دارون رقم المشفى فورًا وهددهم بإيجاد بديل عنها ليتما يتحسن والده لتبقى هي هنا.
كانت نوريس على وشك صفعه لولا تداركها للأمر بسرعة فقالت:
"أنت لا تصدق، كيف تفعل هذا؟!"
فأجابها لحزم:
"أي شيء من أجل والدي"
خارجًا من هناك دون سماع ما تود قوله أو إضافة شيء آخر.
اعتذرت نوريس من الآنسة وقالت:
"أنا حتمًا لا أعلم ما الذي جرى له فهذه ليست المرة الأولى على أية حال، أرجوكِ ابقي هنا بعض الوقت وأعدك انني سأحررك بمجرد أن يستيقظ زوجي .."
تنهدت الفتاة بثقل وأومأت فمدت نوريس لها يدها وقالت:
"أنا نوريس، تشرفت بلقائك آنسة .. "
"آيسل، تشرفت لقائك سيدتي"
تبادلها المصافحة مبتسمة.
مرّ أسبوع كامل حتى استيقظ كريستوفر، تطورت خلاله علاقة الشابين بشكل ملحوظ رغم قصر المدة، لتنادي نوريس آيسل التي جلست بالساحة تفكر بهدوء.
حضرت الفتاة، وبمجرد وقوفها أمام كريستوفر ومحاولتها الإقتراب منه لفحصه انتفض مبتعدًا عنها متسئلًا:
"من أنتِ؟!"
ابتسمت له محاولةً طمأنته وأجابت:
"آيسل، طبيبتك الحالية تحت طلب ابنك وزوجتك .. "
أومأ متفهمًا رغم أنه لا يزال منزعجًا من أمرٍ ما ينوي التأكد منه أولًا.
مرّ شهر آخر، تعافى خلاله كريستوفر كلّيًا، وحان وقت رحيل الطبيبة للعودة لعملها المنتظم في المشفى.
وقفت أمام نوريس وكريستوفر مع حقائبها تنوي توديعهم جوارها دارون الذي نوى توصيلها لتقول بابتسامة:
"تشرفت بمعرفتكم، نادوني بأي وقت تحتاجونه، أتمنى أن تبقوا بصحة جيدة .. "
فقالت نوريس ممازحة:
"ماذا؟! ألا تنوين العودة لهنا؟!"
نفت الصغرى برأسها ويديها بإحراج وقالت:
"ليس هذا ما قصدته أنا .. "
ضحكت نوريس وقالت لها تحاول تهدئتها:
"لا عليكِ، أمازحك"
لكن كريستوفر عاملها ببرود كالمعتاد حتى قال دارون فجأة:
"لكن يا أبي، لأصدقك القول، أنوي التقدم لها .. "
نظرت آيسل له باندهاش محرجة فسألها كريستوفر سؤالًا غريبًا:
"ما هو اسمك الكامل؟!"
نظرت له والاثنان الآخران باستغراب لتجيب:
"بوربون، بوربون أيسل"
نظرت نوريس لكريستوفر بصدمة فتابع:
"إلياس؟!"
فكّرت الفتاة بعض الشيء ثم أجابت:
"أظن أن أمي أخبرتني ذات مرة أن هذا هو اسم والدي، لكني لم ألتقه بحياتي قط"
حدّق الثلاثة بها بتعابير مبهمة مصعوقة دون النطق بحرف واحد.
غادرت رفقة دارون الذي تدارك الموقف بسرعة واستأذن لإيصالها. لم تجرؤ على سؤاله أي سؤال قد يزعجه طوال الطريق بذلك الخصوص، فلا تعلم طباعه وما قد يفعل.
ظلّ دارون على تواصل معها حتى نوى فتح الموضوع مجددًا مع والده.
"بالطبع لا، هذه العلاقة مرفوضة رفضًا قاطعًا"
"على الأقل أخبرني الأسباب"
"ليس هنالك سبب محدد، فقط نفّذ ما أقول .. "
"ألم تكن أنت من حاربت العالم من أجل أمي البيولوجية ونوريس؟"
أغمض كريستوفر عينيه متنهدًا وقال محاولًا السيطرة على أعصابه:
"سأتنازل لك عن كل شيء ولتفعل ما تشاء، لكن لا يمكنك الإرتباط بهذه الفتاة تحديدًا، جد غيرها"
لم يجبه دارون بحرف بل خرج من هناك غاضبًا مشوشًا دون إدراك لما يفكر فيه والده.
التقت نوريس به ونادته عدة مرات محاولة إيقافه والحديث معه دون جدوى، فأسرعت متجهة لكريستوفر بعد أن خمنت سبب انزعاج الأصغر.
"لم تفعل هذا؟!"
"لا أستطيع إخبارها بالحقيقة، لا أريد جرحهما"
"لكنك تفعل بأسلوب رفضك هذا .. "
جلس الأقوى على كرسيٍّ متموضع جواره يضم رأسه بين كفيه يفكر في الذي يحصل. اقتربت نوريس منه واضعة يدها على ظهره تقول:
"أترك القرار لهما، فليفعلا ما يجدانه مناسبًا، هذه حياتهما هما .. "
في ذلك الوقت، كان دارون خارجًا لمهمة تحت أوامر والده التي قد أُمِرَ بها مسبقًا، لكنه فقد تركيزه بسبب تشوش أفكاره عن حقيقة ما يقف خلف رفض والده، لتفشل مهمته بالكامل حتى كاد ينجح العدو بالتخلص منه لولا تدارك آندرو الذي يرافقه للأمر.
بما أن العقد قائم بينهم وبين آيسل، اتصل آندرو من فوره عليها طالبًا حضورها بسرعة للمقر بينما ينقل دارون له تحت حماية بقية الرجال.
علم كريستوفر بما حصل فأسرع له يطمئن عليه بعد أن أدرك حقيقة ما حصل.
قامت الفتاة بواجبها، لكن كريستوفر لا يزال رافضًا الحديث معها رغم محاولاتها لإصلاح الأمور من أجل دارون دون جدوى.
شعرت بالملل من تصرفات الأكبر الذي يبقيها وابنه تحت المراقبة طوال الوقت. دارون رفض الحديث مع والده بهذا الشأن مجددًا لأنه مدرك لرفض الآخر للاستماع إليه، فما كان منها إلا الذهاب والحديث معه بنفسها.
اقتحمت قاعة الإجتماعات حيث يقبع الآخر، نوريس، فيكتور وآندرو، فطلب من الجميع الخروج ليبقى رفقتها.
"لم تعاملني بهذه الطريقة؟ ما خطب كل هذه المراقبة؟! ليس وكأنني سأخون قاعدتك وأفجرها، أم أن هذا بسبب علاقتي بابنك؟!"
قالتها مع علو نبرتها في كل كلمة اضافية تنطق بها حتى أجابها:
"الأمر كله بسبب والدك .. "
قطبت حاجبيها بعدم فهم وسألته:
"ماذا تقصد؟!"
روى لها كلّ ما يعرفه عن إلياس، لكنه لا يعلم حقيقة وجودها وأمها، لتخبره بجانبها من القصة حتى اجتمعت جميع الحلقات الناقصة.
إلياس كان شخصًا ضعيفًا يخشى الارتباطات بسبب ماضيه وما جرى مع أمه، فقد اعتقد أنه لن يقوى على مواجهة الأمر مرة أخرى لو حصل للفتاة التي يحبها، وطوال الوقت، رفض الإقتراب منها رغم أنه لم يخفي مشاعره اتجاهها. حتى أنه فقد وعيه ذات مرة بسبب تجرعه للكحول بعد أن ضاق صدره من حاله واتجه لمنزلها فاعلًا فعلته. علم ما جرى حين عاد لوعيه وما كان منه إلا الهرب في سبيل حمايتها لأنه طوال الوقت نوى التورط مع المافيا والإنتقام لأهله.
أخبرها كريستوفر في النهاية حقيقة ما حصل لوالدها لتقف مصعوقة مما تسمع، أحبت ابن من لم يحمِ والدها.
غادرت المقر بهدوء عكس ما توقع الأكبر، ولم تنظر لوجه أحد أو تحادثهم، ليسرع دارون لوالده يسأله عمّا جرى، فأخبره بالأمر ثم طلب منه مجددًا نسيان أمرها فلا مجال لهذه العلاقة. يبدو أنه قد بدأ بإدراك ما يفكر به والده ومخاوفه.
مرّت عدة أيام على الحادثة، لم ينفذ بها دارون أية أوامر وكريستوفر راعى الأمر، حتى قررت نوريس التدخل وإنهاء هذه المسألة، مخبرةً كريستوفر أنها ستتوسط هذه المسألة طالبةً منه عدم التدخل.
اتجهت لغرفة دارون. طرقت الباب عدة طرقات فأذن لها بالدخول.
"أنت بخير؟!"
اعتدل الأصغر بجلسته مومئًا برأسه فقالت:
"لا أر هذا"
أخفض رأسه للأسفل وقال:
"أظنني سأمتثل لكلام والدي، هذا يبدو نسجًا من خيال، لكني أريد الإعتذار منها وتعويضها لتعليقها بي بهذه الطريقة رغم تحذيرات والدي"
اقتربت الكبرى منه تربت على ظهره بهدوء وقالت مبتسمة:
"ما رأيك أن تترك هذه المسألة علي؟ لا يمكنني رؤيتك محطمًا هكذا، سأتحدث معها حول الأمر وأحله، تمنى لي التوفيق"
احتضنها بهدوء وقال لها:
"أشكرك أمي"
ابتعدت عنه بعد لحظات وقالت:
"لا أكاد أصدق أن ابني اللطيف الصغير هذه هو وريث الكوبرا، أحب تناقضك"
ضحك معها سعيدًا بقولها فاستأذنته لتخرج في مهمتها.
حصلت على عنوان آيسل من دارون واتجهت لمنزلها بعد أن تأكدت من وجودها هناك.
تفاجأت آيسل من هذه الزيارة وأذنت لها بالدخول فورًا. جلست الإثنتان في الصالة لتقول نوريس بهدوء:
"منزلك لطيف، أتعيشين وحدك؟!"
أومأت الصغرى وقالت:
"أمي لا زالت تعيش في منزلنا القديم، أنا انتقلت هنا من أجل عملي، لكني أزورها بين الحين والآخر"
جلست نوريس قربها ممسكة كفّيها وقالت:
"قبل أن أقول لم أنا هنا وأخرج ما لدي من كلام، أخبريني بحقيقة مشاعرك اتجاه دارون .. "
احمرت وجنتي الأخرى وقالت:
"بصراحة، رغم أنني التقيت بالكثير من رجال المافيا في المشفى، لم يهيأ لي يومًا أنني سأقع بحب أحدهم، لكن لدارون شيء مختلف لا يملكه البقية .. "
أومأت نوريس كما لو أنها مدركة لكلام الصغرى بالفعل ثم قالت:
"أظنك على حق، سأخبرك. علمت من كريستوفر أنه أخبرك بحقيقة ما جرى في الماضي صحيح؟!"
أومأت آيسل بغصة واضحة فربّت نوريس على رأسها وتابعت:
"كما تعلمين، لست والدة دارون الحقيقية، والدته قتلت على يد رجال مافيا آخرين بعد ولادته بعامين. وانا انضمتت أساسًا لهم لسداد دين، حتى تطور الأمر ووصل إلى ما وصل إليه. لا شك في محاولة والدك قتلي، لكني أعلم أنها لم تكن نيته، وجلّ ما فكر به في تلك اللحظات، كان حماية الجميع. كريستوفر نادم على ما جرى، فهو لم يقوى على حمايته، وقبلها بساعات قليلة، كان قد فقد شخصًا عزيزًا، تمامًا كوالدك، صدمته وعجزه حتمًا لا يوصفان، ولا أخفيك قولًا، أنه لم يتخطى ذلك اليوم للآن. رغم تعلقه الشديد بوالدة دارون الحقيقية، إلا أنه تمكن من تخليص ذاته من شباك الألم بالانتقام، لكن في حالة والدك، كان الأمر أكثر منوطًا به وما كان بيد كريستوفر حيلة للانتقام أو حمايته. أنا مدركة أن هذا ليس بخطأك لتعيشي بلا أب، كما لم يكن ذنب دارون ليعيش دون أم، لكن القدر عوّضه بي، ولعلّه يعوضك والدك به، فهو لن يسمح بإيذائك أبدًا، ولا حتى كريستوفر الذي أظهر لك الكره حتى الآن، لكن صدقيني هو لا يفعل، لكنه نادم على ما جرى ولعجزه عن توقع ما يحيكه عدوه. نحن لن نتركك ووالدتك بعد الآن خصوصًا أننا علمنا بجودكما، فنحن مدينون لوالدك بالكثير، وأنا أصدقك قولًا ولا أنكر فضله على المافيا بكبرها، فكم من مرة أنقذ كل واحد منا وتحمّل تقلّب مزاجنا وكان الأكثر تحكمًا بذاته بيننا وقادنا في العديد من المرات. لربما ظننته شخصًا ضعيفًا هاربًا من مشاكله في البداية، وكل من حوله ظن هذا أيضًا، لكن لسبب ما، تمكنت من رؤية ما لديه من إمكانيات وساندته طوال الوقت كما وثق بي ومدّ لي يد العون. لن أطيل الحديث أكثر، جلّ ما أريد طلبه منكِ، أن تحفظي قلب دارون ولا تجرحيه، كلاكما يعرف معنى الفقد وبالطبع لا تنويان تجربته مرة أخرى. دارون لم يذنب، من حقك أن تغضبي من والده لو ما زلتِ تعتقدين أنه المذنب ولا ألومك لو لم تنوي إصلاح الأمور بينكما، لكن لا تفعلي هذا مع دارون. صدقيني، أنا لا أكن الحقد أو الكره لك أو لوالدك بعد ما جرى، صدمتنا بفقدانه كانت كصدمتك حين علمت ولربما أضعاف مضاعفة، ما جرى لا يمكننا نسيانه البتة، لكننا لا زلنا نحاول الإستمرار بالعيش، فالزمن لن ينتظرنا حتى نتخطى. أنا لا أخبرك أن تنسي الماضي ولا تفهميني بشكل خاطئ، لكني أريد منك أن تفكري بحاضرك ومستقبلك. اعلم أن هذا صعب عليكِ، لكني لا أريد لكِ أن تخسري حب حياتك أو دارون بسبب أخطاء والديكم. إلياس أخفى حقيقة والدتك عنا جميعًا، وأظنه ما كان يعلم بوجودك أبدًا، لكنه فعل ما فعل لحماية والدتك بالتأكيد، فأنا أكثر من يدرك تأثير وقع ما جرى له في طفولته عليه، فلو ترككما جواره، هو مدرك للعواقب. من حقك عيش حياتك على هواك وبقراراتكِ أنتِ وسأبقى داعمة لكِ ولدارون، فهو يعلم أنني أتيت للحديث معك بهذا الخصوص، وأجزم أنه متأمل عودتك معي لرؤيتك والحديث معكِ، لذا، أطلب منك خدمة بسيطة، أخبريه بما تفكرين وأريحي نفسه من كثر التفكير، رغم أنه لا عين لي لقول هذا، لكن فلتعطي اجابتك له، أنا لا أنت"
كانت آيسل تمسح دموعها طوال الوقت لكنها لم تشأ مقاطعة التي تتحدث، حتى حزمت أمرها وقالت:
"وأنا عقدت العزم، لنذهب"
أخذتها نوريس من فورها لدارون، حدّثته بكل ما يخالجها من أفكار ومشاعر، بينما تراقبها نوريس من بعيد دون سماع ما يدور من حديث، لتجده قد أحتضنها بسعادة فابتسمت.
انتقلت آيسل للعيش معهم تحت طلب دارون، لكنها لاحظت تجنّب كريستوفر لها طوال الوقت، حتى عندما يكون برفقة دارون، بمجرد رؤيتها، ينسحب فورًا، فعلمت أن هذا لربما سيكون أصعب مما تتخيل.
سئمت الحال المتكرر البائس، فهي قد عزمت قرارها على تخطي الماضي والمضي قدمًا، فما كان منها، إلّا الحديث مع كريستوفر.
اتجهت له رفقة دارون بعد ان طلبت من نوريس مساعدتها لأرغامه على البقاء في وجودها.
شعرت بضغط هائل حين قابلته بتلك التعابير التي تفسر والنظرة الثاقبة فلم تشعر إلا والكلمات تخرج منها بلا ترتيب:
"جلّ ما أريده منك، هو نسيان الماضي كما فعلت والتركيز على الحاضر والمستقبل والقبول بعلاقتي بدارون"
حدّق بها الأكبر بعض الوقت دون النطق بأي كلمة، فابتسمت نوريس بسرّها حتى ضجرت آيسل من صمته القاتل هذا وقالت بيأس:
"أعطني اجابتك على الأقل"
فقال ساخرصا من حالها:
"احترمي حماك على الأقل"
لم يستوعب احد قوله في البداية حتى قهقت نوريس بشدة ليقفز دارون على والده محتضنًا إياه متشكرًا.
°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°•°
انتهى🖤✨
أنت تقرأ
كوبرا | Copra
Açãoوضع حاجزًا مهولًا بينه وبين معنى الحياة منذ زمن طويل، لا يهوى أو يسعى إلا للانتقام. فهل سيكون هناك من يكسر هذا الجدار؟ أم سيبقى حبيس الماضي والذكريات؟