مشاركة من صديق #مجهول
منذ مدة، بدأنا نسمع عن حوادث نعتبرها غريبة عن مجتمعنا؛ رجل أو طفل يُخطَف ويتم طلب فدية مقابل حياته، أخ يقتل أخاه مقابل النقود، امرأة تُخطف ويتم اغتصابها وتصويرها، شاب وفتاة يهربان ليتزوجان، أب يقتل ابنه، شاب مُثقف يقتل نفسه… إلخ، وقد كان من السهل على كلٍّ منَّا أن يمسك بكل حادث على حدة، ويحلله ويصل في تحليلاته إلى ما شاء له الله.
فمِن قائل إنها تقاليد الغرب (الملعونة) التي أخذت تتسرب إلى مجتمعاتنا عبر المسلسلات وشاشات التلفزيون والسينما، ومِن قائل إنها الدخول في العصر الصناعي وضريبته المفروضة علينا، شئنا أم أبينا، ضريبة التقدم، ومِن قائل إنها حالات – والحمد لله – فردية نتيجة ظروف كل أسرة على حدة وكل تربية على حدة.
وكنتُ على مهلٍ، كأنما يجتر الجمل ما اختزنه داخل معدته من مواد، أحاول أن أهضم هذه الأفكار كلها، محاولًا أن أعثر لها على جواب، أو أدرك إذا كان أحد الأجوبة السابقة هو الشافي.
ولكني لم أستطع!
فلم يستطع أيٌّ من الأجوبة السابقة أن يشفي غليلي، ذلك أنه إذا كان الأمر أمر تربية فردية في ذلك البيت أو ذاك، فكثرة توالي الأحداث والبشاعة التي كانت تتم بها واللارحمة واللاهوادة وما يقرب من حالة فقدان الانتماء إلى الجنس البشري كل هذا يربطه خيط "عام"، خيط لا تستطيع إدراكه للوهلة الأولى ولا تستطيع إدراكه حتى بعد إعمال طويل للفكر والتأمل كما ذكرت، شيء خطير عميق دقيق لم نستطع أن نصل إليه كمفكرين أو أنتثربولوجيين أو علماء نفس.
وباجتهاد شخصي، بدأتُ أعرف هذه القصص والحوادث على حقيقتها وأستفهم وأغرق في الاستفهام، لألحظ أخيرًا، وأخيرًا جدًّا، خيوط الفجر التي بدأتْ تتبدَّى؛ فقد لاحظتُ أنّ هناك في تلك العائلات عاملًا مشتركًا واحدًا لا يتغير فيها جميعا، ذلك هو غياب الأب، أو بالأصح غياب الوليّ، أو على وجه أكثر دقة دور الأب في ارتكاب تلك الجرائم.
اكتشفت هذا رغم أن كل تلك الحوادث لم يكن الأب هو الخاطف أو القاتل أو المنتحر ولا العاشق، وهنا بدأتُ أتأمل المشكلة من زاوية جديدة تمامًا بل أحسستُ أني قد وضعت يدي على قلب المشكلة، الأب ليبي أو عربي بشكل عام.
فقد لاحظت أن في كل هذه الجرائم كان الابن بعيدًا عن أبيه، أو الزوجة بعيدة عن زوجها، فهو إما يعمل في إحدى البلاد العربية، غائب له سنين يلهث ليوفر للعائلة أكلها وملبسها ومنزلها، وهو إما في ليبيا مثلا، ولكنه يعمل في الصحراء أو في النهر الصناعي الجديد، أو على العموم بعيدا عن مقر الأسرة، فهذا الشاب المصري الذي أطلق عشرين طلقة على والديه كانت أمه مذيعة تعمل في قطر، وكان أبوه هناك، ونشأ الصبي وأصبح شابا، وهما بعيدان عنه تمامًا ولم يعودا إليه إلا بعد أن كبر ودخل كلية الطب، وانتهت تماما تلك الفترة التي يحتاج فيها الابن إلى أمه وأبيه فترة التكوين النفسي الأولى، فترة مثلها مثل لبن الأم، لا سبيل إلى تعويضه حتى بحنان العالم كله أو نقوده تتدفق من جيب الشاب بعد ما جاوز مرحلة الحضانة النفسية التي تشكل تكوينه الداخلي ونوازعه.
وهذه المرأة التي كان زوجها يعمل في الجزائر وقد ترك لها ثلاثة أولاد معلقين برقبتها، واستغاثت به أكثر من مرة لتلحقه هناك ويعيشون جميعا ولكنه رد عليها بقوله: "البيت لا يمكن تركه، وتكاليف المعيشة مرتفعة جدا"، وأنهم إذا جاءوا وعاشوا معه فلن يوفر مليمًا واحدًا، وكانت النتيجة أنه صحيح بنى لها منزلًا وكتبه باسمها، ولكنها هي بنفسها كانت قد ضاعت وتعرفت بسائق التاكسي الذي استولى عليها وعلى أولادها أيضًا.
هكذا سوف تجد خلف كل مأسأة من تلك المآسي (غياب) الأب هو السبب القوي المباشر، وهو ليس أبًا واحدًا، هناك أكثر من أب ليبي يعملون بالخارج أو في مناطق بعيدة وفي الدول العربية تاركين عائلاتهم في ليبيا، ولا يتركونها لفترة عام أو حتى بضعة أعوام، ولكن بالسنين الطويلة يفعلون.
إن الأب هو "البطل" في نظر أبنائه وبناته وزوجته، اختر أي طفل، فقيرًا كان أو غنيًّا، راضيًا عن أبيه أو ساخطًا واسأله: من يختار من بين كل الناس "بطلًا" يتبعه ويطيعه، وستجده يختار بالفطرة بطله: أباه، وفي ظل قيادته تحل كل المشكلات، وتنسجم كل المتناقضات ويخرس بجسمه كل الأصوات.
الأم تطعم، تحنّ وتعطف، ولكن الأب هو الذي يصنع المثل الأعلى ويقلده الابن دون أن يعرف أو يدري، ويرى فيه رمزًا لرجولته المقبلة وترى فيه البنت نموذجًا لما تحب أن يكون عليه عريسها ومن تحبه، أما الزوجة فحاجتها للأب لا تقل عن حاجة أولادها، بل حاجتها إلى الأب ملحة، حتى لو كان مريضًا أو عجوزًا أو بلا عمل، ومن هنا جاء المثل "خليك راجل ولا تخليك حيط" أو ذلك الذي تقوله الزوجة إذا مات زوجها : يا سبعي! فعلا، الأب هو السبع وهو الأسد وهو القادر وهو العمود.وإذا كانت الظروف الاقتصادية قد أجبرت كثيرًا من الآباء – ملايين الآباء – على ترك عائلاتهم والسفر إلى بلاد الله بحثا عن لقمة العيش، فإن ظروف بقية العالم العربي الغني فعلت بالأب ربما أكثر بكثير مما فعله الفقر ببعض الآباء.
فالمال إغراء قوي على مزيد من الربح والغنى، وقد انشغل الأب العربي الغني بتنمية ثروته وبالأسفار من أجل أعماله المترامية، شغله المال عن الأسرة، بل استعاض بالمال عن الأسرة، وأصبحت أسرته الحقيقية هي ودائعه في البنوك التي يطمئن على سعر فائدتها كل صباح، وقبل أن يتلفظ بكلمة مع أفراد أسرته الحقيقيين، وانشغل بأسعار الأسهم والمستندات عن أقرب الناس إليه، هو صحيح لم يغب في بلاد أخرى ليعمل، لكنه حاضر في بلده بين أهله وأسرته، ولكنه ذلك الحاضر الغائب، وما أبشع الأب حين يكون حاضرًا غائبًا، فعلى الأقل في حالة الغيبة، حجته معه كما يقولون، أما وهو حاضر وفي الوقت نفسه غائب فإن الوضع النفسي لأولاده وزوجته يكون أقسى وأمرّ.
وليس هذا الوضع مقصورا على ليبيا أو على بلادنا العربية، إنه وضع العالم الرأسمالي، وحتى الإشتراكي كله، فكثير من الأسر الأمريكية تعاني هروب الأب عقب الطفل الأول أو الثاني وحالات الطلاق والانفصال الجسدي أو الفعلي ما أكثرها، ومن المضحك أنك لا تجد أو نادرا ما تجد رجلا تزوج لمرة واحدة أو امرأة تزوجت رجلا واحدا. هناك حركة تبادل مواقع قائمة على قدم وساق بين الأزواج والزوجات والمطلقات والأرامل، حركة يدفع ثمنها، أول من يدفع: الأولاد، فتقريبًا ينشأ الأولاد بلا أسرة.
بين زوجة مشغولة بنفسها، وزوج مشغول بعمله، الأولاد متروكون للحاضنة أو المربية وللمدارس ولجليسات الأطفال، وهي كلها أشياء لا تعوض مثقال ذرة ربع معشار الأبوة والأمومة الحقيقية، ومن أجل هذا يهرب الأطفال مبكرًا من أسرهم في الثانية عشر أو الرابعة عشر وربما أقل بكثير، يهربون لأنهم يريدون (أسرة)، وإذا كانت أسرهم الحقيقية قد نبذتهم فإنهم يلجؤون إلى تكوين"أسرة" أو "عصابات" من الأولاد والبنات يكونون آباء وأمهات لبعضهم البعض.
وليس الأب الفعلي هو المشكلة في عالمنا العربي؛ ولكن رئيس الدولة هو بمثابة الأب، والرئيس في العمل يقوم مقام الأب، ولكن هذا كله لا يغني أبدا عن الأب الحقيقي إنما هي تعويضات وإسقاطات ومحاولات دائبة من شبابنا وشاباتنا للبحث عن هذا الشبح المفقود: الأب.وإذا كان معظمنا ساخطين على الحكومات ورؤساء الحكومات وشيوخ القبائل والكبار بشكل عام، فليس السبب كامنًا في هؤلاء بحد ذاتهم إنما السبب أننا نبحث فيهم عن أبائنا المفقودين، بحنانهم ورحمتهم، برأيهم السديد وحكمتهم، بهذا الشعور النبيل الجميل الذي يدفعك حين تحس بالمعزة والمحبة والمودة والإكبار لإنسان ما أن تقول له : ياه إنت زي بوي راه !
بالحب، بالحنان، بالحسم ساعة الحسم، بهدهدة الحنان حين نحتاج إلى الحنان، وتكشيرة العبوس المحب حين نحتاج إلى حب عبوس نبحث فيهم عن أبائنا المفقودين هؤلاء، فلا نجدهم فنزداد سخطًا عليهم، بينما سخطنا الأكبر ينصب على آبائنا الحقيقيين الذين تركونا بذورًا بلا سيقان وسيقانًا بلا أوراق، وأوراقًا وسيقانًا وبذورًا بلا ثمر، فكيف يعود لنا أبونا الغائب؟
كيف؟
ذلك هو السؤال.

أنت تقرأ
يتفكرو
Romanceإذ كان لك في القلب ذاكرة , سوف تجد لقياها هنا. إذا كان لك وجود في اللامكان, ذلك البعد اللامتناهي بين قلب يدق وعقل ينادي إذا فمكانك هنا. روائع ما يقال و يذكر بين القلب والعقل, الحديث المحتقن بين مشاعرك و ضميرك.... مكان ذلك الحديث هنا, بين صفحات كتابي...